قراءة نقدية وتقييمية وتقويمية لمكتوب البرّاق النذير الورّاق وتعرية مجمل الخطاب التسووي (3)

 


 

 

مزالق وغربة خطاب النخب في سُدَّة المرحلة الإنتقالية
قراءة نقدية وتقييمية وتقويمية لمكتوب البرّاق النذير الورّاق وتعرية مجمل الخطاب التسووي

الفاضل الهاشمي
٢٩ أغسطس ٢٠٢٢

الحلقة الثالثة

نحو غربلة سرديات البراق الموضوعية:

أولاً:
بالنسبة للبراق ليس هناك تطابق مصالح بين أحزاب قوي الحرية والتغيير والمكون العسكري الأمني وان قحت ومجلس الوزراء أعطوا المكون العسكري والامني ما يريده لأن هناك نظرية ومدرسة شراكة نموذجية حملوها حملا وطبّقوها. بالنسبة للبراق أن أمر الإختلافات داخل الكيانات التي حكمت لا يتعلق بمصالح مادية محدّدة وشركات عسكرية وأمنية خارج الميزانية وأن إبراهيم الشيخ، وزير الصناعة، زار بعض تلك المؤسسات ومدحها أمام الوسائط الاجتماعية وأن لا تثريب عليها. الأمر عند البراق موضوعة ذاتية وحزازات طفولية حيث يتعلق ب "أسباب ذاتية، وحزازات تاريخية وسياسية بينها (يقصد أحزاب وكيانات قحت) كتنظيمات سياسية أو مدنية أو مهنية. لذلك خفّضت "إعلاء الالتزام بوجهة الجماعة" ورفعت مصالح "الوجهة الخاصة بالكيانات المنضوية تحتها ..... وقبول المتحالف الآخر بحسناته وعيوبه، وتقديم الميل للتحالف على الميل عنه لأجل تحقيق الهدف من التحالف وليس ضعضعته بالتمترس خلف الأهداف الخاصة". لاحظ عدم دقّة عبارات غير موضوعية مثل حسنات وعيوب الحلفاء.

ثانياً:
تلمّس البراق بوضوح هشاشة وخواء مجموعة قحت الثوري حين كتب "لم تلتزم بعض هذه القوى بإعلان الحرية والتغيير بالشكل الكامل ولم تضعه كمرجعية أساسية للتفاوض، بل وضعت طموحات وتطلعات وقراءات شخصية محضة لما احتواه من التزامات، بتضخم عالٍ للذوات، وبإحساس عظيم أن لها وصاية على هذا الشعب العظيم وهي بالتالي تعلم ما لا يعلم".

ثالثاً:
أثار البراق وكثير من الناقدين تجربة الحكومة الانتقالية وكأنها موضوعة كفاءآت ومقدرات فنية فذة حول فنون "التفاوض" وكأنه مباراة في كرة القدم وقمار او إصطياد طرائد خلوية ، وليس حول ثوابت ومطالب ثورية ، لذلك كسب المكون العسكري. وهذا لعمري غفلة تناست فرضية إنتماء هؤلاء الوزراء فكرياً وأخلاقياً الي مشروع ثوري كان وما انفك ناضجاً منذ ديسمبر 2018 وحتى تاريخ هذه الكتابة في العام الرابع للثورة. للأسف قصّرت خطي تلك النخب مادياً و رمزياً وأخلاقياً وحق عليهم القول بالتخوين حتي يقدموا كتبهم واحداً بعد الآخر. السؤال النقدي المطروح هو ما هي كفاءة د. حمدوك ود. ابراهيم البدوي الثورية من إلتزام دقيق بمطالب الثورة قبل الكفاءة الإدارية والإقتصادية للثورة كونهما ركلاء توصيات لجنة قحت الاقتصادية التي تمثّل مطالب وأهداف الثورة وإعتصما بحبل ليبراليتهما الجديدة التي وصّي بها شتم هاوس؟!.

