“كل مشوار لا يكمله العقل، يتمه الجسد تعباً”: حرب الخرطوم

 


 

 

بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير
باحث وكاتب سوداني

تؤكد الحرب الدائرة اليوم في السودان، والتي اندلعت في الخرطوم صباح السبت 15 أبريل 2023، على عدة أمور، وتقدم تفسيراً للكثير من العلل. وأول ما تؤكده هذه الحرب أن الدولة السودانية تسير في نفس الوجهة التي ترسمها القادة منذ الاستقلال عام 1956، وأن جل الفاعلين اليوم في المشهد السياسي من القوى السياسية، لا يختلفون عن السابقين، فهم يحملون نفس علل التكوين، وإرث العمل الفوقي، مع الكثير من الأطماع الحزبية والذاتية. لقد اندلعت الشرارة الأولى للحرب في جنوب السودان يوم 18 ديسمبر 1955، وأضحت تتوسع، في ظل غياب الرؤية، وقصر النظر، وسياسات التهميش للجماعات والثقافات، مع تراكم المظالم، فانكوى جنوب السودان بلظاها، حتى انفصل، واحترقت دارفور، ومناطق جبال النوبة والنيل الأزرق، ولا تزال. ثم اندلعت الحرب اليوم في العاصمة الخرطوم، الأمر الذي يفيد بأن السودان، في ظل ضعف الأحزاب السياسية وإدمانها للعمل الفوقي، وخلو سجلها من النضال الجماهيري، وفي ظل تقاعس المثقفين عن واجبهم الثقافي والوطني والأخلاقي، فضلاً عن تركة حكم الإسلام السياسي، يسير، للأسف، في وجهة الَتخَلّق عبر الحرب والتدخلات الخارجية.

حكم الإسلام السياسي: نكبة على السودان والإسلام ورجوع إلى الوراء

تؤكد هذه الحرب، بأن حكم الإسلام السياسي، والذي امتد في السودان لثلاثين عاماً (1989- 2019)، لم يكن سوى رجوع للوراء، ونكبة على السودان والإسلام، كما أن تركته ليس فيها سوى العنف والتقسيم للبلدان والحروب، فضلاً عن تغلغل الهوس الديني في المؤسسات القومية، كما هو الحال في القوات المسلحة السودانية، ومختلف مؤسسات الدولة. ومرد العنف، سواء عند حركات الإسلام السياسي، أو لدى الجماعات السلفية، أو لدى داعش أو بوكو حرام وغيرهما، يعود إلى أمرين: الأول هو ضعف التوحيد، والأمر الثاني الدعوة لتحكيم الشريعة الإسلامية بكل صورها التي كانت في القرن السابع، الأمر الذي يناقض متطلبات العصر، ويصادم حاجة الإنسان المعاصر. وهذا ما أخبرنا به المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه منذ ستينات القرن الماضي. لقد قاد محمود محمد طه أكبر حركة تعرية ونقد للإسلام السياسي والجماعات الإسلامية، في السودان، وفي العالم. وأوضح في كتاباته وأحاديثه، بأن هذه الجماعات ليس لديها فكر أو مذهبية للحكم، وإنما تنطوي على هوس ديني، يمثل خطراً على الإنسان، والسلام العالمي. وعن سعى هذه الجماعات للحكم في السودان، كتب في 8 يناير 1965، قائلاً: إذا ما قدر لدعاة الفكرة الإسلامية، الذين أعرفهم جيداً، أن يحكموا ويطبقوا الدستور الإسلامي الذي يعرفونه هم، ويظنونه إسلامياً "لرجعوا بهذه البلاد خطوات عديدات إلى الوراء ولأفقدوها هذا التقدم البسيط الذي حصلت عليه في عهود الاستعمار... ولكانوا بذلك نكبة على هذه البلاد وعلى الدعوة الإسلامية". (صحيفة الرأي العام، 8 يناير 1965). كما بيَّن بأنه ليس هناك من خطر أكبر من خطر الهوس الديني، فهو يسعى للسلطة عبر العنف وإثارة الفتنة، ثم يترك آثاراً يصعب تجاوزها. وقد أوضح بأن الهوس الديني يلقي بأبناء البلد الواحد في أتون القطيعة، والحرب، "ثم يخلف من آثار الموجدة، والنقمة ما يصعب تجاوزه حتى مع مرور الأيام". (الهوس الديني يثير الفتنة ليصل للسلطة، 1983).

