أكتب اليوم عن الباشمهندس أحمد عمر خلف الله، أطال الله عمره الذي جاوز العقد التاسع....ما شاء الله تبارك الله، ومتعه المولى بالعافية والسؤدد وراحة البال فيما تبقي من أيامه المجيدات؛ فقد سكن في بناية مجاورة لي لعدة سنوات بأبو ظبي، كنا خلالها نؤدي صلواتنا في نفس المسجد ونعقبها بجلسة أنس دكاكينية تنساب فيها الذكريات من رجل حديدي الذاكرة لدرجة مذهلة؛ كما عايشته بهذه البلاد منذ عام 1990 عندما أتيت لها مفصولاً للصالح العام من جامعة الجزيرة، بينما ظل هو مقيماً بها منذ عام 1976 مؤسساً ومديراً لدائرة الأشغال بإمارة أبو ظبي، ومشرفاً على نهضتها العمرانية حتى تقاعد بمحض إرادته بعد ربع قرن، وعلى الرغم من إلحاح السلطة المخدمة عليه بالإستمرار؛ بيد أنه جبر بخاطرها أخيراً ووافق على الإستمرار كمستشار. وكان قد قال للشيخ رئيس الدائرة: (لقد بلغت الثمانين من العمر، ولا احتاج لأي شيء. خدمت بلدي لخمس وعشرين سنة، وخدمتكم لنفس المدة. أما البيت فقد بنيته بالخرطوم بحري قبل أن أجئ هنا. وأما ولدي وبنتاي فقد تعلموا وتخرجوا والآن يعملون بحمد الله؛ الإبن عبد الرحمن بروفيسير جراحة بجامعة أكسفورد بإنجلترا والبنتان هنا. ولا أريد من الدنيا أكثر من ذلك.) وهو بالمناسبة الشخص الوحيد الذى أعرفه وسط الوافدين الذي يتعامل بشهادة ميلاده الأصلية، والشخص الوحيد الذي لا يتلجلج ولا يخجل من الاعتراف بعمره الحقيقي. قال له الشيخ: " ما يبيِن عليك، (بتشديد الياء الثانية، أي ما زلت تبدو شاباً نشيطاً ومقتدراً،)....إبق معنا بنفس المخصصات والسكن كمستشار." وبالفعل وافق الباشمهندس، وظل يعمل حتى الآن مستشاراً لرئيس دائرة الأشغال، غير أنه ظل حبيس المنزل في الآونة الأخيرة لظروف صحية، وما انفك يلقي كل التقدير والإحترام منقطع النظير من المسؤولين بهذه الدولة، باعتباره رمزاً وشاهداً على البنية التحتية التى شيدها بإمارة أبو ظبي الراحل العظيم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان - من طرق محلية وعابرة وجسور ومبان حكومية ومدارس ومساجد ومستشفيات وحدائق عامة وغير ذلك من أعمال إنشائية عمرانية و public utilities ، منذ 1976 حتى الآن؛ فقد عرف شيخ زايد كيف يستأجر لنهضته الحضارية "القوي الأمين"، ألا وهو الباشمهندس أحمد عمر خلف الله، كما اهتدى للعديد من أمثاله من المهنيين السودانيين الممتازين الذين عملوا بكافة أنحاء الإمارة والدولة. وفي هذه الأثناء، ومنذ أن كان أحمد مؤسساً ورئيساً لهيئة الطرق والكباري بالسودان، وطوال ربع قرن كمدير لأشغال أبو ظبي، لم يبحث الباشمهندس عن عقارات خاصة أو أملاك أو مقتنيات أو ثروات....