قضية دارفور.. اللِبيد ما بنفع
مشكلة دارفور يحلها أهلها والشوكة بمرقوها بدربها
على الحكومة أن تعيد الثقة أولاً في منسوبيها من دارفور قبل حوار المتمردين
أقدار الله واوضاع ومواقف الذين يكتبون في السودان وضعتني في موقف غريب، فأكثر الذين يكتبون في السياسة من المحترفين ومن غيرهم منقسمين بين معارضين للحكومة وموالين لها.. المعارضون للحكومة لا يرون فيها خيراً البتة،
ويخصصون أقلامهم للنيل منها حقاً وباطلاً، أما الموالون فهم لا يجدون سبيلاً غير ذلك، أما للتصدي للمعارضين غير الموضوعيين، أو لأن بعض الحاكمين لا يحبون أن يسمعوا غير ما يسرهم، وهذا المنهج أخفى مكاسب عديدة حققتها الحكومة وحزبها المؤتمر الوطني، وأخفى كذلك المناصحة الصادقة للحاكمين والمعارضين معاً.
ولأنني التزم في كل حياتي منهج التحرك في المكان الشاغر فإنني وجدت نفسي أكتب في المساحات الخطيرة والتي صارت شبه محظورة، ولعل ذلك ما يجعل كثيرين يتساءلون «جمال دا شايت وين؟».
فالمعارضة أحاول كثيراً أن اناصحها بالحسنى، وأذكرها بدورها الوطني وانصفها متى ما وجدت لذلك سبيلاً، اما اخواني الحاكمين فأترك تزيين ما يفعلون لمن تخصصوا في ذلك من اخواننا الذين يكتبون وهم كثر، إلا في بعض المساحات التي انهزموا فيها داخلياً مثل انفصال الجنوب الذي تم في عهد حكمنا - الحركة الاسلامية - ونحن أكثر من أعطى للجنوب وتواصل معه بصدق، ولكن ميراث السنين المتراكم من حكومات بلادنا الوطنية المتعاقبة منذ الاستقلال كان أكبر من جهدنا فانفصل الجنوب في عهدنا، وهو انفصال رغم انه ضد رغبتنا ولم نكن نتمناه، ولكن الحكومة انجزته بطريقة جعلت العالم كله يقف لها اجلالاً وتقديراً، وجعلتها وحزبها ومن ورائها الحركة الاسلامية الاكثر تقديراً عند أهل الجنوب لصدقهم ووفائهم بالعهد، وهذا منطق عجز بعض اخواننا عن اظهاره فأجد نفسي مضطراً للحديث حوله بأكثر من المطلوب.
ومشكلة دارفور ومساعي حلها ظلت تراوح مكانها وتتقدم خطوة نحو الحل السلمي وتتراجع عشر خطوات للوراء، وهذه الايام انفتحت عدة ابواب لحلها، ولأننا نخشى لو اغلقت هذه الابواب كما انغلقت سابقاتها دون أن تحقق الحل المنشود، تعود علينا وعلى الوطن بمردود خطير جداً، وقد يحرق ما تبقى من بلادنا، ولذلك أردت بهذا المقال أن أدخل كل المناطق المحظورة واتحدث عن المسكوت عنه في هذا الملف، وهو لعلم الجميع مسكوت عنه في الإعلام ولكنه يدور في كل المحافل ويتحدث عنه المحسوبين على الحكومة والموالين لها بصدق أكثر من غيرهم.
فقبل أيام قاد مستشار رئيس الجمهورية مسؤول ملف دارفور الدكتور غازي صلاح الدين وفداً وزارياً رفيعاً الى ولايات دارفور الثلاث حاملاً ثلاثمائة مليار جنيه (بالقديم) لإقامة مشروعات تنموية في الاقليم، وبعد عودتهم بيوم واحد وجه السيد رئيس الجمهورية وفد الحكومة المفاوض للتوجه الى العاصمة القطرية الدوحة لاستئناف الحوار مع الحركات المسلحة المتمردة، وذلك بعد أن تم سحب الوفد نهاية العام الماضي لانقضاء الأجل المحدد للتفاوض دون حسم مسألة السلام والوصول الى اتفاق، ويعتبر هذان المحوران ـ محور التنمية ومحور التفاوض ـ من أهم محاور الاستراتيجية الجديدة لسلام دارفور، والتي تم اقرارها مؤخراً، والمحاور الخمسة هي: الأمن، والمصالحات، والعودة الطوعية، والتنمية، والمفاوضات، وهي محاور اعتقد لو أن الحكومة وصلت الى نتائج حاسمة فيها سوف تحسم مسألة دارفور وتعيد السلام الى المنطقة.
