كان يوما ما عملاق إفريقيا المهاب!

 


 

 


Mohamed@badawi.de

يا سادتي ما أن حلَّت هذه السنة الجديدة، ألفين وأثنتا عشر، حتى أسدلت أستارها على حوادث عظام، وأحداث جسام، لقد انطفأت شمعة التفاؤل ببلد حسبه الناس يوما ما سلّة العالم للغذاء، وكان أكبر قطر بأفريقيا السمراء، لكن أكثر أهله جوعى بغياهب بالصحراء، فيا بلاد المليون ميل مربع، ها هي قد انطفأت شمعة العظمة للتوّ، فلست الملكة يا سيدتي، فلقد انقضى ذاك العهد عندما كنت "على الأولمب جالسة وحواليك العرائسَ"؛ سرى ذاك العهد، الذي كان يشار إليك فيه بالبنان؛ مساحةً وجمالا وعظمة وكِبرا وتاريخا وثروة وجاهاً من الذهب الأسود، واتساعا في بقاع الغابات والأدغال والمحميات ما تنوء باحتوائه ذوي العصبة من أقطار العالم أولي القوة. أتعرفين يا سيدتي، أن الحظ لا يطرق باب المرء مرتين؟ فهل يا تُرى نبكي ونزف الدمع الهطال على أطلال الزمن الطوال؟ أم يا تُرى نتحسّر حسرة الوفاء، لمن ثكل عزيزا لديه على دِمَنِ الرجاء؟ يا سادتي، عام مضى وفيه انتظمَت من جليل الوقائع أكبرها، ومن الخسائر اجسمها، ما لم ينتظمْ في سواه، وشهدتْ فيها أمةُ العرب من زوالِ الملوكِ، الذين تساقطوا كأعمدة ايوان كِسرى واحداً تلو الأخر ما شهدت. كانت السنة الفارطة سنة الأهوال وتبدّل الأحوالِ، وتحوّل التصاريفِ وارتفاع المصاريف بكل التعاريف ما لم يكن مثلُهُ إلا في الأزمنة المتطاولةِ، والحقب المنفسخة التي عرفها أجدادنا بلفظ (مجاعات سنة ستّة). ما عهدنا البتة أن سطّر يراع التاريخ حوادث مثل التي ألمت بنا قطّ، إذ أننا بتنا شهود عيان لتصدّع بلادنا المباركة شمالا وحلايب تبكي، جنوبا وجوبا تحكي، كما تصدعت عروش ثلاثة أو أكثر من بلدان (جامحة الدول العربية) وهل من مزيد؟
ولن ننس ملوك البلاد العربية، الذين ذهبوا في مهبات الرياح الشعبية، وإذ نزلنا مصر ولم نكن بربوعها آمنين: أُسِرَ بها أحد كبار الفراعنة، من ملوكها وجبابرتها الملاعنة، جعل الناس فيها عبيد، ومشى عليهم وعلى آلامهم وأحلامهم ويزيد، والحقُّ ما قاله أبو الطيب عندما أشعر: نامتْ نواطير مصرٍ عن ثعالبِها ... فالحرُّ مستعبدٌ والعبدُ معبودُ. كان عهده النميمة، تجاه بلادنا الحميمة، نادى بفصل الجنوب، وازدياد لفحات الهبوب، تجاه أهل السودان. وقد ذكر شعب مصر والسودان شرّ خصاله وأنه لليهود كان خير الأعوان، وهانحنذا فهمنا اللعبة، ورئيس الدولة الوليدة سلفاكير يزور إسرائيل فهي من الآن قبلته كالكعبة. ثمّ أرانا الله ما أرانا آخره، من مَلَكَ (الديموكراسي)، رأيناه وحُمنا معه في ممالك الألم زنقة زنقة إلى أن زَنَقَهُ الله زَنْقاً، ومات شرّ ميتةٍ كالبعير العنود، في قبضة ثوّار السدود، من أهل بنغازي من العتاولة الأسود.