رابعاً:
رصد البراق ممارسات قوى الحرية والتغيير التي ظلّت تطرح وعود عبر الإعلام والوسائط ومنصة الإعتصام ثم تتراجع عنها على طاولات التفاوض وكان التنازل هو الموقف المسيطر في كثير من القضايا. من تلك الممارسات:
* أن بعض قيادات قوى الحرية والتغيير عقدت اجتماعات ثنائية مع عسكريين وكان يتم الاتفاق معهم على قضايا جوهرية حتى ولو كانت ضد رغبات حلفاء آخرين، أو ضد رغبات الشعب السوداني الثائر والمعتصم في محيط القيادة العامة للجيش في الخرطوم ومواقعه في المدن والولايات الأخرى ومنها (اجتماع منزل حجّار) حيث كان الحضور يمثل "طيفاً من الكتل ولم يكن لكتلة واحدة..... وقد وصل الحد أن طالب العسكريون بالتراجع عن مواكب 30 يونيو 2019 الأمر الذي رفضته أطراف من الحرية والتغيير لأسباب أولها أن هذا الأمر ليس بيدهم". واستمر أمر التفاوض مع المكون العسكري بحيث "غدا سيل الدماء وثبات المعتصمين يبدو وكأنه دعماً للموقف التفاوضي، وهذا ما جعل كل معاناة للناس ومقاومتهم خلال فترة التفاوض، وكأنها تصب في خانة تدعيم موقف قوى الحرية والتغيير في حال صعوده وهبوطه وتبايناته، ولم تكن بوصلة القرار السياسي الالتزام بما طمح إليه المعتصمون". هذا المقتطف مثابرة جادة للبراق كشفت أهم عورات مجموعة قحت الحاكمة الأخلاقية، ليته أضاف لهؤلاء الخطائين مجلس الوزراء ونفسه ثم الشق المدني من مجلس السيادة.
أواصل اقتباس البراق.... "رغم حدوث المجزرة (3 يونيو 2019) حدثت كثير من التدخلات والمبادرات، وكان المحتوى المطروح معقوداً بمنطق المجتمع الإقليمي والدولي الذي تم فرضه على قوى الحرية والتغيير". التساؤل المشروع هنا هو لماذا إنحنت قحت ومجلس وزراء حمدوك لمطالب ومصالح المجتمع الأقليمي والدولي التي تتعارض مع مطالب ومصالح الثوار و السيادة الوطنية؟!. يواصل البراق: "ورغماً عن ذلك كانت قوى الحرية والتغيير ترى في المكون العسكري شريكاً محتملاً بذات شخوصه التي وعدت بحماية الشعب وفشلت... لم تواجه الحرية والتغيير الشعب السوداني بوضوح بما يجري خلف الأبواب، وكانت بعض الأطراف تتحدث بلسانين من أجل الوصول لصيغة اتفاق، وذلك مردَّه وقوعها تحت الضغط ما بين محاولات الإيفاء بمطلوبات الشارع من جانب، وضغط المجتمع الإقليمي والدولي من جانب آخر، وشح النفوس من جانب ثالث". توقّفت عند عبارة "شح نفوس" مجموعة قحت، كون الشحيح هو البخيل وتعجّبت لماذا يخفي البراق حقيقة أن الشحيح هو من يحاول مراكمة رأسماله المادي والرمزي، ونتوقّع أن يعود لنا الجميع ،بما فيهم الكاتب ومجلس وزرائه، بنقدٍ شافٍ كافٍ يبعدنا من مغبة التخوين وشح النفوس الناقدة وخائنة الأنفس والأعين حول ماهي تلك الرساميل المادية والمعنوية التي تجاهلت مطالب ثورة رفعتهم الي برج تلك المناصب العاجي العتيد.
دعنا نواصل الإقتباس. وبتخبطها وأجندتها المريبة "ساهمت قوى الحرية والتغيير في تفكيك بنية الاعتصام وتماسكه استجابة لرغبات العسكريين، ونشرت خريطة (15 مايو 2019) تضع حدوداً للاعتصام وفق اتفاق مع العسكريين، كما نشرت بيانات وتقدمت بأفعال وأقوال ساعدت العسكريين على التبرير لفض الاعتصام بوصف أن بعض أطرافه خارج "الحدود المعلنة"، وقد أشار بعض الثوار في وقتها إلى أن الخريطة غير واضحة، ما يبين أن مسألة وضع حدود للاعتصام لم يكن توجيهاً مقنعاً لثوار دخلوا محيط القيادة في السادس من أبريل وحسبوا أن هذه الأرض كلها لهم وبلا حدود، وأنهم تحت حماية مشتركة بينهم والجيش والقيادة السياسية".
يواصل البراق سرده الواقعي... "ورغم ذلك كانت قيادات الحرية والتغيير تخرج في المنابر الإعلامية وتجرِّم العسكريين، ولم تعترف بخطأ الانسياق لمآربهم، ونتيجة ذلك كانت العودة مجدداً للتفاوض بشروط ظُن أنها ترجح موازين القوى لصالح الحرية والتغيير".
رغم مجزرة الثالث من يونيو ومواكب الثلاثين من يونيو 2019 التي كانت "مؤيدة للحكم المدني الكامل ورافضة لسيطرة العسكريين على السلطة ومطالبة بالعدالة لشهداء فض الاعتصام، رغم ذلك "ذهبت قوى الحرية والتغيير مجدداً للتفاوض وأعادت نفس الممارسات التي تمت ما قبل الثالث من يونيو وسارت على ذات النهج في التنازلات الضارة". في ظني أن قحت تواصل ذات المنهج الخؤون حتي تاريخ هذه الكتابة.

