كـل فـردة مـن بـلـد !!

 


 

علي يس
4 February, 2010

 

 

معادلات

 

 

** حين لقيت يوسف ، بعد فراق يقارب الثلاثين عاماً ، فسألني عن أخبار "رِفعت وطنية" ، حينها فقط ، تذكرت...

** و ما تذكرته حينها ، كان هو ما ظلّ يقلقني لما يقارب الخمسة أعوام ،منذ أن كوّنوا – في أعقاب "نيفاشا" – ما سمُّوهُ ب"حكومة الوحدة الوطنية" ، إذ إنني  ما إن سمعت بهذا المصطلح ،  حتى  أحسست بأنه ليس غريباً علىّ إطلاقاً ، و أنني سمعته ، بل و ألِفتُه ، زماناً ، وفي ظروف شبيهة  بهذه، وقد حاولت حينها أن أُنقِّب في قاع ذاكرتي عن هذا الهاجس الغامض ، ولكن لم تسعفني الذاكرة يومها ، فبقيت لما يقرب من خمسة أعوام  حائراً في سر "عاطفيّة" هذا المصطلح ..

** ثم.. أخيراً ، ألقت المصادفة وحدها ، يوسف حسين  في طريقي ..

** بعد العناق والتحايا ، مباشرة ، سألني يوسف :

-         أيه أخبار صاحبك "رفعت وطنية"؟؟

** هذا السؤال العفوي ، كان كافياً لإيقاظ ذكريات عزيزة ، وكان كافياً – أيضاً – لإزاحة الغبار عن سر إنفعالي بحكومة "الوحدة الوطنية"..!!!

** في مدرسة الخرطوم القديمة ، الثانوية ، كنّا ، يوسف و رفعت و أنا ، نسكن حيّاً واحداً ، و ندرس في صف واحد ..

** و كان السمر بين زملائنا الطلاب ، في الفترات ما بين "الحصص" غالباً ما يدور حول طرائف "مجانين الأحياء" [في زماننا ذاك ، كان لكل حي من أحياء البلد ، مجنون ، يسمونه "مجنون الحلة"]..كان أبناء كل حي يتبادلون أخبار "مجنون حلّتهم" بغير قليل من الطرب ، وربما الفخر أحياناً ، خصوصاً حين تكون أفعال مجنونهم أدخل في باب الطرافة والظرف.. الوحيدون الذين كانوا يستمعون فقط ، دون أي إسهام إيجابي ، هم نحن – أنا و يوسف و رفعت – فقد كنّا – للأسف – نسكن حيّاً ليس فيه مجنون !! وكانت هذه الحقيقة تخجلنا ، و تملؤنا حسداً لسكان الأحياء الأُخرى .. و كان "رفعت" أكثرنا حزناً من افتقار حيِّنا إلى مجنون يرفع ذِكرَهُ بين الأحياء ...

** .. عند عودتنا من إجازة نهاية العام ، منتقلين إلى الصف الثاني ، عُدنا أنا و يوسف فقط ، إذ شهدت الإجازة حادثة "جنون" زميلنا رفعت....

** عدنا و نحن متنازعين بين الحزن والفخر!! الحزن لكارثة الجنون التي ألمُت بزميلنا ورفيق دربنا وابن "حلّتنا" ، والفخر بأن أصبح لحيِّنا "مجنون" نستطيع أن نباهي به الأحياء الأُخرى!!..

** جنون "رفعت" اتخذ أول تجلياته في طريقة تعامله مع "الأحذية".. رفعت كان معروفاً بيننا بالأناقة في ملبسه، و خصوصاً في ما يتعلق ب"الجزم" ، كان رفيع الذوق في اختيار الأحذية ، ولعله كان أول من أطلق عبارة"الرجل .. جزمة"!!.. وقد اكتشفت عائلة رفعت أول علامات جنونه في طريقته الجديدة في لبس الحذاء، و ذلك حين رأوه – ذات حفل – يتأنق أناقة كاملة ، كما اعتاد ، ثم يختار من بين أحذيته العديدة الأنيقة ، "فردة جزمة " سوداء لقدمه اليمنى ، مع "فردة شبط" بيضاء ، لقدمه اليسرى ، ثم يخرج متبختراً بهما إلى الطريق.. و قد ظنوا – لأول وهلة – أن المسألة مجرّد سهو منه أو "مشغوليات" ، فنبّهوه إلى ذلك ، ولكنه قال لهم يومها قولته التي طارت مثلاً :

-         عارف ، دي موضة جديدة ، أنا أول من اخترعها .. موضة إسمها "وحدة وطنية"!!

فأُسقط في أيديهم ، واستعوضوا الله في عقله !!

** و منذ يومها ، أصبح لحلّتنا مجنون كما لبقية الحلاّل .. و أصبحنا نباهي زملاءنا بطرائفه و حكاياته .. وحالما يفرغ أحدنا من رواية طريفة من طرائف "مجنون حِلّتنا" كان يوسف ربّما أخذني جانباً ، ليقول لي باهتمام هامس:

-         رفعت ده ما اظنو مجنون بالجد .. رفعت "فدائي" ، لِقى حلّتنا ما عندها مجنون ، قام بقى ليها مجنون.. غيرة منه ساكت !!!

** ولا بد أن هواجس يوسف كانت صحيحة ، فقد عاد رفعت ، في العام التالي، معنا إلى المدرسة ، ولم يبق من علامات جنونه شيء إلا موضة "وحدة وطنيّة " .. فقد كان لا يقبل نقاشاً في منهجه في لبس الحذاء ، ناصحاً من يجادله بأن يحتفظ بنظرياته لنفسه [ رفعت الآن – و هذا ليس اسمه الحقيقي – أحد أخطر الممثلين الكوميديين ، وهو أيضاً كاتب خطير، ] وقد علمت ، منه شخصياً ، أنه أقلع عن موضة "وحدة وطنية" في لبس الحذاء "كل فردة من بلد"، بعد أن أصبح منهجه ذاك – قال – منهجاً قومياً ، في أعقاب "نيفاشا" و تكوين حكومه الوحدة الوطنية "كل فردة من بلد " على حد قوله !!!

** الآن فقط ، أدركت وجه الشبه الذي جعلني أتذكر " رفعت وطنية " حالما تكونت "حكومة الوحدة الوطنية ".. مع الفارق طبعاً ، إذ إن "حكومة" رفعت وطنية ، كانت أكثر إنسجاماً ، من "حكومة " نصفها يكره إسرائيل ، و نصفها الآخر يحب إسرائيل !!!!!

ali yasien [aliyasien@gmail.com]

 

آراء