كمال الجزولي: تأخير تكوين مفوضية العدالة الانتقالية من أهم المعيقات .. شعار «الدم قصاد الدم ما بنقبل الدية» يناقض العدالة الانتقالية تماماً .. جهاز الأمن تغيرت رؤوسه لكن غالبيتهم موجودون .. (الإنقاذيون) جبناء ومذهولون من طاقة الاستشهاد والتضحية لدى شباب ا

 


 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الديمقراطي: حوار مع الأستاذ كمال الجزولي عن العدالة الانتقالية
(الأعداد 12، 13، 15، 16، و17 في 28 و29 سبتمبر، 1،2، و3 أكتوبر)

كمال الجزولي: تأخير تكوين مفوضية العدالة الانتقالية من أهم المعيقات (1/5)

تصفية تركة الماضي ضرورية لئلا نصحب معنا "حبناً" تحت إبط الدولة
شعار «الدم قصاد الدم ما بنقبل الدية» يناقض العدالة الانتقالية تماماً
جنوب أفريقيا أضرها غياب الإنصاف ولم يأت قادة مقنعون بعد مانديلا
نريد تجربة مقنعة يقوم عليها قادة أطهار
خلل بنيوي صاحب عملية سلام جوبا

لأول مرة أدخل الدار الرحبة المكللة بضروب الفنون، والتي طالما ولجتها لحضور اجتماع سواء أكان للحركة من أجل حرية الضمير، أو من أجل حرية التعبير، أو لمبادرة مكافحة التطرف، أو للتنسيق بين وطنيين أثناء الثورة، أدخلها هذه المرة كـصحفية، وكانت الصداقة الممتدة بيني وبين محاوري، الشاعر والمفكر البارز والكاتب البارع، والقيادي العضو بمركزية الشيوعي، والمحامي الشهير، والمختص بملف العدالة الانتقالية، الأستاذ كمال الجزولي، سبباً في إطالة الحوار الذي قارب الساعات الثلاث، وكان أحياناً يسبق إفاداته بالقول: "بيني وبينك"، وبالتالي استللت ردوده الصحفية من تلك النقاشات. هو حوار استفدت منه واستمتعت به وأرجو أن أصطحب القارئ الكريم والقارئة النجيبة في تلك الرحلة.


حاورته رباح الصادق

- الرجاء تعريف القارئ بمفهوم العدالة الانتقالية وفي ماذا يختلف عن المفهوم العادي للعدالة؟
وظائف الدولة في الظروف العادية تشمل بسط العدالة لئلا تترك الانتهاكات للانتقام ومنطق الغاب، لكن في الظروف غير العادية، حينما تكون الدولة في حالة انتقال من نظام شمولي إلى ديمقراطي أو من حرب الى سلام، يكون هناك نطاق واسع جداً من الانتهاكات والجرائم القديمة، وقدر كبير بالضرورة من المنتهكين، وبالتالي لا يمكن أن يتم الانتقال ما لم تتم تصفية تركة الماضي المثقلة بالانتهاكات والمنتهكين، إلا إذا قصدنا اصطحاب "حبن" تحت إبط الدولة، أو الانتقال بجرح متخثر إلى المستقبل! ولأن هذا لا يكون طبعاً، فإن الحل الوحيد هو تصفية تركة الماضي المثقلة بالانتهاكات، الأمر الذي يحتاج إلى مناهج مختلفة، منها القضائية، وهي الأقل، وغير القضائية، وهي التي يغلب عليها مصطلح «العدالة الانتقالية».
لكن البعض يعتقد ان العدالة الانتقالية تعني تطبيق العدالة التقليدية، من محاكم وقضاء ونيابات وشرطة وسجون، خلال فترة انتقالية. وهذا ليس صحيحاً، فالعدالة الانتقالية تعني تطبيقات أقرب إلى الثقافة الشعبية منها إلى القانون، وهي مفهوم حديث نسبياً ظهر قبل حوالي أربعين عاماً، وطبق في حوالي خمسين إلى ستين دولة حول العالم، وتقوم على ثلاثة دعائم: الحقيقة، والإنصاف، والمصالحة، بالإضافة إلى ما يستتبع ذلك من إصلاحات مؤسسية وخلافه.
- ما هي أهم تجارب العدالة الانتقالية العالمية؟
هناك مثلاً تجربة جنوب أفريقيا ورواندا والمغرب وسيراليون، كما أن هناك تجارب في أماكن أخرى كالأرجنتين وغواتيمالا، وما أعقب انتهاكات الصرب في البوسنة. لسنا الوحيدين الذين يريدون تطبيق منهج العدالة الانتقالية، ولكن الذي ينبغي إدراكه هو أننا حينما نطبق هذا المنهج فليس المطلوب أن نقوم بنقل تجارب الآخرين كما هي، بل علينا واجب معرفي وثقافي وأخلاقي يتمثل في ضرورة أن نضيف تجربتنا نحن أيضاً، إذ لدينا على هذا الصعيد ثقافات متنوعة في مختلف أنحاء السودان يجدر أن نضيف بها إلى تجارب العالم.
- ما هو نوع الجرائم التي تتم معالجتها قضائياً، والجرائم التي تعالج بمناهج العدالة الانتقالية الأخرى؟
اللجوء للقضاء الجنائي لا يحدده نوع معين من الجرائم، بل هو متاح لكل المتضررين جنائياً، لكن قد يكون هذا المتضرر أو ذاك، سواء أكان امرأة مغتصبة، أو رجلاً قتل ابنه مثلاً، داخل نطاق واسع من الجرائم والمنتهكين، راغباً في معالجة ظلامته بمنهج العدالة التقليدية، ولا يرضى سوى بساحات المحاكم على ما تتسم به من بطء يقتضيه عدم العجلة في التَّبيُّن، وهذا حقه، أو يرغب في منهج العدالة الانتقالية لميزتها في الكشف السريع عن الحقيقة والحصول على الإنصاف وبلوغ المصالحة، وذلك حقه أيضاً.