خامساً:
أصاب النذير البراق مرة أخرى حين سجل نقداً موضوعياً محدداً الي قحت ، وهنا لا بد من الاقتباس المطوّل لضرورته التاريخية وكونه لا يحتاج مني الي تعليق ، حيث كتب أن قحت بدأت "التفاوض - بعد مواكب 30 يونيو 2019- وبدأت في تقديم التنازلات للمكون العسكري، وشهدت المفاوضات هذه المرة على تصاعد خلافاتها، وحتى توقيع الاتفاق السياسي- الذي شهد لاحقاً نكوصاً مريعاً عن بعض بنوده المتفق عليها ذاتها- (17 يوليو 2019) حوصر باتهامات متبادلة حول تفويض ممثل الحرية والتغيير للتوقيع، وهو اتهام لم يتم تفنيده/توضيحه/إثباته من أي جهة. هذه الخلافات هي ما استثمره العسكريون في كل لحظة وسانحة لتفتيت وحدة الحرية والتغيير ولدفعها للتراجع عن المطالب الرئيسية للشارع وهي:
أ‌- تمثيل عسكري محدود ليس بالنسب ولكن بالأرقام الواضحة المحددة في مجلس سيادي شرفي.
ب‌- نادت أصوات وقيادات في الحرية والتغيير بألا تكون القيادات العسكرية التي تفاوض من ضمن مجلس السيادة، وعلى أن يكون شرفياً ليس اسماً ولكن في مهامه الموضحة والمحددة بدقة، ولم يتم الاستماع لها أو إقناعها. أضيف: لن يقبل الثوار نقداً شافياً دون تسمية هذه الأصوات والقيادات بدقة ضمن النقد والغسيل الحارق كحُرقة قلوب أمهات الشهداء.
ت‌- سلطة مدنية كاملة في الجهاز التنفيذي على أن تكون من كفاءات مستقلة ولرئيس الوزراء كامل الحرية في اختيار الشخصيات المؤهلة لذلك، الأمر الذي تم الالتفاف عليه بتوازنات سياسية وضحت في دخول حزبيين لمجلس الوزراء وفي مشاركة العسكر.