وبرغم أن مشكلة دارفور عميقة الجذور، وأنها بدأت منذ وقت سابق لمجئ الانقاذ بسنوات عديدة، لكنها تفاقمت في هذا العهد، وهو أكثر عهود الحكم الذي كان من المفروض أن يشهد حلاً شاملاً للأزمة، وهو عهد حكم الحركة الاسلامية ذات الوجود المقدر في دارفور، والتي تضم بين صفوفها مجموعة كبيرة من القيادات من أبناء الاقليم، ولكن يبدو أن المزايا التفضيلية للحركة تحولت الى ميزة سالبة ساعدت في اشعال النار أكثر مما هي مشتعلة، فعندما حدث الانشقاق في صفوف الحركة الاسلامية والمؤتمر الوطني، فإن أكثر الاسلاميين من أبناء دارفور انحازوا لجانب الدكتور حسن الترابي في المؤتمر الشعبي وصاروا معارضين للحكومة، أشهرهم الدكتور علي الحاج محمد والدكتور محمد الامين خليفة والدكتور الحاج آدم محمد والمهندس الصافي نور الدين والمهندس يوسف لبس وغيرهم، ثم بعد فترة خرج من ذات الصف الشعبي دارفوريون آخرون كوَّنوا حركة العدل والمساواة بقيادة الدكتور خليل ابراهيم وشقيقه الدكتور جبريل والمهندس ابوبكر حامد والاخ أحمد آدم بخيت والاخ عبد الرحمن جاموس وآخرون، ولقد ذكرت في مقالات سابقة ان انحياز أهل دارفور بصفة خاصة وأهل غرب السودان بصفة عامة للدكتور الترابي لسابق تقدير للدكتور الترابي وتواصل مع أهل تلك المنطقة، وأشرت في ذلك لقصة حدثت عام 3891م عندما كنت مسؤولاً عن مكتب المناشط في امانة الطلاب بالحركة الاسلامية وعرضت اقامة اسبوع للوحدة الوطنية في حاضرة جنوب السودان جوبا، تشترك فيه مجموعة من القيادات السياسية من الجنوب والشمال، منهم الدكتور حسن الترابي والدكتور علي الحاج والسيد محمد داؤود الخليفة والبرفيسور محمد عمر بشير والفريق جوزيف لاقو والفريق جيمس طمبرة، فعندما سألني الدكتور الترابي عن الطالب الذي يتولى السكرتارية الثقافية لاتحاد طلاب جامعة جوبا الذي كان يقوده الاسلاميون برئاسة الاخ عبد القادر اخبرته أن اسمه حسين اركو مناوي من أبناء دارفور «وهو الشقيق الاكبر لمني اركو مناوي»، فقال لي إن أولاد الغرب «شطار» ويُعتمد عليهم.
ولكن انشقاق الاسلاميين كانت دارفور أكثر من دفع ثمنه، فأبناء دارفور في الشعبي تولوا مواجهة الحكومة ومعارضتها، ووقف معهم الحزب ليس من أجل دارفور وإنما من أجل اضعاف الحكومة التي استولى عليها بعض اخوانهم الذين لا يرونهم أحق منهم بها، أما الحكومة فصارت تنظر الى مشكلة دارفور والى أهل دارفور وعينها على الشعبي، فاذا قال أحد من أهل دارفور كلمة واحدة معارضة للحكومة أو مناصرة للمقاتلين حُسب على الشعبي والتمرد وصار من المغضوب عليهم، أو رُكن في رف المهمشين، ولعل الاخ السفير الشفيع احمد محمد أول من شرب من هذا الكأس، فعندما كان أميناً للامانة السياسية للمؤتمر الوطني، وهو واحد من القلائل الفاعلين من أبناء دارفور الذين اختاروا موالاة المؤتمر الوطني بعد الانفصال، فعندما قال كلمة عارضة في حديث تلفزيوني ايجابية في حق الدكتور خليل أُبعد من الامانة السياسية وأُعيد موظفاً في وزارة الخارجية لاعلاقة له بملف دارفور، وهو من أكثر الناس الذين كان من الممكن أن يكون لهم عطاء ايجابي في هذا الملف.