غير البيت ذي الطابق الواحد الذى بناه بالخرطوم بحري في مطلع السبعينات؛ وظل مقيماً بفيلا حكومية بسيطة ثم شقة عادية في أبو ظبي، ومتنقلاً بسيارة حكومية عادية، ولا يعرف عنه بذخ أو سفاهة أو حتى مجرد تدخين أو تعاطي أي حرام. إنه عملة نادرة جداً أهداه السودان لهذه البلاد التى عرفت كيف تستفيد من خبراته، وأحسنت نزله وكرمته أيما تكريم. فهذه الثقة المطلقة في توقيعه الذي يذيل به العقود - خاصة مع المقاولين والشركات الأجنبية - هي خير تكريم لشخص نزيه عف اليد واللسان وصارم وحازم ونظيف الطوية وذى أخلاق رفيعة، لا يعرف شيئاً إسمه الكمشن أو الرشي او الواسطة أو الطرق الملتوية، ومتمكن من مهنته ومواكب لآخر معطياتها وتقنياتها، وغزير العلم وواثق من نفسه، وفوق ذلك شديد التواضع ونكران الذات، لا تلقي من لدنه إلا سلاسة المعشر وطيب النفس وطلاوة الأنس وحلاوة القصص. منذ أن أصبح الباشمهندس مستشاراً لدائرته أخذ يختلف على النادي الإجتماعي الثقافي السوداني بأبو ظبي، ويجلس مع الشباب في الحديقة ويروي لنا ذكرياته منذ الطفولة: ولد الباشمهندس عام 1927 بأم درمان – حي البوستة / العمراب – لأب يعمل بالتجارة، وخاله خلف الله بابكر الذى كان وزير إعلام حكومة ثورة أكتوبر 1964 (راعي ليلة المتاريس وتالي بيانها من المذياع الذى استدعي الجماهير لتخف لحماية دار الإذاعة والتلفزيون من انقلابيين متربصين)، وهو نفس العام الذى ولد فيه عبد الخالق محجوب عليه رحمة الله أحد مؤسسي وأمين عام الحزب الشيوعي حتى اغتياله عام 1971 بواسطة نظام النميري. وقال الباشمهندس إنه كان أول صفه بالمرحلة الإبتدائية، ولكن فى المرحلة المتوسطة والثانوية (كلية غردون) بأم درمان، ترك "الأولية أي البرنجية" لعبد الخالق محجوب الذى كان بلا منازع في ذلك الموضع حتى امتحان شهادة كيمبردج للدخول للجامعة التى كان إسمها "كلية غردون التذكارية" بالخرطوم. وقال إن عبد الخالق منذ أن وفد إليهم بالسنة الأولي، (فقد درس الأولية بود مدني)، كان مثقفاً ونظيفاً ومهندماً يرتدي ساعة يد ويمتطي دراجة، وظل يشرح لهم ما استشكل من دروس، خاصة في الرياضيات والنحو والإنجليزي، حتى فرغوا من المرحلتين السابقتين للتعليم العالي. وكان عبد الخالق أول دفعته في امتحان كيمبردج، ولو دخل معهم قسم الهندسة بالكلية أو كلية الطب لكان بازاً متميزاً بلا أدني شك، ولكن أحد الأساتذة الإنجليز حببه في دراسة الأدب الإنجليزي، وربما لهذا السبب أو لأسباب أخري تخصه فقد استنكف عن الدخول لكلية غردون، وولي وجهه شطر مصر طالباً للعلم في جامعة فؤاد الأول (القاهرة لاحقاً)، التى كان يحج لها طلائع المثقفين الوطنيين واليساريين السودانيين. وقال الباشنهندس إنه تنفس الصعداء واستعاد مركز البرنجية بعد مغادرة عبد الخالق، وظل كذلك حتى تخرج في قسم الهندسة مع نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات؛ وعند التخرج اشترك معه في البرنجية طالب يهودي سوداني إسمه موسي ساسون ليفي، والتحق كلاهما بمصلحة الأشغال – المسؤولة عن المباني الحكومية والطرق والجسور وغيرها من المنشآت. وتم توطين أحمد بالرئاسة في الخرطوم بينما نقل موسي ساسون إلى جوبا، وجاء شاكياً باكياً لأحمد لأنه على وشك الزواج من إبنة حاخام السودان الذى اشترط عليه عدم مغادرة الخرطوم، فذهب معه لمدير الأشغال طالباً منه تبديل هذه بتلك؛ وهكذا ذهب أحمد عمر