سادساً:
أزعم هنا أيضاً أن البراق قد أفلح في طرح نقد آخر وافٍ وكافٍ حيث وثّق لتدخل "قوى الحرية والتغيير في اختيارات رئيس الوزراء لمجلسه وذلك بالاتفاق فيما بينهم تواطئاً أو فعلاً، للضغط عليه ليقبل بالقوائم التي وضعتها اللجان المختصة بعد الجرح والتعديل، وتم الدفع بكوادر حزبية معروفة بوصفها كفاءات مستقلة وبعضها لم يكن كذلك وبعضها لا تتناسب قدراته والوزارة المرشح لها، وهنا يجب الاعتراف أنه وبالرغم من ذلك، كانت الحرب الباردة مستعرة فيما بين قوى الحرية والتغيير وبضرب تحت الأحزمة وباستخدام الإعلام والأخبار المصممة لذلك، وكان ضحايا هذه الحرب الوزراء الذين تم تعيينهم في الحكومة الأولى بجميع انتماءاتهم أو حتى المستقلين منهم، وقد شاركت أطراف من قوى الحرية والتغيير في هذه الحملات بصورة منفردة مرات، وثنائية أو ثلاثية في مرات أخرى حسب الأهواء والمصالح، ما أسهم في التشويش على عمل الوزراء وساعد في وضع العراقيل على طريق عملهم، وكان يستخدم في ذلك الإعلام وتدبيج الاتهامات والمحاصرة بالإشاعات، ما عزَّز تشويه صورتهم وأثَّر في أدائهم؛ وقد عجزت الحرية والتغيير بصفتها الحاضنة السياسية عن تقديم أي دعم لهم، حدث ذلك رغم أن هذا العمل كانت تساعد فيه وتوري ناره جهات أخرى منها النظام البائد والعسكريين أنفسهم." رفعت الأقلام حول هذه الإفادة وجفّت الصحف لولا توقعت من البراق أن يقر بعد عبارة تدخّل "قوى الحرية والتغيير في اختيارات رئيس الوزراء لمجلسه وذلك بالاتفاق فيما بينهم تواطئاً أو فعلاً، للضغط عليه ليقبل بالقوائم التي وضعتها اللجان المختصة" ، توقعت منه أن يوضّح أن هذا التواطؤ بين زمرة قحت قد قابله تواطؤ من رئيس مجلس الوزراء وربما مستشاريه الذين قبلوا بهذا التواطؤ ، شفت كيف؟.

سابعاً:
يورد البراق هذه النقطة الوجيهة التالية دون أن يوضح وينتقد دور مجلس الوزراء وحمدوك نفسه الذي مهّد لها واخترعها مفهومياً وعملياً: "لم تلتزم قوى الحرية والتغيير بقيام المجلس التشريعي المحدد في الوثيقة الدستورية (90 يوماً بعد التوقيع على الوثيقة الدستورية)..... ويكتب أن بعض قيادات الحرية والتغيير "عزت ذلك التأخير لمجريات اتفاق جوبا للسلام ومطالبة المفاوضين بإرجاء تشكيل المجلس حتى تضمن حصتها فيه؛ أما الاتهام الرئيسي الذي راج كسبب منطقي هو الرغبة في استمرار الحال على ما هو عليه، وعزز ذلك الاتهام أن نفراً من قيادات الحرية والتغيير كانوا يقومون بهذه المهمة (دور المجلس التشريعي) ويتواصلون ويجتمعون مع السلطة التنفيذية والمجلس السيادي ويشاركون في صنع القرارات، وبالتالي ربما ما عاد من مصلحة بعض الأطراف قيام ذلك المجلس، كما أن هناك اتهامات أخرى من ضمنها الهرولة نحو نيل نصيب الأسد في المجلس التشريعي وعرقلة آخرين عن نيل هذا النصيب أو النصيب العادل، فكانت الصراعات سبباً آخراً في تعطيل قيام المجلس، مع التخوُّف المستمر من أن يكون هذا المجلس رقيباً حقيقياً يصعب تفادي رقابته، خاصة مع المطالبة المستمرة بدخول أطراف أخرى فيه كحق مستحق (مثال لذلك ممثلون للجان المقاومة وأحزاب ومكونات ثورية خارج الحرية والتغيير وأفراد غير منتمين حزبياً)" انتهي الاقتباس المناسب المستحق.