هذه الطريقة التي تعاملت بها الحكومة مع الشفيع لم تقف عنده وحده، ولكنها طالت كل أبناء دارفور في المؤتمر الوطني حتى صاروا جميعاً مهمشين في ملف دارفور، ومحظوظ منهم من تمت المحافظة عليه موظفاً في الدولة وزيراً أو سفيراً أو دون ذلك، شريطة ألاّ تكون له مساهمة في قضية أهله ومنطقته، وبعضهم عاملتهم الحكومة معاملة لا تليق بهم مثل الفريق أول ابراهيم سليمان الرجل الدارفوري الاصيل والقيادي العسكري المحنك، هذا الرجل مُنع مرة من السفر الى الجماهيرية الليبية لحضور مؤتمر أهل دارفور الذي عقد هناك ولم يسمح له إلا بتدخل العقيد القذافي الذي أرسل ساعده الأيمن أبوبكر يونس في طائرة خاصة حملت الفريق ابراهيم سليمان الى طرابلس للمشاركة في مؤتمر أهل دارفور، ومعروفة معاناة حسين برقو مع الاعتقالات والاهانات التي لم يوقفها إلا تحسن العلاقات مع الجارة العزيزة تشاد، فلو أن الحكومة ظلت على هذا النهج الاقصائي لأهل دارفور وقياداتهم من ملف الازمة فإنها لن تصل الى تسوية لهذا الملف أبداً، ولو لم تثق الحكومة في منسوبيها من أبناء دارفور لن يثق فيها المتمردون من أهل هذا الاقليم، وكنا قد حمدنا الله كثيراً عندما بدأت الحكومة تدشين الاستراتيجية الجديدة لسلام دارفور بأهل دارفور عبر الوفد النيابي الكبير لأبناء الاقليم الذي قاده الاخ مهدي ابراهيم محمد، وهو موصول الجذور بدارفور نيابة عن رئيس المجلس الوطني الاستاذ احمد ابراهيم الطاهر، وينوب عنه الفريق أول ابراهيم سليمان، وكان مقرر الوفد الدكتور الفاتح عز الدين الذي له تقدير خاص عند أهل الغرب عموماً بما أبلى في محافظة غبيش، وضم الوفد أكثر نواب دارفور في المجلسين ـ الوطني ومجلس الولايات ـ وكان لي شرف المشاركة في هذا الوفد، ولقد استبشر كل أهل دارفور خيراً، وطرحوا قضيتهم كما لم يطروحها من قبل، وكنت أتمنى أن يتواصل الحوار بين أبناء دارفور الذين يمثلون أهلهم في الهيئة النيابية وبين أهلهم في الاقليم وبين حكومة السودان، ولكن فجاءة انقطع المشوار.
إنَّ أهل دارفور أهل حكمة وأهل تجارب ولهم موروث في المصالحات وتسوية القضايا العالقة لايوجد عند غيرهم، وهم أهل إرث قديم في الحكم أورثهم حكمة صاغوها حكماً يديرون بها شؤونهم، وأذكر أول ما سمعت من حكم في تلك الزيارة للقول إن حل أي أزمة لابد أن يكون بملامسة أسبابها، قال احد الاخوة «شوكة بمرقوها بدربها»، فمثلاً إذا طعنت المرء شوكة في قدمه، لا يمكن أن يخرجها عن طريق الساق، وكذلك مشكلة دارفور. ومشكلة النظرة غير العادلة لأهل دارفور وأهل الغرب عموماً ليست جديدة، ولكن انعكاسها السالب ظهر بصورة واضحة على مشكلة دارفور التي تريد الحكومة ان تحلها بعيداً عن أهل الاقليم، فمنذ وقت بعيد ينظر الناس في السودان لأهل الغرب بريبة وشكوك، ويسمون اشيائهم بغير ما يسمون بها نظائرها عند الآخرين، فأي تجمع لأبناء الغرب وأي عمل يجتمعون عليه هو عمل عنصري وجهوي، بينما ذات الاعمال عندما يقوم بها غيرهم من أبناء المناطق الأخرى فهي تجمعات إجتماعية أو جمعيات تنموية أو تعاونية أو غيرها، واعتراض أهل الغرب على أي شئ فهو تمرد، بينما اعتراض غيرهم هو معارضة، تفاكرهم مؤامرة وتفاكر غيرهم مشاورة، ومن بعض افرازات هذه النظرة غير العادلة أنه في الوقت الذي توجد فيه الآن عشرات الدور لأبناء مناطق أهل السودان في العاصمة القومية لخدمة هذه المناطق، تخلو العاصمة كلها من دار واحدة محترمة لأي تجمع من تجمعات أبناء غرب السودان، وهذا الامر يباعد بينهم وبين المركز، ويجعلهم لا يثقون في نصرته لقضاياهم مهما فعل، وهذه قضايا مهمة يجب ءخذها بعين الاعتبار.
أعلم أن ما قلت وأقول لا يرضي كثيرين من الذين يتعامون عن الحقائق ويريدون أن يكونوا مثل النعام يخفون رؤوسهم عن أعين الناس، ولكنني آثرت أن أكون أكثر صدقاً، وأن أنقل ما أشاهد وأرى وأسمع بشفافية عالية، فبعد ذلك «اللِبيد ما بينفع»، وكل من اراد الاستوثاق مما أقول عليه أن يذهب الى أقرب من يعرف ويثق فيه من أبناء غرب السودان ويثق في ولائه للحكومة وللمؤتمر الوطني وللحركة الاسلامية، ويسأله هل ما أقول له مصداقية في أرض الواقع، أم أنه غير ذلك، فلو صدق معه محدثه سيقول له أضعاف ما أقول، ولو تحفظ وتوجس، فسوف يؤمن على كل ما أقول، وقد يزيد قليلاً «وما أريد إلاّ الاصلاح ما استطعت.. وما توفيقي إلاَّ بالله عليه توكلت واليه انيب».
Gamal Angara [gamalangara@hotmail.com]