- ما هو شكل هذه العدالة القائمة على الحقيقة والإنصاف والمصالحة؟
منها مثلاً أن تقوم هيئة العدالة الانتقالية بتنظيم جلسات استماع عمومية مفتوحة يحضرها كل الراغبين والإعلام ويعترف فيها المنتهكون بالحقيقة كاملة وكل ما ارتكبوه، ولا يقبل قول المنتهك بأنه نفذ أمر فلان، بل عليه واجب الاعتراف بالحقيقة كاملة وطلب العفو، ثم تتوسط الهيئة لدى الضحية كي يعفو عنه، فإن عفا تترتب له معالجات معينة، كما تترتب على المنتهك عقوبات في صورة تكليفات اجتماعية معينة أيضاً. وهناك إرث ديني يسند هذه الممارسة، فبقدر ما تحض عليها المسيحية، يحض عليها الاسلام أيضاً على قاعدة «العفو عند المقدرة»، وليست هناك مقدرة يمكن أن تتحقق للضحية أكثر من مثول المنتهك أمامه وهو يعترف بالحقيقة كاملة ويطلب العفو. ثم إن هنالك منطلقات فلسفية وضعية لهذه القاعدة، فالفرنسي جاك دريدا مثلاً يقطع بأن الموتى وحدهم هم الذين لا يقدرون على التسامح والعفو، وقد تأثر دريدا بنيلسون مانديلا الذي خرج من زنزانته بعد 27 عاماً وهو يحمل ذلك الفكر، وقال إنه كان طيلة مكوثه في الزنزانة يفكر كيف سيقتصون لكل ضحايا جنوب أفريقيا من آلاف المنتهكين الذين قد تصل عقوبتهم إلى الإعدام، ما يعني نصب آلاف المشانق، فأي وطن هذا الذي يمكن بناؤه من فوق كل هذه الجماجم والدماء؟ وقال: لئلا يضيع المزيد من الوقت علينا أن نصفي تركة الماضي بمنهج العفو والتسامح كي يتيسر لنا أن ننتقل انتقالاً سلمياً وهادئاً وسريعاً.
- هل كان ذلك كافياً لإبراء جراح الماضي؟
تجربة جنوب أفريقيا تختلف عن التجربة العالمية القائمة في معظمها على قواعد الحقيقة والإنصاف والمصالحة، وبعدها يتم إصلاح كل المؤسسات التي قد تكون استخدمت في الانتهاكات، كالسجون والجيش والشرطة والنائب العام والقضاء إلخ.
لكن تجربة جنوب افريقيا تأسست فقط على معادلة «الحقيقة والمصالحة»، وليست «الحقيقة والإنصاف والمصالحة». ويقيني أن معظم المتاعب التي تعاني منها جنوب أفريقيا اليوم سببها تلك المعادلة الناقصة. فالناس لم يجدوا الإنصاف اللازم، وقد قبلوا ذلك الوضع لحبهم لمانديلا وثقتهم فيه، وفي معاونيه، وعلى رأسهم القس ديزموند توتو والبروفيسير بورين. لكن التجربة لم تكن مكتملة، ومن ثم لم تفرز قيادة مقنعة بعد مانديلا، لا رامافوزا، ولا امبيكي ولا زوما، كلهم كانوا دون المطلوب، بينما نحن نريد تجربة مقنعة يقوم عليها قادة أطهار، ولذا أرى أن تلك التجربة لا تجدي معنا في السودان، مع أننا فعلاً نحتاج منهج العفو والتسامح الذي اعتمده مانديلا مزيجاً من الرؤية الدينية والفلسفة الوضعية، وليس صدفة أن قامت تجربة المركز الدولي للعدالة الانتقالية في نيويورك على جهود ديزموند توتو وبروفيسير بورين.
- لنعد لجلسات الاستماع العمومية، ماذا لو رفض الضحية العفو؟
- إذا رفض العفو، واختار المحكمة، فذلك حقه، لكن لا يُسمح له أن يستخدم، في معرض إثبات قضيته، ما قد يكون المنتهك أدلى به من اعتراف في جلسات الاستماع العمومي، إنما عليه أن يأتي ببينة مستقلة.
- السودان الآن يمر بانتقال مركب، ما هي التعقيدات والمعوقات المنظورة للعدالة الانتقالية في المشهد السوداني؟