ثامناً:
مرة أخري أفلح البراق فى وضع مبضعه علي جرح قحت المتقيّح وهوانها وخِستها في المحاصصات الحزبية في قضية تعيين الولاة ، حيث تكررت الصراعات الحزبية "وشهدت بعض الولايات تنازعاً بين مكونات الحرية والتغيير حول مدى الالتزام بالشروط المعلنة لتعيين الولاة، كما شهدت بعض الولايات اتهامات بالتراجع عن الاعتماد على ترشيحات التنسيقيات ولجان قوى الحرية والتغيير الولائية وتم التعيين في بعض الولايات بما يشبه أو هو في الحقيقة محاصصات حزبية بتدخل من المجلس المركزي، وهنا أعلت الحرية والتغيير قرارات المجلس المركزي على قرارات اللجان الولائية حتى يتسنى توزيع الولاة كحصص حزبية".

من الأطروحات والوقائع الموضوعية المحددة الأخرى التي ساهم البراق في تسجيلها:
* أكّد البراق، وحسناً فعل، أن قوي الحرية والتغيير ساهمت "بشدة في تجاوز المجلس السيادي لصلاحياته وكانت تغض الطرف عن ذلك إما: لأن لدى بعض المكونات أعضاء أو أصدقاء أو حلفاء داخله بينهم مدنيين و/أو عسكريين، أو: للتقرب من العسكريين وزيادة درجة التحالف معهم بفرضية أن ذلك سيساعد في دحر الآخرين وإبعادهم وبالتالي نيل أنصبة أكبر في كيكة السلطة".
* "كانت مفاوضات السلام أيضا فرصة سانحة لإصلاحات جدية ولكنها أهدرت إما لتمرير أجندة خاصة لبعض القوى، أو بأثر الوقوع تحت الابتزاز من بعض الحركات المسلحة، أو لبلوغ نجاحات تصلح للاستعراض السياسي، وقد ساد في فترة نهج الجودية والاتفاقات الثنائية والتي أشارت لها بعض القيادات من الأطراف المختلفة قبل وأثناء وبعد التفاوض، ورغم الوعد بأن ينجز سلاماً خالصاً لأصحاب المصلحة، وبخطة وجداول زمنية دقيقة، تراجعت واستسلمت جميع الأطراف لتوقيع وتنفيذ اتفاق سلام يشبه في طريقته وشكله اتفاقيات المؤتمر الوطني بكل مساوئها". من خطل النقد أن يكون عائماً غائماً هكذا أهدرت مفاوضات السلام "لتمرير أجندة خاصة لبعض القوى، أو بأثر الوقوع تحت الابتزاز من بعض الحركات المسلحة"... ما جدوي النقد إذن، وماذا نفعل بأسماء قوي وحركات مسلحة تطرح علي منوال نظرية المؤآمرة؟! هذا النقد أشبه بشهادة مني أركو مناوي علي رؤوس الأشهاد أن هناك أشياء في سلام جوبا تمت تحت التربيزة (الفيديو):
https://www.youtube.com/watch?v=o8XBNn6BeVg

