قـرع الأجـراس

 


 

عمر العمر
21 November, 2020

 

 

ما بُني على خطأ فهو فاسد. إتفاق جوبا يشوبه فساد غير قليل إذ تم تركيبه على فساد في الرؤى. التضاد بين شركاء داخل معسكر نهر الثورة المديد خطأ فادح . لم يستبن الشارع بعد كيف ارتضى الطرفان التقابل المبني على التدابر ؟ بل مَن نقل مَن إلى الضفة المقابلة . أكثر من ذلك لئن قبل طرف نصب طاولة التفاوض خارج أسوار الوطن فكيف ارتضى المفاوض باسم السلطة ذلك الجحود في حق الثورة، الثوار والشعب؟ مع ذلك ربما يتيح لنا إتفاق جوبا الإنتقال من التورط في مستنقع الصراع إلى إدارة الحوار إن أحسنا جميعاً تنقية الإتفاق من فساد المخاض والميلاد. تلك مهمة تتطلب منهجا جديداً نبرؤ به من التورط في التقلّب بين مواجع الماضي والحاضر إلى استشراف المستقبل. أي إجتراح "براديم " مغاير منشغلٍ بشغف صناعة الغد الواعد.

*** *** ***

بين الطرفين المتقابلين على جانبي طاولة التفاوض أيادٍ ساهمت في ركام فساد نظام الإتقاذ . بينهما وجوه جلادين ساهموا في عذابات الشعب إبان العقود العجفاء الثلاثة. بينهم من أشعل نار الفتنة ، أحرق مساكن االفقراء ، منهم من ولغ في الدماء. فكيف يصبح الشيطان ملاكاً! ثمة مقاعد جلس عليها إنتهازيون فنالوا شرفا زائفا لا يليق بأدوارهم القديمة والمصطنعة. مع هذا وذاك جاء الإتفاق وثيقة استسلام مقهورٍ أمام إرادة غلاب. كل النصوص إملاءات من قويٍ منتشيٍ على ضعيف مهزوم. ليس ثمة تنازل من طرف المنتصر بينما تعهد الطرف الآخر تقديم تنازلات فوق طاقاته. راجع مقالي المعنون "ظالم عصي مرتبك" المنشورر في 10اكتوبر 2020.
*** *** ***

إتفاق جوبا محاكمة ظالمة من قبل قضاة غير مؤهلين بكل المعايير لبنات وأبناء أقاليم السودان. القضاة الجلادون وبينهم قتلة تجردوا من الموضوعية كما تجردوا من قبل من الأخلاق وافتقروا إلى نفاذ الرؤى كما افتقروا من قبل إلى الوطنية ففاضت الوثيقة بأحقاد رذيلة . القضاة وكلهم سدنة لم يكتفوا بإدانة أؤلئك الأبرياء بجرائم زوراً وبهتاناً بل رجموهم بعقوبات مجحفة بالغة في القسوة. تلك الأحكام صدرت والمتهمون غيابا. إذا عانت دارفور وجنوب النيل الأزرق من فساد وظلم الإنقاذ فابناء الأقاليم الأخرى دفعوا كذلك تحت ويلات ذلك النظام من أقواتهم ، دمائهم وأرواحهم.
كل أبناء السودان في الشمال، الوسط، والشرق نالوا أنصبة متفاوتة من ظلم حفنة محسوبة عليهم استأثرت بالسطة والثروة منقبل ومن بعد. من هؤلاء من تعرض للطرد والمطاردة ، الإعتقال المفتوح والزج في الزنازين العتمة والتشريد القسري منذ صبيحة انقلاب الحفنة المارقة.النظام الفاشي نجح في تجنيد عدد كبير من " المهمشين" حراسا منفذين لمشروعه الحضاري فمارسوا أبشع الممارسات اللاخلاقية من ضرب الصبايا إلى إغتصاب الرجال.
*** *** ***

حتى نسمو بإتفاق جوبا عن رواسب الماضي والحاضر المتخثرة ينبغي الإعتراف بصدور تلك المحاكمة الظالمة عن إفتراءات مغلوطة. الحديث الساذج عن استئثار أقاليم بحقوق التنمية لا يصدر فقط عن عقلية مسطحة بل يجافي الواقع. هناك حقائق جيوغراديمقرافية ينبغي استيعابها. مناطق الشمال ظلت طاردة نتيجة شح مواردها. شيخ المؤرخين بابكر بدري أوجز تلك الحقيقة السوسيولوجية حسب توصيف أحد أساتذتنا المرموقين في أربع كلمات " السافل يلد والصعيد يربي". ضرب أؤلئك قي أصقاع الوطن شرقا ، غربا ، وسطا وجنوبا. لا تخلو مدينة ذات ثقل تجاري أو مركز استراتيجي على خارطة الوطن لا تجد فيها أحياء سكنية مسماة بقبائل من السافل.
هؤلاء استوطنوا أينما ذهبوا، تزاوجوا ، تصاهروا تناسلوا فساهموا في إثراء القماشة القومية متعددة الأعراق. هذا بعضٌ من مساهمات "الجلابة "الوطنية. هم من وقف بفعل انتشارهم وراء فوز الحزب الوطني الإتحادي وهزيمة حزب الأمة في الإنتخابات الأولى حسب تقرير وليام لوس مستشار الحاكم العام . في سفره المرجعي المعنون "الحركة السياسية السودانية والصراع المصري البريطاني" يقول الأستاذ فيصل عبد الرحمن علي طه دلالة على ذلك الإنتشار يعتقد لوس " أن الحزب الإتحادي أفاد كثيرا من طبقة من صغار التجار وأصحاب الحوانيت الذين ينتمي أغلبهم إلى قبائل نهرية ختمية بالولاء واتحادية بالإختيار منتشرة على هيئة شبكة في الأرياف والمدن والقرى الصغيرة ".
*** *** ***

