قصص شاعرات جهرن بالعشق في زمن الصمت _ ولادة

 


 

 



asaadaltayib@gmail.com
ديباجة:‎

‏{هذه سلسلة نفصح من خلالها عن قصص مستوحاة من التراث العربي القديم لشاعرات جهرن بالعشق في زمن الصمت، ذلك الزمن الذي بدأت تسود فيه القواعد الشرعية على ما عداها من قواعد إجتماعية في مجتمع عرف في الأصل التقاليد الصارمة في أعراف قبلية عريقة، وقد عمدنا في هذه القصص إلى بيان سيرة أولئك الشاعرات وسيرة من عشقن، وإبراز قصص عشقهن الذي جهرن به في ثوب المعالجة الدرامية الصادقة مستشهدين بالشعر وبالوقائع التاريخية}.

‏(القصة الثالثة)

‏(قصة الشاعرة ولادة بنت المستكفي)

هي أميرة عربية وشاعرة معلاة من بيت الخلافة الأموية في الأندلس عرفت بفراشة العصر الأموي، لم يخبرنا مؤرخو الأدب عن تاريخ دقيق لمولدها وإن حددوا على وجه أقرب للدقة تاريخ وفاتها، فقد ذكروا أنها عمرت وماتت عن عمر يبلغ نحوا من ثمانين عاما، ما يكشف بعض الشيئ عن تاريخ مولد الشاعرة العاشقة ولادة بنت المستكفي، فهذه الأميرة الفائقة الحسن هي إبنة الخليفة المستكفي بالله الأموي الذي إستولى على الخلافة في الأندلس عن طريق المؤامرة والدسائس والدماء بعد ما كان خامل الذكر معروفا بالتخلف والركاكة ومشهورا بالشرب والبطالة، قال عنه أبو حيان التوحيدي: سقيم السر والعلانية، أسير الشهوة، عاهر الخلوة. وكأننا اليوم ياسادتي أمام نار تمخضت عن رماد فولادة التي عانقت الشعر والثقافة والظرف والجمال والحب والعشق بمآلات عجيبة صيرتها من أشهر النساء في التراث الأدبي العربي وتطاير ذكرها حتى أضحى إسمها مقترنا بكل من حولها أو إقترب منها ومنهم الشاعر إبن زيدون وهو أهم وأشهر عشاقها فقد عرف بصاحب ولادة رغم أن لقبه السائر هو ذي الوزارتين، وصار والدها المستكفي بالله يلقب بوالد ولادة على الرغم من أنه الخليفة، وحتى الشاعرة مهجة القرطبية التي لا تقل عنها حسنا وجمالا سمتها كتب التراث مهجة صاحبة ولادة. بعيد وفاة والدها وسقوط الخلافة الأموية في الأندلس فتحت ولادة أبواب قصرها لتتخذ فيه مجلسا أشتهر في قرطبة يؤمه الأعيان والشعراء ويتحدثون فيه في شؤون الشعر والأدب فكانت تساجلهم وتنافسهم وقد ورد في كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لإبن بسام قوله: كانت في نساء زمانها واحدة أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر. كان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار مصر وفناؤها ملعبا لجياد النظم والنثر يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها إلى سهولة حجابها تخلط ذلك بعلو نصاب وكرم أحساب وطهارت أثواب على أنها سمح الله لها وتغمد زللها أطرحت التحصيل وأوجدت إلى القول فيها السبيل بقلة مبالاتها ومجاهرتها بلذاتها كتبت زعموا على أحد عاتقي ثوبها:
أنا والله أصلح للمعالي
وأمشي مشيتي وأتيه تيها وكتبت على الآخر:
وأمكن عاشقي من صحن خدي وأعطي قبلتي من يشتهيها هكذا وجدت الخبر وأبرأ إلى الله من عهدة ناقليه وإلى الأدب غلط النقل إن كان وقع فيه.
علق المقري التلمساني في سفره المهم نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب على البيتين السابقين بقوله:
وكانت مع ذلك مشهورة بالصيانة والعفاف وقد شكك بعض الباحثين رغم ذلك حول خلقها وسلوكها وإن أقروا بشاعريتها وبجاذبية شخصيتها وحضورها وحسنها مظهرا وجوهرا. وشك هؤلاء الباحثون أصابنا فقد تراءى لنا التناقض الذي حمله قول بن بسام والمقري إضافة إلى ما وصلنا منها من شعر إباحي نعف عن ذكره هنا ولما وقعنا عليه من قول لإبن زيدن حول علاقته المثيرة بولادة وهو قول سنذكره في موضعه من هذا المقال. في مجلسها هام بها إبن زيدون وملكت عليه قلبه وتعلقت هي به وأحبته بعمق وجهرت بعشقها له إذا غاب عنها
تقول:
ألا هل لنا بعد التفرق سبيل
فيشكو كل صب بما لقي..
وقد كنت أوقات التزاور في الشتا
أبيت علي جمر من الشوق محرق..
فكيف وقد أمسيت في حال قطعه
لقد عجل المقدور ماكنت أتقي..
تمر الليالي لا أرى البين ينقضي
ولا الصبر من رق التشوق معتقي..
سقى الله أرضا قد غدت لك منزلا
بكل سكوب هاطل الوبل مغدق..
وإبن زيدون الذي ولد في قرطبة سنة  394 برع في الشعر كما برع في النثر إسمه أحمد بن عبد الله بن زيدون وقد تعلم في جامعة قرطبة التي كانت أهم جامعات الأندلس ولمع بين أقرانه كشاعر وكان الشعر بداية تعرفه بولادة بنت المستكفي فراشة ذلك العصر وبرز وزيرا عندما إنقطع إلى إبن جهور من ملوك الطوائف بالأندلس حتى إتهمه إبن جهور بالميل إلى المعتضد بن عباد فحبسه ولكنه هرب واتصل بالمعتضد صاحب إشبيلية فولاه وزارة وفوض إليه أمر مملكته فأقام مبجلا مقربا إلى أن توفي في إشبيلية ذاتها في أيام المعتمد على الله بن المعتضد عن عمر بلغ نحو الثمانية والستين عاما بعيد إنجازه مهمة إخماد الفتنة التي ثارت بها وهو يعاني المرض ووهن الشيخوخة. كانت الأميرة ولادة بنت المستكفي بشاعريتها وألقها وجمالها الذي لم يقف حجاب بينه وبين ناظريها حري بأن يجعلها أميرة القلوب فوقع في حبها الكثيرون وكان أهمهم وأشهرهم إبن زيدون وأبو عبيد الله القلاسي وأبو عامر بن عبدوس اللذان كانا من أشد منافسي بن زيدون في حبها وقد هاجهما إبن زيدون بقصائد لاذعة فانسحب إبن القلاسي ولكن إبن عبدوس غالى في التودد إليها وأرسل لها رسالة ليستميلها إليه فلما علم بها إبن زيدون كتب إليه رسالة على لسان ولادة وهي الرسالة المعروفة بالرسالة الهزلية التي سخر منه فيها وجعله أضحوكة