* حسناً ذكر البراق هذه التفصيلة المعروفة حول اتفاق سلام جوبا: "تمت الموافقة قبلاً على الوثيقة الدستورية على الرغم ما بها من نواقص وأخطاء والتي غضت بعض قوى الحرية والتغيير الطرف عنها وحاول البعض التبرير لها، ورغم ذلك ذهبت إلى الموافقة على تعديلها مع الحركات الموقعة على اتفاق سلام جوبا (3 أكتوبر 2020) وذلك لأنه يحقق بعض الطموحات والمصالح لأطراف مختلفة مؤثرة، دون النظر للمصلحة النهائية من عملية السلام أو مشروع الثورة والتغيير، ونقضاً للمواثيق التي لم تعد ملك القوى السياسية والعسكريين والحركات وحدهم، ولكنها أصبحت العهد بينهم وبين سائر أفراد الشعب السوداني، كما أصبحت مصدر القوانين التي تتأثر بها حياة المواطن وتحدد علاقته بدولته وبالآخرين".
* وحتي ننصف نوايا البراق في نقد جاد لتعديلات الوثيقة الدستورية الفضائحية التي تتعلق بإختيار مجلس القضاء والنيابة العامة وتسلّق ذريعة الكفاءات الوطنية كمطية لمشاركة قيادات حزبية دون حياء ،كتب البراق أن قوي الحرية والتغيير ذهبت "إلى الموافقة على تعديل بعض البنود ومن ضمنها البند الذي يتحدث عن كفاءات مستقلة في السلطة التنفيذية، فتم التعديل لكفاءات وطنية ما سمح بمشاركة قيادات حزبية تنضوي تحت الحرية والتغيير، وما ساهم في مزيد من التنصل عن العهد بعدم المشاركة في السلطة التنفيذية والسيادية في الفترة الانتقالية، وباعد بين الحرية والتغيير وقطاعات واسعة من الشعب السوداني ........وأيضاً تم الموافقة على أن ُيسمح نصاً لبعض ممن سيتسنمون مناصباً في الفترة الانتقالية بالمشاركة في الانتخابات مرة أخرى بعد انقضائها..... وربما يجوز القول إن حكومة بهذا الشكل أصبحت حكومة ائتلاف حزبية غير منتخبة، تتشارك في الجهاز التنفيذي والتشريعي والسيادي".
* أصاب البراق حين أستعرض المحاصصة والفساد عند الشروع في تشكيل الحكومة الثانية "باعتبارها استحقاقات لاتفاقية سلام جوبا، دفعت قوى الحرية والتغيير بقائمة للوزارة تضم القيادات الحزبية وقادة الحركات وقبلها رئيس الوزراء" (هنا تم أول ذكر لرئيس الوزراء!). لقد عزّز ذلك من "سيطرة مكونات حزبية بعينها وعزل مكونات أخرى وهذا هو انعدام التوازن الحقيقي والصارخ، كما أن بعض من حصلوا على المناصب الوزارية وفي السيادي أيضاً أغلبهم قيادات الصف الأول في الأحزاب والحركات ما أوغر الصدور حتى داخل الأحزاب والحركات ذاتها بوصف أن هناك عضوية/كفاءات حزبية أكثر قدرة وتأهيلاً ولم تتقدم". ويواصل البراق بمصداقية توثيق ماهو معروف حيث "دخل أغلب الوزراء (خاصة في وزارة ما بعد اتفاقية جوبا) في تسابق محموم لتوظيف كوادر تتبع لحزب الوزير أو حركته أو المجموعة المقربة منه في مناصب رفيعة في الخدمة المدنية، وكان نتيجة ذلك ظهور حالات ترقى لوصفها بالفساد مع ضعف في الأداء والمتابعة وبطء في إنجاز مهام الوزارات والهيئات والمؤسسات التي تتبع لها".
* تحية أخري للبراق وهو ينتقد قحت ، ولأول مرة ذكر إسم أحد الفاعلين الأساسيين باستحياء ، وهو مجلس الوزراء ، في موضوع العدالة حيث "لم تسع قوى الحرية والتغيير بجدية لتحقيقها وساد اتهام مفاده أن في تحقيقها مساءلة للحلفاء العسكريين، وأن داعي ذلك الخوف من مآلات اتهام العسكريين أو الطمع في التمدد في هياكل السلطة بالتقرب منهم، ورغم وجود طرح العدالة الانتقالية وسعي البعض لإحيائها، إلا أن عدم اتفاق قوى الحرية والتغيير على الإسراع بتوفير مطلوباتها وتمرير قانونها لم يرجح كفتها على طاولة الاجتماعات التي تمت طوال الفترة التي سبقت انقلاب البرهان، وكان تعطيلها دافعاً لتطاول أمد لجان التحقيق بمساهمة مقدّرة من العسكريين ووسائلهم وأساليبهم، وساعد في ذلك تأخر مجلس الوزراء وضعف متابعته لهذه اللجان بما فيها لجنة فض اعتصام القيادة العامة وغيرها من لجان التحقيق في الأحداث التي شهدتها بعض الولايات وحتى لجنة التحقيق في محاولة اغتيال رئيس الوزراء، وكانت وجهة نظر البعض أن الإصرار على ملاحقة هذه القضايا سيؤثر على استقرار الانتقال". هنا أيضاً تم ذكر مجلس الوزراء.
* وثّق البراق في الإفادة التالية ضيق أفق الحكام الانتقاليين وفساد إدارتهم وعلاقة ذلك بتغريب مشروع التغيير وتصفية ثوريته حين كتب "لم تفسح الحرية والتغيير في الوظائف والنشاطات المتعلقة بأجهزة الانتقال وقيادة الخدمة المدنية لقطاعات الشعب السوداني، بحيث لم تصبح ملكية مشروع التغيير حقاً للسودانيين كافة، بل كانت أغلب المواقع خاصة العليا والوسيطة يتم الترشيح لها وتسنمها عبر التعيين المباشر بذريعة الثقة وبذريعة أن الأكثر ثورية هو الأقدر على الإنجاز والعمل". ولكن البراق يضيّق واسعاً هنا حيث لابد من اولوية الثوري من ذوي الكفاءة العالية الذي يطبّق مطالب الثورة ومنها تصفية المنظومة القديمة والدولة العميقة.