بمحض إرادته لجوبا ثم ملكال ثم واو مديراً للأشغال بكل من تلك الحواضر الجنوبية. وبعد ذلك بعامين تم اختيارهما هو وصديقه موسي لبعثة دراسية فوق الجامعية ببريطانيا، ولكن السلطات منعت موسى من الذهاب باعتباره يهودياً، فذهب لوالد أحمد عمر الذى أخذهما للسيد علي الميرغني بيالخرطوم بحري، وشرح له الأمر وخبره بتفوقهما في امتحان التخرج بالكلية، فمنحهما السيد علي قلمي حبر باركر، وقال لهم اذهبوا مطمئنين واعتبروا المشكلة محلولة. وبالفعل تم السماح لموسي بالإلتحاق بالدراسة في انجلترا في معية رفيقه أحمد. (وفيما بعد أظنه أصبح أول سفير لإسرائيل في مصر). وحكي الباشمهندس أنه نقل إلى عطبرة مديراً لأشغالها بعد العودة من البعثة في انجلترا في بداية الخمسينات، وأقام باستراحة حكومية في الحي البريطاني (لاحقاً حي السودنة)، وكان يساكنه فيها قاض إسمه جلال علي لطفي – كانوا يلقبونه بسفير جهنم – كونه منطوياً على غرفته ودائم التجهم ولا يرونه إلا عندما تجئ سفرة الطعام بالحديقة أو بالصالون. ومن رواد الإستراحة بالأمسياتً الدكتور حداد عمر كروم ونائب مدير المديرية والأميرألاي أحمد مجذوب بحاري قائد سلاح المدفعية وغيرهم من صفوة الموظفين. وكان عبد الخالق كثير الزيارات لعطبرة في تلك الأيام، حيث يقيم مع إبن الدفعة أحمد عمر، ويتسامر مع أصدقائه المذكورين. (وكان يأتيه بالإستراحة الشفيع وقاسم أمين ويصطحبانه للمهام الخاصة بهم). ولقد أعجب رواد الإستراحة أيما إعجاب بهذا الشاب المهذب المتحضر المتواضع الذي كان ينشدهم أشعار شكسبير والمتنبي وخليل فرح والحاردلو، ولا يجادلهم ولا يلاججهم في السياسة كعادة الأفندية "المتفلقصين". وكانوا يسألون عن عبد الخالق كلما طال غيابه عن أتبرا: "وين صاحبك الظريف الفاهم داك؟ والله لو الشيوعيين كلهم مثله لانضممنا لهم". ودارت الأيام دورتها، وفي 17 نوفمبر 1958 تولي الجيش السلطة في البلاد، وأصبح اللواء البحاري عضواً بمجلس الثورة ووزيراً للداخلية. وعاد أحمد عمر ليعمل برئاسة الأشغال في الخرطوم، وكان يسهر ويستأنس بميز أطباء أم درمان - فركة كعب من منزل أسرته بحي البوستة. وذات مساء جاءهم اللوا البحاري وأخذ أحمد عمر جانباً وقال له: " أنا دلوكت طالع من اجتماع مجلس الثورة وقررنا اعتقال الشيوعيين وعلى رأسهم صاحبك الظريف داك. بالله كلمه يختفي واللا يشوف ليه صرفة". وقال الباشمهندس إن عبد الخالق لم يأت لنا في تلك الليلة على غير العادة، ولكنا شلنا الليل قصبة بحثاً عنه حتى عثرنا عليه وأبلغناه رسالة اللوا في الوقت المناسب. وبالفعل تمكن من الإختفاء لعدة شهور. ولكن العسس اعتقلوه في آخر الأمر، وكادت الدموع أن تطفر من عيني البحاري لما سمع بذلك. ومنذ أن تخرج الباشمهندس في كلية غردون لم يغادر السودان إلا للبعثة الدراسية بإنجلترا، ولم يكن جزءً من موجات الأدمغة brain drain التى غادرت البلاد في الستينات والسبعينات متجهة صوب الدول النفطية عندما كانت منهمكة في تشييد بنياتها التحتية. وظل الباشمهندس مرابطاً