قضايا: ضرب الزوجة في قوانين الأحوال الشخصية لغير المسلمين ومآلاته .. ترجمة: عبد المنعم عجب الفَيا

 


 

 

محكمة الاستئناف (العليا)

(أ/م/ 156/1959)

موجز وقائع الدعوى:
بسبب سوء المعاملة التي ترقي إلى المعاملة الوحشية بالمعنى القانوني، غادرت الزوجة القبطية منزل زوجها وأخذت معها الطفلة وبعض الممتلكات المنزلية. رفع الزوج دعوى أمام المحكمة الجزئية بالخرطوم، كما أقامت الزوجة دعوى مقابلة (فرعية) ادعت فيها أنها أجبرت على مغادرة منزل الزوجية بسبب المعاملة الوحشية وطلبت الحكم بنفقة لها وللطفلة وبتوزيع بعض الممتلكات المنزلية وفقاً لقانون الأحوال الشخصية للأقباط الأورثودكس.
أنكر الزوج دعوى المعاملة الوحشية واحتج بحق الزوج التفليدي في تأديب زوجته في حدود المعقول. قضت المحكمة المدنية الجزئية بالخرطوم لصالح الزوجة على أساس انها أثبتت المعاملة الوحشية كما أمرت لها وللطفلة بنفقة شهرية ثابتة بمبلغ 27.500 جنيهاً وأمرت بتوزيع الممتلكات المنزلية وفقاً لقانون الأحوال الشخصية للزوجين. فتقدم الزوج بطلب مراجعة (استئناف) لقاضي المحكمة الأعلى والذي أيّد حكم محكمة أول درجة. فتقدم الزوج بطلب مراجعة لمحكمة الاستئناف (العليا) فحكمت بالآتي:

خلاصة أسباب الحكم:
1- تأييد حكم المحاكم الأدنى في شأن ثبوت المعاملة الوحشية.
2- لم يعد القانون اليوم يؤيد الحق التقليدي للزوج في ضرب وتأديب زوجته.
3- تقدر النفقة وفق احتياجات الزوجة ووسائل الكسب المتاحة للزوج مع مراعاة المستوى المعيشي للزوجين.
4- يخفض مبلغ النفقة المحكوم به إلى 17 جنيهاً على أن يظل ساريا لمدة سنة واحدة ثم يعاد فيه النظر بعد مرور السنة من قِبل محكمة أول درجة.
5- تأييد توزيع الممتلكات المنزلية على النحو المطالب به.