يا سادتي، أزمانُنا عاثر الحظّ أو نحن به عاثرو الحظ؟ فأينما نولّ وجوهنا قبلة في هذه السنة نسمع أنين الحياة وشكوى النجاة. تمر السنين ونحن في انتظار عهد هدوء سكين، ننشد ستر الحال وراحة البال ولن نعدم قائلا يقول: أن عهد الإنقاذ أضيق رزقاً وأنضب حياءً وأفسد خلقاً وأقل سعادةً وأنسا من زمان مضى بتاريخ شاخ وقضى. لكن ليس الإنقاذ شماعة كل المصائب لِنُعلِّق على كاهله كل العجائب. يجب أن نقولها بأمانة: كل سوداني مسؤول، وبحال بلده مكبول، ولكننا كلنا، عن بكرة أبينا، أدبرت عن وجوهنا الصراحة وحلُكت أمام أبصارنا المساحة، فصرنا أجسادا بلا روح، وقلوب لا تنوح. أتى العام الجديد وأتت معه اتكاليتنا وجورنا ببلدنا وأهلنا وبيئتنا واستمر حالنا والحنك يتقن الثرثرة زمنا ولا شيء غيرها يحسن عملا! ربما يجوز أن نكون لزماننا ظالمين، وأننا نتحامل عليه لا لِعَيب اختص به دون غيره من الأزمنة، لكن تبرما بقساوة الحياة وفرارا من جفاف الواقع ولياذا بظلام الماضي الذي يشبه ظلام المستقبل.
إن في تلك السنة الكبيسة ضاعت أراضينا النفيسة، وانفكت من أرض النيلين الأغلال، برحيل جنوب بلادنا إلى ساحل الأدغال. يا سادتي هي أول دولة جديدة بكاها، من رفع قواعدها وبناها، بدم سال وديانا، ودمع زُرف ألوانا. ها هو المهدي وانتصاراته المجيدة، بكوها وعبد الفضيل ألماظ بقبورهم التليدة؛ دولة وليدة، انقطعت من لحم أمها المُريدة، وفي عهد الأفذاذ، من رعيل من تاهوا على بحور الإنقاذ. دولة وليدة انقطع لحمها من الوطن الذي جار على ابناءه، وانقطعت معها بركة البلاد وتبر السواد وأهل شداد وعدَّة وعتاد، وذاك أمر لن يباركه الأجداد، وذاك لعمري حدث لا يُعاد. فهل يا تُرى نبكي ونزف الدمع الهطال على أطلال الزمن الطوال؟ أم يا ترى نتحسّر، حسرة من ثكل عزيزا لديه على دمن الرجاء؟
ومن أواخر ومضات السنة الماضية في لجج ظلامها الحالكة كانت تلك اللحظة التي لقّن بها مهندس عالم بندوة زارها طاغيةٌ عرفوه "خبزة الآذان" ظالمٌ، أسمعه كلام أهل الجوع ومعاناة لحس الكوع، لكن وأسفاه، قِيد بعدها إلى مساجن الأشباح رافع الرأس بقوة الكفاح، تاركا وراءه أُمّا رؤوم، تجالسها الهموم، قالت حينها: هل يا تُرى يَرجِع من بيت الأمن إليّ، بعد أن بكته عينَيَّ؟ لم تَر البلاد شهامة مُماثلة ولم يُولد بها إلى ذاك الحين بسالة في عنفوانها مقاتلة، كتلك التي وُهبها مهندس مهموم، تسكنه الهموم بجامعة الخرطوم. هل هو بوعزيزي السودان ومن انتظرته أمنا أمدرمان عبر الحقب والأزمان؟ نهض بوعزيزي كما نهض آخرون ضد ملِك كان يحكم أرض تونس الخضراء وقيروانها العفراء جعل الله هلاكه على يديّ فتاً خريج، بعهده الجديد، تعلّم في مدرسة العطالة، خلع الجبن واقتحام الأقدار بلا مبالاة.
ورجعنا أدراجنا نعيب بلادنا والعيب فينا... وقصصنا لصغارنا أننا شهدنا أنه يوما ما كان عملاق إفريقيا المهاب!

 

آراء