يخدم بلاده في جنوبها وشمالها وغربها وشرقها، مشرفاً على العديد من المشاريع الإنشائية، مثل كبري بري وكبري شمبات وكبري حنتوب، وطريق الخرطوم مدني بمعونة من الحكومة الأمريكية. ولما أنشأ النميري مؤسسة منفصلة للطرق والكباري عام 1972 وضع الباشمهندس أحمد على رأسها، وكان درة إنجازاتها طريق مدني القضارف كسلا بورتسودان بمنحة كاملة الدسم من الراحل الشيخ زايد بن سلطان عليه شآبيب الرحمة المدرارة. ومن جراء ذلك تعرف الإماراتيون على الباشمهندس وعلى مقدراته وشخصيته، فطلبوه من نميري الذى أفلح في إقناعه بالذهاب لأبو ظبي مديراً لدائرة أشغالها في عام 1976. وإذا أردت أن تتعرف على انجازات الباشمهندس بإمارة أبو ظبي فانظر إلى بنيتها التحتية التى تضاهي بنيات أكثر الدول تقدماً وحضارة، وانظر إلى هندستها البديعة ولمساتها الجمالية ونظرتها الآنية والمستقبلية؛ انظر لرحابة الطرق الداخلية والبرية التى لن تضيق على مستخدميها لعشرات السنوات القادمة. ولقد تم كل ذلك بسبب توفر القيادة الرشيدة ذات الحس الوطني العالي ومخافة الله، وتوفر الكوادر المهنية المنفذة ذات الكفاءة المتميزة والضمير الحي وطهارة اليد مثل أحمد عمر. وبالطبع كان هناك مثله كثيرون بدولة الإمارات مثل الإداري كمال حمزة وأحمد عوض وصالح فرح وابراهيم عبد الله والباشمهندس علي أبو زيد الذين خدموا هذه البلاد بكل تجرد وإخلاص وتفان وروح وطنية. في قعدة أقامها عشرون مهنياً سودانياً مغترباً على شرف الفنان عبد الكريم الكابلي عام 1991 بأبو ظبي قال لي الكابلي إنه يستطيع أن يشكل من الحاضرين بتلك الجلسة مجلس وزراء قادراً على إدارة أي بلد في العالم. وحقيقة تم تشتيت الكوادر السودانية المؤهلة خارج الوطن، بسبب الظروف الإقتصادية، ومؤخراً بسبب الظروف السياسية، وبالتحديد منذ أن جاء الإخوان المسلمون للسلطة عام 1989 وكنسوا المهنيين بالآلاف من دولاب الحكومة ومن القوات النظامية (للصالح العام). ثم أخذت بلادنا تمشي القهقري حتى بلغت الحضيض في آخر الأمر. دعنا نسأل الله العلي القدير أن ينعم على السودان بحكومة راشدة ذات حس وطني مرهف وضمير حي، تعمل على عودة هذه الكوادر التى انهكتها سنين الإغتراب. أما أمثال الباشمهندس أحمد عمر خلف الله فينطبق عليهم المثل الدارجي " ( الجفلن خلهن، أقرع الواقفات)؛ فلقد أدي رسالته في بلاده وفي الدولة الشقيقة المضيافة التى قضي بها إثنين وأربعين حولاً من الإنجاز والعمل الجيد المحمود على مدى الأجيال، الذى سيظل مفخرة لأسرته ولشعبه السوداني. ولا يقلل من ذلك أن حكومة السودان وإعلامها ذا الطنين الأجوف لم يحفلوا بالباشمهندس ولم يذكروهولم يكرموه حتى يتعرف الآخرون على ما قام به السودانيون الأخيار عندما وجدوا التربة الصالحة والمناخ المناسب والأجواء المفعمة بالشفافية والأمانة وحب الخير للوطن ولسكانه، لا لكنز الثروات وأكل السحت ونهب مقدرات الوطن كما ظل يحدث في بلادنا طوال الثلاثة عقود المنصرمة – أي منذ مجيء الإخوان المسلمين للسلطة. والسلام.