هي نفس التعقيدات التي تواجه قضية السلام الآن. للأسف الشديد عدم تحقيق العدالة الانتقالية يعني عدم تحقيق السلام الشامل، بل عدم تحقيق أي انتقال من أي نوع!
- وما هي التعقيدات التي تواجه السلام؟
ثمة مآخذ للأسف الشديد على ما جرى في جوبا، وذلك من جانبين: فمن الجانب الأول هناك خلل بنيوي في إجراء التفاوض بين طرفين هما في الأصل طرف واحد، فحكومة الانتقال تنتمي إلى الثورة، كما تنتمي إليها الحركات المسلحة أيضاً؛ كما أن التَّفاوض كان ينبغي أن يتمَّ في الخرطوم، لولا خراقة التصرفات المقصودة في رأيي، كاعتقال الرفيق ياسر عرمان وترحيله، مصفداً بالأغلال، إلى خارج البلاد! أما من الجانب الآخر فيكاد لا يُلحظ فارق كبير بين جوبا وأبوجا والدوحة، بل وربما حتَّى نيفاشا، من حيث عزلة أصحاب المصلحة الحقيقية في معسكرات النزوح واللجوء عن عملية السلام، ومن حيث عدم التحاق أهم القوى المحاربة، بقيادة عبد الواحد والحلو، حتى الآن بهذه العملية؛ ومن حيث شبهة المحاصصات غير المنكورة بين ثنايا التفاوض، مما أقر به مستشار رئيس الوزراء للسلام؛ ومن حيث رفع الدعم الذي استبقت به الحكومة المؤتمر الاقتصادي، متجاهلة مقترحات اللجنة الاقتصادية لقيادة الثورة؛ ومن حيث عدم تكوين المجلس التشريعي؛ ومن حيث عدم تحديد المسؤولية عن مصائر الشهداء والجرحى والمفقودين في ساحة الاعتصام بالذَّات؛ ومن حيث عدم استعادة الأموال والممتلكات العامة المنهوبة؛ ومن حيث عدم إصلاح قوانين الاستثمار واراضي مختلف المجموعات الإثنية، أو الشُّروع حتَّى في استعادة أراضي السودان السَّليبة في مثلث حليب والفشقة؛ ومن حيث إقحام مسائل، كالتعويضات مثلاً، في قضية السلام بدون الالتزام بأشراط تطبيقات العدالة الانتقالية؛ ومن حيث عدم محاسبة رموز النظام البائد، وعدم حسم تقديم البشير وشركائه للمحكمة الجنائية الدولية؛ بل ومن حيث عدم إنشاء المفوضية المنتظرة للسلام نفسه، منذ البداية، وتولي الأمر من قِبَل ما يسمَّى بمجلس السلام تحت إشراف مجلس السيادة دون مجلس الوزراء، وذلك ترتيب لا يُعرف مصدره، ولا موقع له في الوثيقة الدستورية. كذلك، ومع أكيد احترامي لأعضاء الوفد الذي فاوض باسم الحكومة الانتقالية، إلا أن كيفية تكوينه أو تشكيله غير معروفة، ولا الأسس أو القواعد التي حكمت اختيار أولئك الأعضاء، ولا حدود صلاحياتهم، ولا مدى تفويضهم، وكل تلك مسائل وثيقة الصلة بصناعة السلام.
ـ وما هي الأشياء التي تعيق تطبيق العدالة الانتقالية؟
كثيرة، فعلى سبيل المثال لم تنشأ حتى الآن مفوضية للعدالة الانتقالية، علماً بأنها من أهم المفوضيات التي كان ينبغي أن تنشأ منذ اليوم الأول، ولكن حتى الآن نحن نحبو، ونزحف زحفاً، دون أن نقترب مجرد اقتراب من تكوينها. كذلك يرتبط هذا التأخير ارتباطاً وثيقاً بترسيخ عامل سالب من عوامل إعاقة تطبيق العدالة الانتقالية يتمثل في بعض الشعارات التي نرفعها ونرددها بحماس دون أن نفكر في عواقبها، لكنها، في الحقيقة، تتناقض تماماً مع المفاهيم الأساسية للعدالة الانتقالية، كشعار «الدم قصاد الدم ما بنقبل الدية» مثلاً، فهذه الدعوة ستعيق دون شك تطبيق منهج الديات إذا حدث واحتجنا إليه في أي يوم ضمن برنامج عمل مفوضية العدالة الانتقالية!
==