حروب تركة الإسلام السياسي: قادة الجيش ضد صنيعتهم

تقدم هذه الحرب دليلاً ناصعاً على أن الدولة التي تشكِّل المليشيا لتقوم بأسوأ الأدوار نيابة عنها، لتقاتل شعبها، ولتملأ فراغاً عسكرياً عبر توظيف الصراعات القبلية، كما فعلت دولة الإسلام السياسي في السودان (1989- 2019)، حينما شكَّلت مليشيا قوات الجنجويد وحرس الحدود، لقتال مواطنيها في دارفور، دولة ضعيفة وعاجزة، وحتماً ستترك آثاراً يصعب تجاوزها حتى مع مرور الأيام. ومن المؤكد أن أول من يدرك ذلك الضعف والعجز هو تلك المليشيا التي سدت ذلك الفراغ. وهذا ما يعيشه السودان اليوم، حرب آثار حكم الهوس الديني، حرب قادة الجيش ضد صنيعتهم "قوات الدعم السريع"، وهي القوات التي سدت الفراغ واستعاضت بها الدولة عن ضعفها وعجزها. وهنا لابد من استحضار القاعدة التي تقول: "ما بُني على باطل فهو باطل". ورث محمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي، قيادة الجنجويد من قائدها موسى هلال، وظل حميدتي قائداً لها بعدما أصبحت قوات الدعم السريع (2013)، وترقى في الرتب العسكرية حتى رتبة فريق أول، وأصبح شقيقه عبد الرحيم حمدان دقلو نائباً له. كانت الدولة في عهد الرئيس المخلوع عمر حسن أحمد البشير، في أمس الحاجة لخدمات حميدتي، وقد حقق لها ما تريد في دارفور، بأثمان باهظة وآثار بشعة وعابرة للزمان. وتؤكد المصادر والتقارير والكتابات على ارتكابه لجرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة في دارفور. كما تشير إلى دوره في قمع انتفاضة سبتمبر 2013، وفض اعتصام القيادة العامة/ مجزرة القيادة العامة (الإثنين 3 يونيو/حزيران 2019)، وتذكر المصادر والتقارير بعض أبشع جرائمه، ومنها: "جريمة مركز اليوناميد (بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور) في خور أبشي عام 2014. فحين شعر أهالي خور أبشي بأن قوات الدعم السريع قد تداهم قراهم احتموا بالمركز الأممي، وبنوا أكواخاً حول المعسكر، معتقدين أن مظلته الدولية تحصّنهم. ولكنهم فوجئوا مع بزوغ صبح لم يتسنّ لهم رؤية نهاره بقوات الدعم السريع تحاصرهم من كل حدب وصوب، برفقة حميدتي وقائد قواته اللواء عباس عبد العزيز. ولم يأبه المهاجمون لصرخات المواطنين بل أحرقوا الأكواخ والخيم بمَن فيها، وتركوا النار تأكل أجسادهم، ولم يفعل المركز شيئاً سوى توثيق الجريمة". (سيد مصطفى، "ميليشيات الجنجويد وجرائمها في دارفور... حين تمرّ على قرية تنتهي من الوجود"، رصيف، 26 يناير 2018).
حُظي حميدتي، من قبل الدولة في ظل حاجتها له، بتسهيلات واسعة وامتيازات خاصة في العديد من القطاعات والمجالات. فعمل على توسيع قوته وتطوير قدراته العسكرية، كما نجح في بناء إمبراطورية اقتصادية. ما لبث أن انتقل حميدتي إلى قائد عسكري قوي، ورجل دولة وصاحب دور إقليمي. وأصبح حميدتي وقواته منذ العام 2015 لاعباً مهماً في حرب اليمن، ثم جاء تعاونه مع الاتحاد الأوروبي في محاربة الهجرة غير الشرعية، ومكافحة تهريب البشر. وعندما نفي الاتحاد الأوروبي ذلك التعاون، خرج حميدتي في خطاب علني وطالب الاتحاد الأوروبي بالاعتراف بمجهوداتهم في محاربة الهجرة غير الشرعية، ومكافحة تهريب البشر، وإلا سيكون لهم رأي آخر، وأشار إلى قواته المنتشرة في الصحراء، وذكر بأن قوامها يبلغ 23 ألف جندياً.
(“What Hamete said to the European Union”, Tana4media Website, Link: https://www.youtube.com/watch?v=aCv7LYhjNQA&t=10s)
نجح حميدتي في تعظيم ثروته، وتوسيع إمبراطورية اقتصادية، من خلال التجارة، والذهب حيث يسيطر على المناطق الغنية بالذهب، لاسيما جبل عامر وغيره، إلى جانب مساعدات أوروبا لوقف الهجرة غير الشرعية، وميزانية مباشرة من الرئيس المخلوع البشير، فضلاً عن التمويل الإماراتي السعودي مقابل مشاركة جزء من قواته ضمن التحالف العربي في اليمن. ("إمبراطورية حميدتي الاقتصادية: 5 مصادر لثروته الضخمة أبرزها الذهب والتمويل السعودي الإماراتي"، صحيفة العربي الجديد، 23 أغسطس 2019). تبع ذلك أن أصبحت لحميدتي علاقات خارجية، وامتدادات إقليمية متوسعة ومتنوعة في أغراضها وأهدافها، بما في ذلك التجنيد. إذ تشير المصادر إلى أن قواته تشتمل على جنود من تشاد وأفريقيا الوسطى والنيجر ومالي. وعلى الرغم من صدور تشريعات في يناير 2017، وإجازة البرلمان السوداني لقانون خاص يقول بتبعية قوات الدعم السريع للقوات المسلحة السودانية، إلا أن المؤشرات والنشاطات الاقتصادية والعلاقات الخارجية تفيد بما يشبه استقلالية قوات الدعم السريع وقائدها عن الدولة.