المحامون:
مبارك زروق/ عن المستأنف
يونس نجم/ عن المستأنف ضدها

الحكم

23 ديسمبر 1959
القاضي/ عبد المجيد إمام:
هذا طلب مراجعة (استئناف) ضد قرار قاضي المحكمة الأعلى بالخرطوم المؤرخ 8 يوليو 1959 المؤيِّد لحكم قاضي المحكمة الجزئية بالخرطوم المؤرخ 5 مايو 1959 والذي قضي بأن يدفع المستأنف للمستأنف ضدها مبلغ 27.500 جنيهاً عبارة عن نفقة شهرية لها ولطفلتها وذلك ابتداءا من 15 يناير 1959 إلى حين صدور قرار آخر في شأن مقدار النفقة، إضافة إلى الأمر بقسمة أثاث البيت والممتلكات المنزلية الأخرى بين الطرفين.
وقائع القضية بايجاز هي:
تزوج (.. و..) وجرت مراسيم زواجهما بالكنيسة القبطية الأورثودكسية بالخرطوم في 2 أكتوبر 1955. وقد أنجبا طفلة في 8 أكتوبر 1956. ولكن سرعان ما نشبت الخلافات الزوجية بينهما بعد أشهر قليلة من الزواج. خلال هذه الفترة القصيرة أقاما في منزلين مختلفين بحي الأقباط بالخرطوم 3 وقاما بزيارة قصيرة إلى القاهرة وأخيرا انهارت علاقتهما في ذلك اليوم المصيري في 15 يناير 1958 حين غادرت ميري وفي غياب زوجها ونهائيا منزل الزوجية وأخذت معها الطفلة وبعض الممتلكات المنزلية وذهبت للإقامة بمنزل أخيها حيث لا تزال تقيم هناك حتى اليوم.
وحجة الزوجة هي أنها تركت منزل الزوجية بسبب معاملة الزوج الوحشية والتي قدمت عليها بعض الشواهد منها الضرب والركل في مناسبات عديدة وقد خلف ذلك جروح بسيطة في جسدها وأنه لم يكن أمامها من مفر سوى المغادرة بعد ان فشلت كل جهودها وشكاويها الكثيرة في إصلاح العلاقة الزوجية والعيش في سلام ووفاق.
لكل ذلك ادعت الزوجة في دعواها الفرعية إلى أنه كان لها عذر مشروع في مغادرة منزل الزوجية لأن الزوج بسلوكه الوحشي ومعاملته القاسية لها قد تخلى حكماً عن علاقته الزوجية ولذلك طلبت الحكم لها ولطفلتها (التي تبلغ 18 شهرا) بنفقة قدرتها في الدعوى الفرعية بمبلغ 40 جنيهاً في الشهر.
وأما بالنسبة للممتلكات المنزلية فقد أقرت الزوجة انها أخذت معها الممتلكات التي ذكرها الزوج، ولكنها ادعت أنها مستحقة لهذه الممتلكات وفقاً لقانون الأحوال الشخصية للأقباط الأورثودوكس الذي يعتبر هذه الممتلكات جزءاً من (جهاز العروس) trousseau . واستنادا إلى ذلك ادعت أن هناك بعض الممتلكات المنزلية التي تعتبر ملكاً لها، لا تزال موجودة في حيازة الزوج المستأنف.
وهنا يجب ملاحظة أن المستانف (المدعي في الدعوى الأصلية) قد أسس دعواه في استرداد هذه الممتلكات على أنها ملك له، ولم يؤسسها على قانون الأحوال الشخصية للأقباط الأورثودوكس ولا على المادة (5) من قانون القضاء المدني السوداني.
وفي شأن المعاملة الوحشية أنكر الزوج المستأنف ان يكون سبب مغادرة الزوجة منزل الزوجية هو المعاملة القاسية من جانبه، وأدعى أنها بفعلها هذا تكون قد ارتكبت خطا كبيرا بدون سبب وبدون مبرر.
ونحن نرى أن المستانف ضدها (الزوجة) قد نجحت في إثبات المعاملة الوحشية. وكان محامي المستانف قد زودنا بالتعريف القانوني للمعاملة الوحشية الوارد في القضية الإنجليزية التي صدر فيها الحكم حديثا وهي قضية: Liewellyn vs. Liewellyn حيث جاء:
"المعاملة الوحشية هي الفعل الذي يسبب الأذى للصحة أو يسبب الخشية من وقوع الأذى الضار بالصحة".
على أن المحامي ذهب إلى أن هذا التعريف لا ينطبق على الضرب بالكف أو الخبطة باليد أو الكلمات الحادة والتي يزعم انه حتى الأزواج الملوك (مثل الملك فيليب ملك أسبانيا وإيفان الرهيب دعك من السلطان الأحمر سلطان تركيا المعروف) غير معصومين من ارتكابها. وزعم أن مثل هذه الأفعال، أفعال مشروعة تحت كل الشرائع والقوانين وذلك بموجب حق الزوج الطبيعي المتوارث في تأديب زوجته.
ومضى إلى القول إنه حتى على فرض أن هذه الأفعال ترقى إلى درجة القسوة أو الوحشية، فإن المدعى عليها لم تقم البينة عليها. إذ لا أحد من الشهود كان شاهد عيان على أي واقعة ضرب حتى يمكنه أن يقدم وصفاً لهذه الواقعة. كما أن هذه الأفعال تكون مبررة في حال إرتداء الزوجة ملابس غير محتشمة.