على كل لسان عاش بن زيدون أياما سعيدة مع أميرة حبه ولادة وقد أفصح لنا عن بعض تفاصيل علاقته بولادة فقد جاء على لسانه قوله: كنت في أيام الشباب وغمرة التصابي هائما بغادة تدعى ولادة فلما قدر اللقاء وساعد القضاء كتبت إلي تقول:
ترقب إذا جن الليل زيارتي
فإني رأيت الليل أكتم للسر..
وبي منك ما لو كان بالبدر ما بدا
وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسر..!
فلما طوى النهار كافوره، ونشر الليل عنبره، أقبلت بقد كالقضيب، وردف كالكثيب، وقد أطبقت نرجس المقل على ورد الخجل، فملنا إلى روض مدبج، وظل سجسج، قد قامت رايات أشجاره، وفاضت سلاسل أنهاره، ودر الطل منثور وجيب الراح مزرور، فلما شببنا نارها، وأدركت فينا ثارها، باح كل منا بحبه وشكى أليم مابقلبه، وبتنا ليلة نجني فيها أقحوان الثغور ونقطف رمان الصدور، فلما انفصلت عنها صباحا أنشدتها ارتياحا:
ودع الصبر محب ودعك
ذائع من سره ما استودعك..
يقرع السن على أن لم يكن
زاد في تلك الخطى إذ شيعك..
يا أخا البدر سناء وسنا
حفظ الله زمانا أطلعك..
إن يطل بعدك ليلي فلكم
بت أشكو قصر الليل معك..
ولعل قول ابن زيدون هذا ومابه من تصريح واعتراف مقروء مع ماجاء في بعض شعر ولادة في إبن زيدون الذي كان مشوبا بتلميحات جنسية هو ماجعلنا نميل إلى رأي من شكك في إدعاءات بعض المؤرخين الذين وصفوها بالصيانة والعفاف وقد رأيناها قبل قليل إلى صدر عاشق ترتاح وهي ترشف الراح. لم تدم السعادة بين الأميرة والوزير كثيرا فقد عصفت بها حادثة عجيبة حكاها إبن زيدون نفسه إذ قال: غنتنا عنبة وهي جارية سوداء جميلة تملكها ولادة في مجلس ولادة. وكانت تقول:
أحبتنا إني بلغت مؤملي وساعدني
دهري وواصلني حبي..
وجاء ليهنيني البشير بقربه
فاعطيته نفسي وزدت له قلبي..
فسألتها الإعادة بغير أمر ولادة فخبا منها برق التبسم وظهر منها عارض التهجم وثارت غيرتها وقامت إلى جاريتها وعنفتها وضربتها. فقال ابن زيدون في ذلك:
وماضربت عنبى لذنب أتت به
ولكنها ولادة تشتهي ضربي..
فقامت تجر الذيل عاثرة به
وتمسح طل الدمع بالعندم الرطب..
ثم بعد ذلك يصف لنا إبن زيدون تأثير غضبها وموقفها وذلك حين يقول: فبتنا على العتاب، في غير إصطحاب، ودم المدام مسفوك، ومأخذ اللهو متروك. وهكذا إنهار ذلك الحب وبالحبر على ورق الكافور كتبت ولادة لإبن زيدون أبيات شعر تصف تلك الواقعة التي عصفت بحبها وهي تقرر هجره وتظن كل الظن أن إبن زيدون قد هوى جاريتها تقول فيها:
لو كنت تنصف في الهوى مابيننا
لم تهوى جاريتي ولم تتخير..
وتركت غصنا مثمرا بجماله
وجنحت للغصن الذي لم يثمر..
ولقد علمت بأنني بدر السما
لكن دهيت لشقوتي بالمشتري..
ولكيما تحرق قلبه اتخذت ولادة من عامر بن عبدوس حبيبا فتآمر بن عبدوس على إبن زيدون حتى يبعده عن ولادة التي لم يزل يروم دنوها ولما أهدر دمه فر بجلده من سجنه إلى إشبيلية ومن هناك كتب إليها قصيدته النونية ذائعة الصيت جاء في بعضها:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا..
ألا وقد حان صبح البين صبحنا
حين فقام بنا للحين ناعينا..
من مبلغ المبلسينا بإنتزاحهم
حزنا مع الدهر لا يبلى ويبلينا..
إن الزمان الذي ما زال يضحكنا
أنسا بقربكم قد عاد يبكينا..
غيظ العدى من تساقينا الهوى
فدعوا بأن نغص فقال الدهر: آمينا..
فانحل ماكان معقودا بأنفسنا
وأنبت ماكان موصولا بأيدينا..
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاء لكم
رأيا ولم نتقلد غيره دينا..
ما حقنا أن تقروا عين ذي حسد
بنا ولا أن تسروا كاشحا فينا..
كنا نرى اليأس تسلينا عوارضه
وقد يئسنا فما لليأس يغرينا
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
شوقا إليكم ولا جفت مآقينا..
يكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الآسى لولا تأسينا..
حالت لفقدكم أيامنا فغدت
سودا وكانت بكم بيضا ليالينا..
إذ جانب العيش طلق من تآلفنا
ومورد اللهو صاف من تصافينا..
وإذا هصرنا غصون الوصل دانية
قطوفها فجنينا منه ما شينا..
ليسق عهدكم عهد السرور فما
كنتم لأرواحنا إلا رياحينا..
لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا
أن طالما غير النأي المحبينا..
والله ما طلبت أهواؤنا بدلا
منكم ولا انصرفت عنكم
أمانينا..‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏
القصيدة طويلة وتعبر عن حالة شجن وأسى غائر وقد ضربت بسهمها في الإبداع وأصابها الخلود. عاشت ولادة كما عاش محبها الوزير أبي عامر بن عبدوس عمرا نيف عن الثمانين، وقد ظل محروما لا يتواني عن طلب وصالها حتى أزرى بها الزمان، فظل يتحمل مسؤوليتها، ويستر عيوب كبرها وحاجتها ماديا ومعنويا، يحمل كلها، ويرفع ظلها، رغم ماكان عليه واديه من جدب وقحط، تاركا للتاريخ سيرة حسنة وفعلا ظريفا. ظلت الأميرة ولادة طيلة حياتها العامرة بالسنين قمرا يطلع ويأفل في عيون خطاب ودها، وشمسا تشرق وتغيب في خيال عشاقها، إلى أن ماتت سنة ثمانية أو قيل أربع وثمانين وأربعمائة للهجرة ولم تتزوج قط تاركة خلفها قصة يستلهمها الشعراء والعشاق ويسلك في غورها الأدباء والكتاب.

 

آراء