القوى السياسية: إدمان العمل الفوقي والخطيئة في حق ثورة ديسمبر
الجنوح للتفاوض مع العسكر والرهان على حميدتي بدلاً عن الشعب

تفسر هذه الحرب بأن نهج الأحزاب السياسية، بعد اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، في تحقيق التحول الديمقراطي، كان متسقاً مع إرثها وسيرتها منذ نشأتها (1944- 1945)، حيث إدمان العمل الفوقي، وغياب العمل القاعدي مع الجماهير، ولم تكن الأحزاب السياسية الجديدة في هذا استثناءً. بينما كان الحزب الشيوعي السوداني متسقاً مع تاريخه النضالي. لقد ظل هذا الحزب، وعلينا الاعتراف بذلك، منذ تأسيسه يدعو لإشراك الجماهير في النضال ومن أجل إحداث التغيير، وهذا ما خلا منه تاريخ جل الأحزاب السودانية. لقد استهلت هذه الأحزاب، منذ تأسيسها، نشاطها من أجل نيل الاستقلال في الأربعينات من القرن الماضي، بالعمل الفوقي، حيث أخذت بأسلوب المفاوضات مع دولتي الاستعمار مصر وبريطانيا، وفضلته على المواجهة وإشراك الجماهير. وكان الحزب الجمهوري بقيادة المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه، يدعو قادة هذه الأحزاب منذ أربعينات القرن الماضي إلى التخلي عن أسلوب المفاوضات، والأخذ بالمواجهة للاستعمار ومصادمته، والعمل على استنهاض الجماهير للشراكة في النضال. وظل يدعو إلى ضرورة اشراك النساء وسكان القرى (الأقاليم) والأغنياء، وكل قطاعات الشعب في النضال، وأوضح، قائلاً: "ولإشراك هؤلاء اشتراك العمل المنتج يجب أن تكون الحركة الوطنية نفسها حركة عمل منتج لا حركة تهريج وهتاف بسقوط الاستعمار ليس إلا". (محمود محمد طه، "الحركة الوطنية كما أريدها"، 18 ديسمبر 1952). وكان يُذكّر قادة الأحزاب بأن غياب التضحية في سبيل الوطن، يعني تفشي الانتهازية، وتحدث، قائلاً: "إن التضحية تمنع الانتهازية في الممارسة السياسية". (محمود محمد طه، "الاستقلال وقضايا الشعب"، محاضرة، 13 ديسمبر 1968). من المهم الإشارة إلى أن السودان لم يشهد تضحية في ثورة شعبية مثلما شهد من تضحيات في ثورة ديسمبر المجيدة، والتي قدمها الشباب والكنداكات، لجان المقاومة.
عندما نجحت ثورة ديسمبر المجيدة في اسقاط النظام البائد في 11 أبريل 2019، بدلاً من استكمال أهداف الثورة وغاياتها بالعمل مع الجماهير في الشارع، استدعت هذه الأحزاب إرثها في العمل الفوقي، فعمدت إلى تهميش الفاعل الأساسي في الشارع، وهم لجان المقاومة، الشباب والكنداكات، شوكة الثورة، وأكبر من ضحى في سبيلها، واختارت نهج التسويات