لكنه أقرّ بحالة ضرب واحدة يقول إنها وقعت قبل سنة من رفع الدعوى وان هذه الحالة المعزولة يجب ألا تتخذ كسلاح مسلط على الدوام في وجه الزوج ذريعة للتهديد برفع دعوى قضائية، واستشهد على ذلك بما جاء في قضية: Liewellyn vs. Liewellyn المشار إليها أعلاه.
إن تعريف المعاملة الوحشية الوارد في هذه القضية التي استشهد بها محامي المستانف تعريق محدد وجيد. وهو على كل حال ليس جديدا ولكنه تكرار لما سبق ذكره في سوابق قضائية قديمة مثل قضية: Russell v. Russell (1897) A.C. 395 والتي عرفت المعاملة الوحشية بالقول:
"المعاملة الوحشية بالمفهوم القانوني هي التي تعرِض بطبيعتها حياة الشخص أو جزء من جسده أو صحته (البدنية أو العقلية) للخطر أو تلك التي تكون قابلة بطبيعتها أن تسبب الخشية من وقوع هذا الخطر".
وهذا التعريف قد أُدخل عليه المزيد من الشرح والتعديل في قضية: Horton v. Horton (1940) P. 187 وهو كما يلي:
"لا يكفي مجرد السلوك الذي يسبب الأذى للصحة بل الأفعال غير المبررة التي تسبب الألم والتعاسة وتسبب الضرر للصحة هي التي يمكن أن ترقى إلى المعاملة الوحشية بالمعنى القانوني".
أنظر أيضا مؤلف:Phillip, Divorce, الطبعة الرابعة الصفحة رقم 30 وكذلك مؤلف: Rayden on Divorce, الطبعة السادسة الصفحة رقم 98.
والسؤال الآن هو ما هي الأفعال التي يمكن أن تشكل معاملة وحشية؟
يقول "فيليب" في مؤلفه المشار إليه: "أي أفعال من شأنها أن تسبب الأذى والضرر لأي شخص بحكم طبيعتها..". ص 30.
ويواصل القول في ذات الصفحة: "من الأفعال التي تعد معاملة وحشية: ضرب المدعى عليه للمدعية بقبضة يده أو ركلها بحذائه أو كسر أنفها أو سن من أسنانها أو أن يؤذي عينها أو يركلها حتى تفقد الوعي. أيضا محاولة خنق المدعية أو تهديدها بإلحاق الأذى بسلاح من قبيل السكين أو زجاجة مكسورة أو قضيب مشتعل مثلاً، كل ذلك يرقى إلى درجة الوحشية في المعاملة".
ولكن هل حدوث الفعل لمرة واحدة يكفي لإثبات المعاملة الوحشية؟
يقول "فيليب" في ذات الفقرة: "جائز جدا أن تجد قضية مبنية على فعل وحيد من المعاملة الوحشية ولكن مثل هذا الفعل يجب لكي تصبغ عليه هذه الصفة أن يكون ذا طبيعة خطرة في حد ذاته. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك إلحاق المدعى عليه بالمدعية الضرر باستعمال سكين أو سلاح من هذا القبيل بحيث يرقى هذا الفعل إلى محاولة القتل أو تسبيب الجراح أو الأذى الجسيم. وفي هذه الحالة ليس بالضرورة أن تثبت المدعية أن مثل هذا الفعل يحتمل تكراره مستقبلاً. ولا توجد سابقة على تدخل المحكمة لحماية الشخص للحيلولة دون وقوع فعل كهذا في المستقبل".
ولكن ماذا عن الفعل االذي يقع مرة واحدة ولا يرقى إلى درجة الوحشية؟ هل يجب أن يتكرر؟.
يقول "فيليب" في ذات الصفحة: "الفعل من هذا النوع الذي يقع مرة واحدة لا يرقى إلى الوحشية ولكن إذا تكرر لفترة من الزمن وكان من شأن هذا التكرار أن يؤدي إلى انهيار صحة الشخص فإنه يرقى إلى درجة المعاملة الوحشية".
وضرب أمثلة على ذلك بالزوجة الغيورة والزوجة النقناقة nagging التي تنق في زوجها باستمرار إلى درجة حرمانه من النوم ليلاً أو التي تأتي بأفعال تكون بطبيعتها مصحوبة بعنف مادي خفيف. وهنا يجب ملاحظة أن هذه الأفعال البسيطة يجب بالضرورة أن تتكرر لفترة طويلة من الزمن وإلا سوف لن تعدو أن تكون ناتجة عن سوء تفاهم مؤقت بسبب توتر في العلاقة بين الطرفين.
ويقول "رايدين" بصفحة 100 من مؤلفه المشار إليه أعلاه: "المعاملة الوحشية لا تقاس بدرجة الشدة وإنما بالنتيجة المترتبة على الجريمة سواء كانت فعلية أم كانت تهديداً".