 

حوار مع الأستاذ كمال الجزولي عن العدالة الانتقالية (2/5)

عبر (د. نصر الدين) ربما بأكثر من (د. حمدوك) عن الرغبة في أن أتولى المفوضية
لن يفلح الحكم الانتقالي بدون المفوضية والمجلس التشريعي
معاكسات ومعوقات منعت العدالة الانتقالية من التقدم
الكشاشا الرواندية توازيها أشكال سودانية عديدة
تاز مامرت بالمغرب صارت متاحف أمنية بينما الأمنجية لدينا دمروا بيوت الأشباح

في الحلقة الأولى من حواره حول قضايا العدالة الانتقالية شرح الأستاذ كمال الجزولي مفهوم العدالة الانتقالية ووصف تجربة جنوب أفريقيا التي قامت على مفهوم العفو، لكنه انتقد خلوها من الإنصاف فلم يأت قائد مقنع بعد مانديلا، ذاكراً حاجتنا لتجربة مقنعة يقوم عليها قادة أطهار، وانتقد شعارات يحملها ثوار تناقض العدالة الانتقالية، وتحدث عن معاكسات أمام القانون وعن معيقات كتأخر تكوين المفوضية إذ لا زلنا نحبو ونزحف بدون التفكير في تكوينها، فباغته بالسؤال:
- مع أنه يتردد أنك مرشحٌ لرئاسة المفوضية؟
لا أذيع سراً إن قلت لك إن السيد رئيس الوزراء عبد الله حمدوك تحدث معي مطولاً حول قضايا كثيرة من بينها العدالة الانتقالية، ربما لأنني ركزت في بداية كلامي على رأيي بأن ثمة أمرين كان لا بد أن يُحسما من أوَّل الحكم الانتقالي، وأن تأخيرهما ليس من المصلحة، وهما العدالة الانتقالية والمجلس التشريعي. الرئيس لم يعرض علي شيئاً محدداً، لكنه كان يرى أني مبتعد من نفسي، فشرحت له أن ذلك غير صحيح، وكل ما في الأمر أنني لا أطيق الدخول مع آخرين في تزاحم بالمناكب، فبالنسبة للعدالة الانتقالية أنا حاضر في مشهد نشر الوعي حولها، عبر المئات من المقالات والدراسات والأوراق البحثية والمحاضرات والندوات والسمنارات وورش العمل للكثير من المتدربين من الصحفيين والقانونيين الشباب وغيرهم، داخل السودان وخارجه.
- هل كلفك رئيس الوزراء بتولي المفوضية؟
لا لم يحدث. اتصل بي الشيخ خضر وقال إنه مكلف من رئيس الوزراء بتحديد موعد كي ألتقي به بمنزله، سألته عما إن كان معي آخرون، فنفى ذلك، وسألته عن الأجندة فقال إن الرئيس لم يخطره بها. ذهبت في الموعد بالفعل، وتحدثنا زهاء الأربع ساعات في أشياء كثيرة، أهمها التحفظان اللذان ذكرتهما، عدم تكوين المجلس التشريعي وعدم تكوين مفوضية العدالة الانتقالية، وقلت له رأيي في أن الحكم الانتقالي لن يفلح في إنجاز أي شئ بدونهما، وعموماً تكلمت معه بصراحة في أشياء كثيرة جداً.