عبر المفاوضات الفوقية مع العسكر، لتخرج بالوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019م، والتي ما لبثت أن تبخرت ناحية السماء. وفي الواقع كان خيار التفاوض مع العسكر والذي اختارته القوى السياسية، أكبر خطيئة في حق ثورة ديسمبر المجيدة. كونها بهذا الخيار سارت في طريق العمل الفوقي، والمفارقة للنضال الجماهيري، حيث لجان المقاومة تقدم التضحيات في الشارع. لقد تعاطت القوى السياسية، عدا الحزب الشيوعي السوداني، وبالطبع بعض المثقفين، مع لجان المقاومة بما ألفه الناس في الممارسة السياسية، بأنها لجان تقود احتجاجات تسعى لاسترداد السلطة، وبمجرد سقوط النظام، يمكن احتواؤها أو التفاوض معها، ومن ثم الوصول لتسوية سياسية. غير أن التفكير السليم الذي يسوق إلى التفسير الصحيح للجان المقاومة وفعلها الثوري الفريد والجديد، هو أننا لسنا أمام جسم أو تنظيم ليتدافع الناس على التفاوض معه واسترضائه أو احتوائه، وإنما نحن أمام حالة ثورية سودانية شاملة، وفي لحظة بعث عظمى، قوامها الوعي المتوسع والمستمر بالذاتية السودانية، وهي تنشد التحرير والتغيير عبر استكمال الاستقلال وميلاد المواطن الجديد الأصيل. تمثلت هذه الحالة واللحظة في لجان المقاومة التي كانت تعبيراً حياً عن طاقة السودان الضخمة، بمختلف ثقافاته وجماعاته، وتجسيداً للأصالة السودانية. ولم يك سقف مطالبها هو استرداد السلطة، وإنما استعادة السودان المُغيب عن ذاته، والمُختطف والمغترب عن جذره وإرثه الحضاري.
حجب إرث العمل الفوقي، وضعف التربية على النضال الجماهيري، الأحزاب السياسية عن فهم واستيعاب تلك الحالة الثورية الشاملة والتي تجلت في لجان المقاومة، فأسهمت بذلك في تجميد حركة التغيير، كما هو حالها منذ تأسيسها، وحتى يوم اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة. اختارت هذه الأحزاب الاستمرار في العمل الفوقي، وقادت المفاوضات مع العسكر، فخرجت بمشروع الاتفاق السياسي الإطاري (2022). ثم توهمت مساندة حمدتي في تنفيذ الاتفاق الإطاري، بل راهنت عليه في التحول الديمقراطي، بدلاً عن الرهان على الشعب. وبهذا كانت هذه الأحزاب، من حيث لا تدري، من أكبر مغذيات الثورة المضادة، كونها أضعفت النضال الجماهيري، وكلست الرهان على الشعب. أكثر من ذلك فقد سعت إلى نسج سردية تقزيمية عن لجان المقاومة، وساقت الحجج الواهية والركيكة عنها، فكانت بهذا تعمل، من حيث تدري أو لا تدري، على وأد المواطن الجديد الأصيل، ولكن هيهات!!!