تضارب المصالح في لجنة إزالة التمكين وورطة قحت الأخلاقية:
لا بد من توضيح قضية مبدئية ثورية لتكون هناك ثورة أو لا تكون، وهي أن ضعف الكفاءات عند من تصدّي الي منصب وزاري أو سيادي أو وكيل وزارة هو نقص كبير بلا شك، ولكن الأهم من ذلك هو مدي إلتزام القيادي المهني أخلاقياً بمطالب الثورة. بمعنى آخر، لابد أن يكون المهني ذو كفاءة مهنية و إلتزام ثوري مطلق في ذات اللحظة، الآن وهنا.
يترتّب على المهني الثوري الوزير مراجعة الممارسات والسياسات مع حواضن ثورية داخل وزارته وعدم لجوء وزراء الثورة الي ممارسات ترتبط بمفاهيم رجعية مضادة للثورة وتؤدي في نهاياتها المنطقية الي تصفية الثورة. مثلاً أن يصرّح وزير أننا لن نقف ضد أحد ولن نقصي أحداً في هذه الوزارة، كوننا وزراء للجميع. لم يثر البراق تلك الهفوات ولكنه في باب لجنة إزالة التمكين طرح محطات نقدية وجيهة رغم أنه أطلق عليها عبارات مجاملة ولطف لا علاقة لها بالنقد الشافي المباشر حيث تناول قضية قانونية وأخلاقية بحتة تتعلق بتضارب المصالح في اللجنة ولكنه وصفها كأنها زلة عابرة غير مهمة. تأمّل معي كيف طرح البراق مشكلة خطيرة تورط فيها د. حمدوك ووزارته وقحت ولجنة إزالة التمكين: "عدم توفر التمويل الكافي ما ألقى بظلاله على مجمل العمل وكان هناك أعضاء لديهم مقدرة مالية يبذلونها للجنة، فربط البعض بين تصرفاتهم في بعض أعمال اللجنة كمثل تصرفهم في شركة خاصة أو إقطاعية، وبين بذلهم المالي". هذه الجملة تنطرح هنا بعيد عن الصرامة الأكاديمية النقدية والأخلاقية وكأن موضوعة تضارب المصلحة الشخصية والعامة شيئ عادي خارج فضاء الإستقامة وبعيد عن الفساد حيث ربط البعض ذلك وكأنهم يمارسون شبهة أخلاقية. وهذا تطفيف تقوم به لجنة من أهم لجان شعار ومطلب تصفية الدولة العميقة الذي هو عماد نجاح الثورة. يتعامل البراق هنا، كأحد الذين تصدوا لقيادة الحكومة الانتقالية في الفضاء الصحفي الهام، بتساهل في عدم ذكر أسماء أعضاء لجنة إزالة التمكين الذين دفعوا من أموالهم "الخاصة" لتسيير عمل ثوري محوري "عام"، ثم يذكر "أن بعضهم" فعل تلك الشانئة ويترك لحصافة وإدراك القارئ أن تشير الي الجاني.