الآن وقد قمنا بعرض مفهوم المعاملة الوحشية في القانون بالتفصيل، نأتي لمناقشة مسألة الإثبات: هل شكاوى المدعية (الزوجة) مقبولة لوحدها كبينة، وإذا كان ذلك كذلك فما وزنها في الإثبات أي هل هي في حاجة إلى تعضيد بأدلة أخرى، وما معيار الإثبات المطلوب.
"مجرد واقعة شكوى الزوجة من زوجها مقبولة في الإثبات ولكن هذا لا يشمل الوقائع المكونة للشكوى". "يجب التمييز بين الشكوى والوقائع". انظر:
Fromhold v. Fromhold (1952) 1 T. L. R. 1522, C. A.
"وكقاعدة قانونية عامة يمكن القول إن تعضيد بينة المدعية غير مطلوب على الأرجح. ولكن درجت المحاكم على طلب التعضيد ما لم يوجد ما يبرر على نحو كاف عدم تقديم شاهد معضدد. فبينة الشاهد الذي رأي الجروح والآثار والرضوض، خلال يوم أو يومين من وقوعها تعد بينة مقبولة في الإثبات، ولكن الإفادات التي تقدم للشاهد في غياب الخصم غير مقبولة" انظر رايدن ص 109.
وأما فيما يتعلق بمعيار الإثبات فيرى "رايدن" أن المعيار المطلوب في إثبات سوء المعاملة هو إثبات الواقعة دون أدني شك معقول بمعنى أن يتم الإثبات بنفس درجة الصرامة strictness والوثوقية المطلوبة في إثبات الجريمة في المحاكم الجنائية. ومع انه يبدو أن هذا هو المعيار المتّبع إلا أنه يلوح أيضا ليس هو الكلمة الفصل في هذه المسألة. ففي قضية:
Miller v. Minister of Pensions (1947)2 All E.R. 372.
امتنع القاضي "بنكنيل" ووافقه في ذلك القاضي "سومرفيل" عن تحديد المعيار المطلوب في الإثبات، واحتج على ذلك بأن كلمة "صارم" strict تكفي لوصف درجة ومعيار الإثبات المطلوب.
غير أن القاضي (العلّامة) لورد "دينينق" Denning يرى أن الفعل المشكو منه يجب أن يثبت ليس بأكثر من الصرامة المطلوبة في القضايا المدنية (أي على أساس ترجيح البينات).
وهنا علي أن أشير إلى أن معيار إثبات المعاملة الوحشية يتطلب توفره في قضايا الطلاق وليس في قضايا التفرقة القضائية أو قضايا النفقة كما هو الحال في هذه القضية التي هي أمامنا. وفي هذا انظر قضية: Simppson v. Simpson (1951)
وانظر كذلك: Lyons v. Lyons (1950) N.I. 181.
والآن دعنا نناقش وقائع الدعوى. يظهر من خلال أقوال الزوجة أن الزواج بالنسبة لها، باستثناء فترة قصيرة جدا، كان مسلسلاً لا ينتهي من الشجار والنقة والإساءات والضرب المتكرر.
واتخذ الضرب أشكالاً مختلفة إذ تراوح، بحسب إفادة الزوجة، بين الضرب باليد والركل بالقدم والضرب بالعصا، ورميها على الأرض، والضرب في كل جسدها إلى درجة تسبيب الألم والمعاناة والخدوش والرضوض والتورم والنزف. وفي مرة من المرات أغلق عليها باب المنزل وتركها تصرخ وتتألم من الضرب. والمقتطف التالي من الإفادة يلخص قضية الزوجة:
"بدأ الضرب من اليوم السابع للزواج ولم يتوقف حتى تاريخ مغادرتي لمنزل الزوجية. فقد اعتاد أن يضربني ثلاثة إلى أربع مرات في الاسبوع. فقد ضربني في الليلة السابقة لمغادرتي المنزل أي في 14 يناير 1958 وفعل ذلك قبل يومين من هذا التاريخ. وكل ذلك لأسباب تاقهة معظمها لأنني اتصل بأهلي. وأحيانا يأتي ليلا ويبدأ يضربني بدون مقدمات قائلاً: قُمِي وتفقدي حال الطفلة".
هذه الأقوال تم تعضيدها بالكامل بشهادة الشاهدة الثاني (..) وهي أخت الزوجة والتي ربما تكون السبب وراء فشل هذا الزواج أو ربما تكون تحمل ضغينة ضد المستانف بسبب كرهه لها، غير أن شهادتها قد تم تعزيزها في كثير من الجوانب ببينات مستقلة لعدد من الشهود وهم الشاهد الثالث: (..) والشاهد الرابع (..) أخ الزوجة. وفوق ذلك تم تعزيزها بصفة خاصة بشهادة الشاهد الخامس: الأب (..) الذي كان المستانف قد أقسم أمامه على الكتاب المقدس بأن سوف يحسن معاملة زوجته. وهذه الشهادة تجعل من الصعب تصديق الإدعاء بأن شكوى الزوجة ليست جدية.
وقد قبلت محكمة أول درجة هذه البينّات ومن حقها ان تفعل ذلك وترتفع بمستوى البينات فوق أي شك معقول وذلك على الرغم من أننا كما ذكرنا آنفاً وبحسب تفسيرنا للقانون لو كانت المحكمة قد طبقت في هذه القضية معيارا للإثبات أقل من ذلك لكان كافياً.