الأحزاب السودانية وإرث الاستقواء بغير الجماهير

سعت القوى السياسية خلال المفاوضات، بعد ثورة ديسمبر المجيدة، خاصة مرحلة الاتفاق الإطاري، إلى الاستقواء بحميدتي وقواته، بدلاً عن الاستقواء بالجماهير. وهذه خطيئة كبرى في حق ثورة ديسمبر المجيدة، وتجد تفسيرها في إرث الأحزاب السودانية. إن هذا السلوك السياسي القاصر والعاجز، وهو الاستقواء بغير الجماهير، ليس جديداً على الأحزاب السودانية، كما أنه لا ينفصل عن سجل قادتها منذ ثلاثينات القرن الماضي، حينما هرولوا إلى رجال الطائفية، ولا ينفصل هذا السلوك أيضاً عن لحظة تكوين الأحزاب السودانية. لقد تأسست جل الأحزاب في مناخ الاستقواء بإحدى دولتي الاستعمار، بمصر في حالة الاتحاديين، وببريطانيا في حالة الاستقلاليين. ولم يخرج عن هذه القاعدة إلا الحزب الجمهوري بقيادة محمود محمد طه، الذي كان ينادي بإقامة الجمهورية والاستقلال التام عن دولتي الاستعمار مصر وبريطانيا. إن البحث عن الاستقواء بغير الجماهير من أهم سمات جل الأحزاب السودانية، فهو يعكس إرثها السياسي الفقير، كما ظل حاضراً في سلوكها السياسي حتى يوم الناس هذا.
تحتاج الأحزاب السودانية، في ظل الوعي الثوري للشباب والكنداكات، الذي كشفت عنه ثورة ديسمبر المجيدة، وقد تجاوز السقوف المعرفية للكثير من القادة والسياسيين، إلى تحرير نشاطها ودورها ورؤيتها من إرثها السياسي، لا سيما تمكن ثقافتي العمل الفوقي والاستقواء بغير الجماهير في سيرتها ومسيرتها. وهناك كذلك حاجة إلى إعادة النظر في طبيعة علاقة الأحزاب مع الجماهير ونبض الشارع. أيضاً لابد من الإدراك بأن التغيير الحقيقي لا يتحقق إلا بإشراك الجماهير، فلقد انتهى عهد العمل الفوقي، وعهد الوصايا على الجماهير والعقول والحقوق. وهناك الكثير مما يقال في هذا الباب، ولكن المجال لا يسع للتفصيل.

الحرب مرآه تعكس واقع الحال

تمثل حرب الخرطوم، كما هي الحروب السابقة في جنوب السودان، ودار فور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، النتيجة الطبيعية لأداء المثقفين وتعاطي القادة والسياسيين مع شأن الوطن، فهي مرآه صادقة لواقع الحال، ولسجل أداء القادة والسياسيين والمثقفين، وتعكس مدى العجز والجهل بتاريخ السودان وتكوينه، فضلاً عن أزمة الأخلاق. كان الشاعر محمد المهدي المجذوب قد أشار لجدلية التاريخ والفوضى والحرب، فقد كتب، قائلاً: "أنا أزعم أن سبب الفوضى في السودان هو جهل الناس بالتاريخ". وفي واقع الأمر ان ما نجهله من وعن تاريخنا، هو الذي يتحكم في مسارنا عبر الحروب منذ صبيحة الاستقلال، وقطعا، إن لم يقم الأحرار بواجبهم، ستحدد الحرب ملامح مستقبلنا. غير أن الأحرار دوماً لا يرضون بالهوان لشعوبهم، ولهذا يكون من واجبهم، كما يقول محمود محمد طه، التعاون من أجل تحقيق الأفضل للشعوب. كتب محمود محمد طه في 4 أكتوبر 1958، قائلاً: "هناك رأيٌ فيه كثير من الصحة وهو مع ذلك لا يستهويني ولا يروقني.. وذلك الرأي يقول: إن كل شعب يستحق حكومته... أنا لا أقول كل شعب يستحق حكومته، ولكني أقول إن كل شعب يستحق أفضل، وسيكون من واجب الأحرار في كل مكان التعاون في إنجاز ذلك عاجلاً أو آجلاً". ولهذا يجب على الأحرار التعاون من أجل تحقيق الأفضل للشعوب عبر حل مشكل الحكم في السودان، وذلك بمخاطبة جذور المشاكل وليس نتائجها.

إنتهى عهد البطولات في الحرب وحان وقت بطولات بناء السلام وتحقيق التنمية
ما بعد الحرب: نعم للتغيير بالثورة الشعبية السلمية لا عبر العنف