طرح البراق موضوعة تشير إلى تفسّخ وهوان الحكومة الانتقالية ورئيس مجلس الوزراء ووزير المالية، ثم قحت، وهي غربتهم جميعاً عن أهم مطلب ثوري وهو إزالة وتصفية التمكين حيث كتب أن وزارة المالية شكلت "عقبة حقيقية في وجه اللجنة، ورغم أنها الوزارة الرئيسية التي يرتبط بها عمل اللجنة، فقد كانت العلاقة سيئة في أغلب الأحيان بين رأس الوزارة واللجنة وذلك لأسباب تعددت بين الارتياب في جدية عمل اللجنة وقدرتها على إنجاز مهامها، والموقف السياسي من عمل اللجنة". ليس ذلك فحسب وانما "تم توريد أموال وموارد وأعيدت مستردات مربحة لمصلحة وزارة المالية وأنكرتها الوزارة ما زاد من أزمة الثقة بين الوزارة واللجنة". أضرّ منهج أنصاف الحقائق والتعميم كثيراً بالنص حيث لن يضير البراق مثلاً ذكر اسم وزير المالية حينئذ.
أزعم أن هذا النص-الخطاب سمة من سمات عقلية نخب النادي السياسي الثقافي الفكري القديم الذي تحمّس ، أو وجد نفسه، لأسباب موضوعية وذاتية في قيادة المرحلة الانتقالية بذريعة شجرة نسبهم/ن الي الثورة كونهم كانوا خارج فضاء سلطة الدولة العميقة السابقة، و/أو لهم صلة رحم ببطانة الحاضنة الفكرية السياسية التي كانت تتحلّق حول د. حمدوك وتتخلّق نطفةً وعلقةً ثم مضغةً وعظاماً تم كسْوِها لحماً فقد صلاحيته.
من ملاحظاتي النقدية لمنهج البراق أنه يميل للتعويم والتعميم والتحليل الرغبوي ومنهج "سكّن تسلم" في محكية تحديات نحو اللغة العربية في إيراده الكسول أن لجنة إزالة التمكين تأثرت "بالخلافات السياسية والرغبات والطموحات الذاتية، وقد انسحبت باكراً كوادر كان لها أدواراً مهمة في عملية التفكيك لتُعلي بانسحابها الالتزام الحزبي على الالتزام الثوري والوطني". وهنا يشنأ الكاتب مرة أخري "بالحزبي" دون ذكر مغبّة وخطل محدّد مارسه حزب محدّد، حيث يمكن مثلاً أن نمجّد دور وزير ثوري ركل طموحه الذاتي الوزاري واستقال كالتزام حزبي، وهذا يمكن أن يكون حسنة ثورية أخلاقية عالية السقف. يطرح الكاتب هنا منهجاً غريباً معادياً للحزبية بإطلاق طفولي رغم أن الأحزاب المعاصرة هي أساس الفضاء الديمقراطي الثوري بما فيه الواقع النيولبرالي المعاصر. أزعم هنا ،دون تجنّي، أن البراق يمارس دور حمّالة الحطب الذين واللواتي يروجون ذم الحزبية والتحزب علي إطلاقه وهذا عيب عظيم لا علاقة له بالتغيير الديمقراطي، دعك عن التغيير الثوري.
كتب البراق حول لجنة إزالة التمكين أن بعض اللجان الفرعية والولائية تكونت "وفق حسابات سياسية، وتم تعيين أفراد ومجموعات لإدارة مشاريع مستردة وهم لم يكن لديهم التأهيل والإمكانيات الكافية لذلك وساهم في ذلك تقصير وزارة المالية عن القيام بدورها في الاستلام والإدارة، وقد حدث هذا لعوامل تتباين بين توفر الثقة أو القربى التنظيمية أو الحزبية أو العلاقات الشخصية مع قيادات اللجنة. كما صحبت عمل اللجنة مجموعة من الأخطاء في العمل التنظيمي والإعلامي والإداري". ليت البراق يستخدم ذات التدقيق في تعريته مفاهيم وممارسات مجلس الوزراء ودوره الشخصي كمستشار صحفي.

نواصل

elsharief@gmail.com
//////////////////////

 

آراء