- وهل فتح معك موضوع مفوضية العدالة الانتقالية؟
كما سبق أن أوضحت لك فإنني أنا الذي بادرت بلمس موضوعها لدى طرحي لوجهة نظري، حيث كان هو قد طلب في بداية حديثنا أن يسمع رأيي، فأكدت له ضرورة إنشاء مفوضية لها بأسرع فرصة، إذ بدون تصفية تركة الماضي المثقلة بالانتهاكات ستصبح تلك الانتهاكات «حِبناً»، ليس تحت إبط الفترة الانتقالية وحدها، بل وتحت إبط ما سيعقبها من فترات. لقد تكلمت بصراحة، وأعتقد أنه انتبه جيداً، واستمع باهتمام شديد.
- هل تحدثتم عن تفاصيل حول إمكانية توليك للملف؟
لا لم يحدث. لكنني فهمت من ارتباط حديثه عن ابتعادي مع التركيز على موضوعة العدالة الانتقالية، أنه ربما يعني إمكانية تكليفي بهذا الملف، ولذلك رأيت من الأفضل أن أبادر بنفي ابتعادي كما يعتقد هو، فما من ثوري يرفض أداء خدمة تطلب منه للثورة. لكن التحفظ الوحيد الذي أبديته هو عدم استطاعتي العمل مع من لا تكون لدي رغبة في العمل معه! فأبدى تفهماً تاماً، وأكد أن ذلك مطلب عادل جداً.

- متى كان ذلك اللقاء؟
قبل حادثة تفجير سيارته بحوالي شهر تقريباً.
- ولم يحدث أي اتصال بعدها؟
بعدها اتصل بي الشيخ خضر مرتين أو ثلاث ولا أذكر الآن موضوع الاتصالات بالضبط، ولكن مؤخراً شرفني بالزيارة في المنزل وزير العدل نصر الدين عبد الباري بصحبة آخرين، ودار الحديث عن مشروع قانون للعدالة الانتقالية أطلعني عليه د. نصر الدين، طالباً رأيي فيه، ومعبراً، ربما بأكثر مما فعل د. حمدوك، عن الرغبة في أن أتولى المفوضية.
- على ذكر القانون المجاز من مجلس الوزراء، ما هي قراءتك للقانون ومدى سداده في مخاطبة التعقيدات المذكورة؟
ثمة جانبان ينبغي أن نميز بينهما: فهناك جانب العدالة الانتقالية كمفوضية، ومؤسسة خدمية تشتمل على هيئات ولجان وموظفين بمرتبات وعمال بأجور ومتعاقدين لأداء مهام مؤقتة، واللوائح التي تنظم ذلك كله، وهناك جانب العدالة الانتقالية كمناهج تطبيقات فنية، قضائية وغير قضائية، من بينها جلسات الاستماع العمومية التي هي إحدى أهم هذه التطبيقات، واللائحة التي تنظمها، وأشراط اعترافات المنتهكين، وأسس الكشف عن الحقيقة، وعمليات الانصاف، والقواعد التي تحكم المصالحات، والإصلاحات .. الخ.

- إلى أين وصلت العدالة الانتقالية اليوم: القانون، تكوين المفوضية، لجان التحقيق، الخ؟
To no where، لم تصل إلى أي مكان بعد، والسبب أن هناك معاكسات ومعوقات لا حد لها على طريق عمل وزير العدل على هذا الصعيد.

