قُنصُل مَا شـافـش حـاجَـة !!
(1)
الجريمة الكبرى ، تقع وقد لا يفطن المحققون لأدوارٍ قام بها البعض ، يحسبونها صغيرة ، فتكون عند المحك، أكبر مما يتصوّر الناس. . !
ولأني بحكم مهنتي الدبلوماسية السابقة، وقد كنت يوماً قنصلا بسفارة بلادي في العاصمة السعودية، قبل سنوات خلتْ، فإني أنظر من زاوية تخصّني بصفةِ شخصية، إلى الذي جرى في قنصلية المملكة السعودية في اسطنبول، فأستعجب ممّا وقع وممّا رابني من مسلك مرتبك للسيد "العتيـبي" قنصل عام المملكة السعودية في اسطنبول.
إن اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963م، أبانت من غير لبسٍ مسئوليات ومهام فناصل الدول في البلدان الأجنبية . على أن التاريخ الدبلوماسي حفل بقصص شتى حول مدى التزام الدبلوماسيّ أو القنصل، بقول الصدق من عدمه. من مأثور ما يُحكى في المراجع الدبلوماسية، قولٌ للسير "هنري ووتن" المبعوث الدبلوماسي البريطاني الذي عاش في القرن السابع عشر الميلادي، قوله: "إنّ السفير هو رجل أمين بعثت به دولته إلى الخارج لكي يكذب من أجل مصلحة بلاده" . .
ما رأيتُ دبلوماسياً أو قنصلاً ، إنطبق عليه فحوى هذا القول المأثور، أكثر من السيد "محمد العتيـبـي" قنصل المملكة السعودية في اسطنبول. . !
(2)
من أوكد مهام الممثل الدبلوماسي والقنصلي ، أن يقدم لرؤسائه ولولاة أمره من السياسيين، النصح حول ما يلي إنجاز مهامه، وما يتصل بعلاقة دولته بالدولة التي اعتمد فيها. فإن بلغته توجيهات أو تعليمات، ورأى من جانبه، أن عقبات تكتنف تنفيذها، فعليه- مستصحباً ما اكتسب من مهنيته الدبلوماسية- أن ينصح لو اشتم فيها مخاطر قد تسيء لصورة بلاده أو تشينها.
من المؤسف أن تكون مكاتب قنصلية دولة ما ، مسرحاً لتصفية مواطن يتبع لها ومن معارضي حكومتها ، وتنفذ بصورةٍ مروّعة، والأغرب أن يكون قنصلها شاهداً- وربما مشاركاً- في تلك التصفيه المروّعة، وهو في آخر الأمر ضيفٌ في ذلك البلد الأجنبي. بفترض وبحسب الاتفاقيات الدولية المرعية، أن تقوم قنصلية ذلك البلد بحماية رعاياها، لا أن تتآمر لمطاردتهم وملاحقتهم، بل وأن تعدّ فخاخاً لاصطيادهم وتصفيتهم، على النحو الذي رأينا عليه حال القنصلية السعودية . لم يكتفِ القنصل بالقيام بلعب دورٍ في ذلك الفخ، بل يواصل تلك التمثيلية الفجّة حتى نهاية فصولها ، فيفتح مكاتب قنصليته - وبعد أيام من تنظيف المسرح- للصحفيين وممثلو الإعلام، لمعاينة إن كان الصحفي جمال خاشقجي قد أخفته القنصلية في مكاتبها.
(3)
من المثير للضحك، تلك الفقرة التمثيلية التي قدّمها ذلك القنصل، إذ شاهدناه يطوف أمام مصوّري القنوات الفضائية ، من مكتب إلى آخر، ويفتح الأبواب ويرسل بصره إلى أرفف المكتب ودواليبه وخزاناته وأوراقه، بحركاتٍ مسرحية غاية في البلاهة. مَن له أقلّ دراية بلغةِ الجسد، يستطيع أن يستنتج، كيف أنّ الرجل أبقى يديه مخفيتين في جيوب بنطاله طيلة جولاته مع الإعلاميين ، بما يوحي أنه وبالتأكيد، يخفي شـيئاً ما، أو هو يتعمّد أن لا يبوح بكلّ ما يعرف. . !
وإني لأعجب كذلك، من صمت رئيس البعثة الدبلوماسية في العاصمة التركية "أنقـرا". بمقتضى الحال والأعراف والتقاليد الدبلوماسية المرعية، فإن القنصلية في "اسطنبول" ، تكون تحت إشراف السفارة الأمّ في العاصمة "أنقــرا" . غير أننا لم نسمع للسفارة السعودية صوتاً أو موقفاً، في كافة مراحل التحقيق في وقائع الجريمة البشعة، التي جرت في قنصلية المملكة في "اسطنبول". إنّ القنصليات في أكثر الأحوال، فروع من البعثة الدبلوماسية الأم ، ولا ينبغي- بنقتضى الحال- أن تمنح نفسها استقلالاً إدارياً كاملاً عن رعاية وإشراف تلك السفارة الأم، إلا إذا قام بين الدولة الموفدة والدولة المضيفة، إتفاقٌ قنصلي خاص بينهما، يحدّد شكل التبعية وحدود الصلاحيات القنصلية، وبقية الامتيازات والحصانات . .
(4)
أما فيما يتصل بمغادرة ذلك القنصل مقر عمله وعودته إلى بلاده، فذلك أمر مريب، لا يتسق والشبهات تحوم حول وقوع جريمة جنائية كبرى في قنصليته. لعلّ الأوفق والمتوقع، أن تعمد الدولة المضيفة إلى ابلاغه على الفور، أنه شخص غير مرغوبٍ فيه، وأن عليه المغادرة في الفترة التي تحدّدها سلطات البلد المضيف، وهو في هذه الحالة وزارة الخارجية التركية. فيما الزوبعة على أشدّها، والخناق يضيق على ذلك القنصل وعلى موظفيه، كون القنصلية مسرحاً لجريمة قتل شخص معارض لحكومة البلد الذي تتبع له القنصلية ، فإن الحكومة التركية لم تبدِ تحفظاً حول مغادرته، برغم وجود ما أقنعها مبكراً، بوقوع جريمة جنائية مروّعة داخل مكاتب وسكن ذلك القنصل. لربما كانت للجانب التركي حساباته الخاصة وراء ذلك. .
(5)
تتصاعد أزمة الجريمة البشعة، وستتبعها مراجعات سياسية من قبل أطراف عديدة لعلاقاتها مع العربية السعودية. لكن تبقى للتفاصيل أهميتها، كما لها شياطينها. إنّ القنصل الذي غادر، شاهد كلّ شيء ، بل ربّما هو الذي أعدّ المسرح والديكور، واستضاف ضيوفه لانجاز المهمّة المروّعة. ولكن بقي لنا أن نقتنع أنه قنصل "ما شافش حاجة". . !
Jamalim1@hotmail.com