والآن السؤال هو: هل هذه الأفعال التي ثبت وقوعها بالبينة تعتبر معاملة وحشية بالمعنى القانوني؟
نحن على قناعة أن أي كل فعل مفرد من أفعال الضرب الجدي سواء باليد أو بالعصا أو كان ركلا بالقدم وسبب هذا الفعل أذى وألم بما في ذلك التهديد باستعمال العنف كما جاء في شهادة (..) من أن المستانف قد هدد زوجته بالسكين، يرقى درجة إلى المعاملة الوحشية.
بل حتى لو اعتبرنا هذه الأفعال أفعالاً صغيرة فإن تكرارها، كما نرى، يرقى إلى المعاملة الوحشية لأن نتائجها معلومة سلفاً وكنا قد استدللنا على ذلك بهذا الاقتباس: "الفعل الذي يقع مرة واحدة لا يرقى إلى الوحشية ولكنه يجوز إذا تكرر لفترة من الزمن وكان من شأن هذا التكرار أن يؤدي إلى انهيار صحة الشخص فإن هذا الفعل يرقى إلى درجة المعاملة الوحشية".
وكان محامي المستانف قد دفع بأنه يجب ألا يسمح للزوجة بأن تشهر على الدوام في وجه زوجها سلاح التهديد باتخاذ الإجراءات القضائية ضده بسبب فعل معزول فرد من المعاملة الوحشية، وقع قبل فترة طويلة من اتخاذ هذه الإجراءات.
وبكلمات أخرى يريد القول إن التجاوز أو التغاضي الصريح أو الضمني عن الفعل، يعد مانعا يحول دون المقاضاة اللاحقة. ونحن نتفق معه أن هذا هو الفهم الصحيح للقانون، ولكن هذا ينطبق فقط في حالة إذا لم يتبع هذا الفعل أفعال أخرى مماثلة. وفي ذلك ورد بمؤلف (رايدين) ص 181:
"عودة الزوج المعتدي إلى رشده ومسامحته من قبل الطرف الآخر يخضع إلى شرط ضمني يفرضه القانون وهو ألا يرتكب المعتدي مزيد من الأفعال التي تسيء إلى العلاقة الزوجية. فإذا وقع شيء من هذا فإنه يُسقِط العفو أو المسامحة ويعيد سبب الشكوي القديم من جديد وهذا الفعل الجديد ليس بالضرورة أن يكون من نفس طبيعة ejusdem generis الفعل الأول. الفعل اللاحق لا يبيح للطرف المتعدي التملص عن المسؤولية. ولكن على الرغم من أن التغاضي أو التجاوز يعد عفوا مشروطاً وقابل لإعادة إحياء المسؤولية عن الفعل السابق إلا أنه كلما تقادم العهد على الأفعال السابقة، كلما زادت صعوبة إحيائها وقد يأتي وقت يصبح فيه العفو غير مشروط بل نهائي".
ويضيف ذات المرجع بصفحة 182:
"الأفعال التي ليس بالضرورة أن تكون كافية للحصول على إعفاء ربما تصبح كافية لإحياء فعل تم التغاضي عنه. مثلا الفعل الخادش للحياء من الممكن أن يعيد إحياء واقعة زنا تم تجازوها والأفعال شديدة القساوة قد تعيد إحياء فعل وحشي تم التغاضي عنه في السابق بشرط أن يكون استمرار هذا الفعل من شأنه أن يجعل الحياة الزوجية أمرا مستحيلا، ولكن هذا لا يشمل أي فعل معزول متعلق بسوء السلوك الزوجي".
وفي هذه الدعوى نجد أن المعاملة الوحشية والقاسية قد ظلت مستمرة من جانب المستانف في حق الزوجة حتى لحظة مغادرتها بيت الزوجية.
تبقت نقطة أخيرة ينبغي ألا نتركها دون مناقشة قبل أن نخلص إلى الراي النهائي في هذه القضية.
لقد حاجج محامي المستانف أن الأفعال المشكو منها ليس أكثر من ممارسة الزوج لحقه في تأديب زوجته. وعلى فرض أن هذا الحق لا يزال قائما اليوم فإن الزوج في هذه القضية قد تجاوز الحد المعقول في ممارسة هذا الحق بسبب القسوة المفرطة وخطورة الأفعال التي ارتكبها في حق زوجته.
ومع ذلك فإننا نؤيد (مع الأسف!) القول إن هذا الحق لم يعد قائما في القانون. لقد ولى عهد هذا القانون القديم الذي يعود إلى العصور الوسطى والذي يقوم على مبدأ سيادة الذكر على الجنس اللطيف.
جاء في مؤلف "حموي" Hamawi ما يلي:
"تكفي المعاملة الوحشية لتقويض منزل الزوجية. إذ لا يقع إلتزام علي أي من الزوجين بتحمل ما يمارسه ضده الطرف الآخر من قيود مادية بدون رضاه الطوعي والحر...إن حقوق أي من الزوجين على جسد الآخر قد تبدلت وتغيرت مع تغير وتبدل مفهوم وضع المرأة في المجتمع. في العهود السابقة كان القانون يعترف مثلاً بحق الرجل تأديب زوجته في حدود المعقول. وقد أصبح القانون اليوم في وضع حرج بسبب هذا التبدل في المفاهيم حتى انك لا تجد سوى القليل جدا من القضايا التي تتعلق بممارسة مثل هذه الحقوق على زوجاتهم اللهم إلا في سياق قضايا الطلاق والانفصال الزوجي القضائي. إن الأحكام القضائية القديمة التي فصلت فيها المحاكم على أساس فكرة هيمنة الرجل المطلقة على المرأة لم تعد تمثل القانون المطبق اليوم. والرأي القضائي الغالب اليوم هو أن الزوج والزوجة متساويان أمام القانون، وأي رأي قضائي آخر يقول بعكس ذلك، حتى ولو لم يتم نقضه بحكم لاحق، فسوف لن يتّبع".
ويضيف (حموي) بصفحة 126:
"اليوم لا يملك أحد من الزوجين الحق في تأديب الزوج الآخر وأي تأديب ينطوي على فعل مادي يعد جريمة تعدي. والقاعدة القاتونية العامة اليوم تقول ليس للزوج أو الزوجة الحق في تقييد أفعال الآخر باستثناء الحق الذي تجيزه القاعدة القانونية العامة والتي تنطبق على كل مواطن وهو الحق في منع ارتكاب جريمة أو جنحة...".
والتعديل الوحيد الذي أدخل على هذه القاعدة القانونية العامة ورد في قضية: R. v. Jackson (1891) 1. Q. B. 671. وهو أنه قد يجوز أن يكون للزوج حق منع زوجته من "الإتيان بأفعال تؤدي إلى سوء السلوك."
وفي هذه القضية التي أمامنا لم يقدم الزوج المستانف أي شيء من هذا القبيل سوى الزعم بأن الزوجة درجت على إرتداء ملابس غير محتشمة، وحتى هذه الملابس التي يصفها بعدم الحشمة، لم يدعي أنها كانت خادشة للحياء العام.
لمّا تقدم من أسباب نرى أن مغادرة المستانف ضدها لمنزل الزوجية كانت مبررة. ولذلك فهي مستحقة لنفقة لها ولطفلتها. غير أننا نرى أن مبلغ النفقة المحكوم به بمحكمة أول درجة جاء مبالغاً فيه. يجب على المحاكم أن تضع دائما في تقدير النفقة كل من احتياجات الزوجة ووسائل الكسب المتاحة للزوج في الحسبان، مع مراعاة المستوى المعيشي للزوجين. وللمحكمة الحق في تقدير النفقة وفقاً لظروف الطرفين. (انظر: رايدن ص 551). كما للمحكمة الحق في تقدير مبلغ متأخرات النفقة. ويبدأ سريان استحقاق النفقة من تاريخ نهائية الحكم. (رايدن ص 550).
هذا يطبق على النفقة الدائمة التي يحكم بها في قضايا الطلاق والانفصال القضائي وتستمر إلى حين وفاة أحد الزوجين، ولا يطبق في هذه القضية.
ونحن بعد تقدير ظروف القضية ودراستها جيداً مع الأخذ بعين الاعتبار الحجج القوية التي طرحها محامي المستانف في شأن المبلغ المحكوم به وديمومته وتطبيقه بأثر رجعي، قد استقر رأينا أن المبلغ المحكوم به يجب أن يخفض تخفيضا كبيراً وأن يبدأ سريان استحقاقه من تاريخ صدور حكم محكمة أول درجة وأن يكون مؤقتا لفترة محددة وخاضعة لتقدير محكمة أول درجة.
وأما فيما يخص الممتلكات المتنازع عليها فعلى الرغم من أن توزيع القاضي الجزئي يبدو من أول نظرة متعسفا غير أنه لدى التحقيق يتضح انه يتوافق مع قواعد العدالة والانصاف والوجدان السليم اكثر مما ورد بالمادة 85 من قانون الأحوال الشخصية للأقباط في توزيع الاموال حيث جاء بصفحة (1):
الأموال التي تثبت البينة ان الزوج قد اشتراها.، مكنة الخياطة حتى لو ثبت انه قد اشتراها الزوج يجب أن تذهب بحكم العرف إلى الزوجة.، الأواني المنزلية والممتلكات الأخرى التي تستخدمها النساء عادة والتي لم تقدم بشأنها بينة قاطعة على أنها ملكاً للزوج.، هدايا الأطفال الصغار.
للأسباب المذكورة أعلاه بهذا يعدل قرار القاضي الجزئي المؤيد بقرار قاضي المحكمة الأعلى ليقرأ هكذا:
1- يدفع المستانف نفقة شهرية للزوجة وطفلتها قدرها مبلغ 17 جنيهاً بدءاً من يوم 5 مايو 1959
2- يكون الأمر أعلاه صالحاً لمدة سنة واحدة ثم يعاد فيه النظر بعد مرور السنة.
3- تأييد الأمر بتوزيع الممتلكات المنزلية على النحو المطالب به.
4- إلغاء الأمر باستحقاق المستانف ضدها لرسوم ناقص رسوم النفقة المتأخرة.