- هل هناك برمجة لسن القانون؟
لم ينعقد المجلسان، الوزراء والسيادي، لإجازته، ولا برمجوا للجلوس!

- تحدثت عن إصلاح المؤسسات التي شاركت في الانتهاكات، ما هو المطلوب لإصلاح الأجهزة القضائية والعدلية عامة لإنفاذ العدالة الانتقالية؟
البعض، كالإمام الصادق، يفضل استخدام مصطلح العدالة الترميمية.
ـ (مقاطعة) هو حسب فهمي يشير بالعدالة الترميمية إلى restorative justice ، أي العدالة التصالحية.
العدالة التصالحية ـ العدالة الإصلاحية ـ العدالة الترميمية، كلها مصطلحات تدور حول مفهوم العدالة الانتقالية التي تبدأ بالحقيقة truth، ثم تنتقل إلى الانصاف equity، ثم المصالحة reconciliation ، وهذه، بدورها، ترتبط ارتباطاً لا ينفصم بترميم أو إصلاح المؤسسات التي قد تكون استخدمت في الانتهاكات، كمؤسسات الشرطة والأمن والقضاء والسجون وخلافه، لذلك فإن الاصلاح أو الترميم مسألة مهمة جداً للمصالحة التي لا تعني المصالحة مع نظام حكم معين، كما يعتقد البعض خطأ، بل مع التاريخ الوطني، والضمير الوطني، بالأساس، وهي العملية التي يستحيل أن تتم مع بقاء الجراح مفتوحة!
ـ تحدثت عن أهمية الإنصاف الغائب عن تجربة جنوب أفريقيا، ما هي أهم الدروس الأخرى التي يمكن أخذها من تجارب العدالة الانتقالية المختلفة؟
ثمة تجربتان أخريان في المغرب ورواندا. في رواندا أعتمدت تجربة الكاشاشا، وهي تقابل عندنا صوراً لثقافات أهلية مختلفة. صحيح أن الكاشاشا لم تكن كافية في رواندا، حيث أن بعض الجرائم كان لا بد من أخذها إلى شكل التقاضي التقليدي في المحاكم الجنائية، وقد أحيلت بالفعل إلى محكمة رواندا الجنائية المؤقتة بأروشا في تنزانيا، وما يزال ذلك العمل متواصلاً ولن ينتهي «بأخوي وأخوك»!
ـ (مستغربة) محاكم الإبادة في رواندا لا زالت تعمل وقد مر على الإبادة منذ 1994م 16 عاماً حتى الآن؟!
الواقع أن محكمة رواندا الجنائية المؤقتة بدأت عملها في أروشا بتنزانيا في منتصف 2012م. وفي نهاية 2014م طلب منها مجلس الأمن التجهيز لإنهاء متبقي عملها، وتسليم مسؤولياتها لما يعرف بالآلية الدولية لتصريف الأعمال. وبالفعل تم إغلاق المحكمة في ديسمبر 2015م، لكن الآلية الدولية صارت تتولى، منذ ذلك الحين، كمؤسسة مستقلة قائمة بذاتها، تصريف متبقي عمل محكمة رواندا، بما في ذلك استلام والبت في الاستئنافات المقدمة إليها، ولذلك أرى أن هذا العمل، خاصة مراحله الاستئنافية، لن ينتهي «بأخوي وأخوك»، رغم أنه في تناقص مستمر.