على الرغم من البشاعة والمآسي المؤلمة والخسائر الفادحة جراء الحرب، إلا أن مصيرها أن تنتهي، وما أن تتوقف الحرب، إلا وعاد هذا الشعب العملاق إلى ثورته السلمية. لا بطولات في الحرب. لقد انطوى عهد البطولة في الحرب، وحان وقت البطولات في بناء السلام وتحقيق التنمية والتحرير بمعنى "تحرير الإنسان من الفقر والجهل والمرض والخوف". والبطولة في السلام والتنمية، لا تكون إلا بالعقل والعلم والفكر، والمفكر الحق، شجاع وبطل، ولا يصدر منه إلا الخير، كونه مجسِّد للمعرفة والأخلاق. بينما تكشف حربنا الماثلة، عن الجهل والخوف والطمع، فالجهل يسوق إلى الشر، والخوف يبرر العنف، "العنيف خوَّاف"، ولهذا كلما قل الجهل، وزاد العلم، كما يقول محمود محمد طه، "قل الشر، ورفعت العقوبة، عن المعاقبين، في تلك المنطقة التي وقعت تحت علمهم". وعن الطمع، وهو أحد أسباب الحرب، يقول: "العالم فيه ما يكفي لحاجتنا، ولكن ليس فيه ما يكفي لأطماعنا"، وينطبق على السودان ما ينطبق على العالم. إن قيادة الشعوب تحتاج للعلم والفكر، كما أن إشراك الجماهير في مصير بلادها، وتحقيق وحدتها، علم وعمل بفكر. ولا جدال في أن الثورة السلمية هي السبيل الوحيد لتحقيق الوحدة عبر شراكة الجماهير، بمختلف ثقافاتهم وانتماءاتهم، في إحداث التغيير. ولا يكون التغيير حقيقياً إلا بإشراك الجماهير، أصحاب المصلحة والحق في بناء المستقبل. لقد تمكنت الثورة في عقول وقلوب وأرواح المستضعفين والمهمشين من الشباب (60% من الشعب السوداني، حسب التقديرات المنشورة)، وشعوب جبال النوبة، ودارفور، والنيل الأزرق، وشرق السودان، ولا سبيل أو وسيلة لتحقيق التغيير، إلا عبر الثورة السلمية، التي يكون فيها الرهان على الجماهير. إن الجماهير السودانية بإسقاطها لأحد أعتى أنظمة الإسلام السياسي في العالم، عبر الثورة الشعبية السلمية، استطاعت أن تُودع أعظم لوحة ثورية سلمية في مجلد الإنسانية، وهي قادرة على القيام بذلك في أي وقت، ومهما كانت دكتاتورية الحاكم وتسلطه، فالطاقة الثورية كامنة في الجماهير، "والثورات لا تُرى بالعين". وليس هناك أروع مما خلصت إليه ثورة ديسمبر في هتافاتها وشعاراتها التي تعبر عن توق الشباب والكنداكات وكل الأحرار: "الثورة ثورة شعب، والسلطة سلطة شعب.. والعسكر للثكنات، والجنجويد ينحل".
ولكل هذا، لا حاجة أن يقوم البعض ببناء سردية تخويفية من الإسلام السياسي في السودان، فهذا المشروع تم تجريبه على مدى (30) عاماً، فكشف عن عجزه وفقره، وظل يسير نحو حتفه، حتى سقط بسلاح الثورة الشعبية السلمية في السودان. يضاف إلى ذلك أن الشعب السوداني الآن، وبعد ثورة ديسمبر، أصبح أكثر معرفة بعلل وعورات هذا المشروع، وأكثر إدراكاً لخطره، وهو يعيش الآن آثاره ومخلفاته. أكثر من ذلك إن هذا المشروع في ظل البيئة الإنسانية الجديدة، يعيش الآن حصاراً إقليمياً وعالمياً، فضلاً عن جهود واسعة لتعريته من قبل المفكرين في الفضاء الإسلامي. وفوق كل ذلك، إن السودان يشهد حالياً شلالاً منهمراً من الوعي مع الاستعداد للتضحية، وقد تجلى ذلك في نضال لجان المقاومة، الشباب والكنداكات، في الوقت الذي تمكنت فيه الثورة، وعم التوق للتغيير كل أقاليم السودان. ولهذا يجب سوق الصراع إلى وضعه الطبيعي، بأن يكون الرهان على الشعب في استرداد الحقوق، وليس على أي قوة أخرى داخلية أو خارجية، كون "الشعب أصل الدساتير"، وأن المبدأ الذي يجب التزامه بوعي وعزيمة ومثابرة، هو نعم للثورة الشعبية السلمية من أجل التغيير، لا للحرب. والفرق بين الثورة والحرب شاسع، وقد وصف هذا الفرق المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه، قائلاً: "... إن الحرب صراع بين الأقوياء على امتلاك الضعاف، هذا في أغلب صورها، والثورة انتقاض من الضعاف على الأقوياء لاسترداد الحقوق والامتيازات التي استولى عليها الأقوياء، ورفضوا أن يتنازلوا عنها" (محمود محمد طه، الثورة الثقافية، 1972).
ملاحظة: العبارة الواردة في صدر عنوان هذا المقال "كل مشوار لا يكمله العقل، يتمه الجسد تعباً"، هي للمفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه.

abdallaelbashir@gmail.com
///////////////////////

 

آراء