لمّا جاءت تيارات الحداثة الوافدة عبر الشمال فقد تأثرت تلك القبائل ببعض ما حملته. مما يحمد لتلك القبائل - بعضها يتحدّر من منابت حضارة عريقة - إدراكها منذ وقت مبكر أهمية التعليم في التنمية على مستوى الفرد، العائلة ،القبيلة والوطن فسخّرت عائلا ت إمكاناتها لتعليم أبنائها ولو عبر نظام تكافل قبلي أحايين. هكذا تجد أباء يرسلون ابناءهم إلى أقربائهم في مدن نائية كما تجد عائلات تفتح بيوتها لتلاميذ من خارج شبكة أرحامها أحياناً. يحدث ذلك بينما كانت قبائل ترفض إلحاق ابنائها بالمنظومة التعليمية أو تتأبى فتح مدارس في مناطقهم تحت أوهام تخلف عتيقة. هكذا ساهمت قبائل الشمال في توسيع رقعة الوعي في أرجاء الوطن. هي محقةٌ في الشعور باجحاف إتفاق جوبا في حقوقها بل القسوة عليها بتحميلها ما لا طاقة لهبه دون جريرة. كيف يستقيم الحكم بوقف حركة مجتمع ما من أجل دفع حركة مجتمع آخر بحجة لحاق الآخر بالأول! العقل يفترض إنماء المناطق المتأثرة بالحرب عبر برنامج متكامل مدروس ليس عبر فرض أتاوات مالية مهولة مقطوعة في وضع إقتصادي مأزوم.
*** *** ***

لهذا يبدو الضجر الناجم عن إتفاق جوبا في بعض جنبات الوطن شعورا مشروعا. ذلك احساس ساهم في تهييجه مشهد وصول الموقعين على الإتفاق والإحتفاء بهم في ساحة الحرية. المناسبة وكيفية إخراجها تفضحان عقلية من المفترض جرى كنسها في مهب رياح الثورة العارمة. التصريحات المتواترة عن محاصصة مقاعد السلطة لا تزيد فقط من هيمنة تلك العقلية بل تشي - وهي مصحوبة بممارسات فجة- بسعار ينم عن نزعة ثأرية. تلك النوبات المتشنجة تفضي حتماً إلى ردود فعل غير عقلانية . تلك حقيقة فيزيائية؛ لكل فعلٍ ردُ فعل مساوٍ له و مضادٍ في الإتجاه. ثمة أطراف تتحفز كي تحصي إنتماءات شاغلي المناصب في هياكل الدولة المرتقبة. ذلك تحفز ينذر بنوبات إلتهاب مجتمعية سالبة . لهذا ينادي العقلاء بإعلاء معايير الكفاءة على الإنتماءات الإقليمية الضيقة في الإختيار. تكريس المحاصصة تحت أي الدعاوى يفتح الأفق أمام نقض قماشتنا القومية الواهنة عوضاً عن شد عصبها. لكم العبرة البيّنة في لبنان والعراق.
*** *** ***

لذلك كله ينبغي على كل الأطراف الإنضباط وعدم الإنجراف وراء المشاعر غير الناضجة. من المهم كبح ردود الفعل االموتورة المتناثرة في بعض الأمكنة .
الأهم الإبقاء على درجة اليقظة الوطنية عالية بغية معالجة مظاهرسلبية ستطفو على السطح حتماً في سياق الفعل ورد الفعل مع تدني درجة أوربما غياب الوعي المطلوب. من المناسب استدعاء مقولة روجيه غارودي" الثقافة أولا والتنمية ثانيا" وإحلال الوعي مكان الثقافة ليستقيم حالنا. كما لن يحدث تطور إجتماعي خارج مساحات التنمية وآليات الإقتصاد الحديث فلا جدوى من جهود لا تعزز الحس القومي. الرهان على المبشرين باتفاق جوبا مسؤولية أكبر في تجذير السلم والسلام. على كل الأطراف المعنية ببناء مستقبل آمن إدراك وجود أعداء في حالة تربص للإرباك والتعطيل.
*** *** ***

واهمٌ من يرى في إتفاق جوبا نهاية لتراجيديا الحرب والسلام . على نقيض ذلك، الستارة تفتح على فصول جديدة .أبطال بعضها هواة للعب خلف الكواليس .نحن مقبلون على إعادة كتابة سناريوهات تحالفات بعضها مبتذل لا تستهدف إ ثراء تجربة الشعب. بين الجمهور من يعرف ثقافة الكتبة، قدرات المخرجين وإمكانات الممثلين. كلهم يعودون للعروض المضجرة المملة لكن الجماهير كاتبة نص الثورة البديع لن تسمح بإعادة إنتاج مثل تلك الأعمال على الخشبة الوطنية .

aloomar@gmail.com

 

آراء