القاضي/ محمد أحمد أبو رنات/ رئيس القضاء:
أوافق.

هوامش المترجم:

(1) ترجمناها من الإنجليزية إلى العربية عن "مجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة 1959 ، Sudan Law Journal and Reports, 1959
وحذفنا أسماء الأطراف وأسماء الشهود.
(2) كانت ولا تزال قضايا الأحوال الشخصية لغير المسلمين بالسودان مثل الزواج والطلاق والمواريث والتركات والوصية إلخ. تنظر أمام المحكمة المدنية وليس أمام المحاكم الشرعية.
(3) المسائل القانونية التي ناقشها هذا الحكم لا تزال مطروحة أمام المحاكم الشرعية والمدنية إلى اليوم. علما بأن الضرب وسوء المعاملة (الطلاق للضرر) أحد أسباب طلب الزوجة الطلاق، قد استقر في القانون السوداني قبل صدور قانون الأحوال الشخصية للمسلمين السوداني لسنة 1991.
(4) عبد المجيد إمام، هو القاضي المعروف، ولد بأم درمان، وتخرج بمدرسة القانون بكلية غردون (جامعة الخرطوم) سنة 1940 (الدفعة الثانية). توفي سنة 1999.
(5) مبارك زروق، هو المحامي والسياسي المعروف. ولد بأم درمان، تخرج بمدرسة القانون بكلية غردون (جامعة الخرطوم) سنة 1940 (الدفعة الثانية). توفى في الخمسين من العمر سنة 1965.

عبد المنعم عجب الفَيا – 17 يناير 2023

abusara21@gmail.com

 

آراء