ـ ما هي التجارب الأهلية في السودان التي تقابل تجربة الكاشاشا؟
لدينا في دارفور «الراكوبة» و«قعدة العنقريب»، وفي جنوب كردفان «مصماص المصارين»، وفي شرق السودان «القلد»، وهناك أيضاً تقليد محلي للصلح في أقصى الشمال لدى المناصير والنوبيين، حيث انتهاكات السدود «كجبار وغيرها». كل هذه الأشكال وغيرها يمكن استلهامها في تجربة سودانية للعدالة الانتقالية. وفي الذهن ضرورة ابتعاث موفدين إلى مختلف الجهات داخل وخارج البلاد للوقوف تفصيلاً على هذه الأشكال الثقافية. في الداخل لدينا على الأقل خمس مناطق أساسية لا بد من جمع ودراسة تجاربها بغرض إثراء التجربة العالمية. وقد سألت بروفيسور يوسف فضل حسن، وكان مديراً لمعهد الدراسات الإفريقية والآسيوية، عن أنهم يهتمون حتى بدراسة اللغة السواحيلية وغيرها، فلماذا لم يهتموا بتدريس الثقافات المحلية ذات الصلة بتطبيقات العدالة الانتقالية، وقد أبدى أسفه ووافقني في أهمية ذلك!
ولا بد أن أشير هنا إلى أن تجربة معالجة الانتهاكات في دارفور ألهمت الفنان التشكيلي أبو سبيب.
ـ (مقاطعة) د. محمد عبد الرحمن أبو سبيب تشكيلي معروف له كتابات كثيرة نيرة، ومؤخراً ذاعت لوحته (صائدة البمبان)..
نعم، وقد انفعل بتطبيقات العدالة الانتقالية في دارفور، ورسم لوحة بارعة عن «قعدة العنقريب» أهداها لي، وهي معلقة الآن بمكتبي. لوحة جميلة جداً.
ـ جميل، لنعد الآن للحديث عن دروس التجربة المغربية؟
في المغرب يطلقون على فترة الملك الأب الحسن «سنوات الرصاص»، وبعد موته تولى العرش ابنه محمد السادس، فأقدم على أمر ربما كان نابعاً من إحساسه القوي جداً كشاب عاش ردحاً من الزمن في باريس، بجدوى الحداثة والتحديث، وهو عازف بارع لآلتي الجيتار والساكسفون، وحين صار ملكاً استجاب إلى حد كبير للمطالب الشعبية في بلاده بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكانت أهم خطوة بدأ بها هي إقالة المسؤول الأساسي عن التعذيب والقمع، إدريس البصري، وطرده من الخدمة بل ومن البلد كله، فلجأ إلى باريس حيث قضى بقية عمره في مستشفى توفي فيه بالسرطان. فتح الملك الشاب باباً للعدالة الانتقالية التي يمكننا استلهام بعض تطبيقاتها، فمثلاً كانت لديهم منطقة «تازمامرت» التي اشتهرت كمنطقة «بيوت أشباح» قبيحة جداً، محفورة تحت الأرض، كانوا يعتقلون فيها الناس ويهملونهم هناك بالسنين الطويلة، حتى فاضت أرواح بعضهم هناك. هذه المنطقة حظيت ببعض تطبيقات العدالة الانتقالية حيث حولوها إلى منطقة «سياحة أمنية» إذا جازت التسمية! بسطوا فيها الحدائق، وأقاموا المصانع والمنشئات والمؤسسات التنموية وجعلوا أولوية التشغيل لأبناء وبنات المنطقة فصارت منطقة بديعة، وقد شهدنا تلاميذ المدارس في المغرب يزورونها ليروا الزنازين والحفر في شكلها المتحفي كنوع من التربية.
- فكرة نيرة حقا..!
نعم، وقد زرنا هذه المنطقة، أنا وفيصل محمد صالح ومرتضى الغالي وآخرين، أثناء مشاركتنا في بعض مؤتمرات العدالة الانتقالية في المغرب، ونزلنا أدنى حفر الاعتقال تلك، ولو وصفت لك الآنية التي كان يوضع فيها الطعام والماء للمعتقلين، لشعرتِ بالغثيان «بطنك تقلب»، آنية صدئة «مطفقة» يأنف الكلب أن يمر قربها، ناهيك عن أن يأكل أو يشرب منها، ولطعات الغائط والدم والمخاط على الحائط، باختصار حفر قميئة تفوح منها رائحة الموت، وقد كتبنا وتحدثنا لاحقاً عن كل ذلك.
المؤسف بالنسبة لنا أننا لو أردنا تنظيم «سياحة أمنية» لتعطي مثل هذه الدروس، فسنفاجأ بأن أمنجية النظام البائد دمروا بيوت الأشباح، مثلاً، ولم يتركوا ما يمكن تحويله منها إلى متاحف!

 

==
العدالة الانتقالية ينبغي أن تحرك المجتمع بأسره (3/5)

المغاربة ملأوا "البرندات" بمؤلفات تنفض الغبار عن ذاكرة الانتهاكات
هنالك من وثق لتجربة بيوت الأشباح في السودان
جهاز الأمن تغيرت رؤوسه لكن غالبيتهم موجودون
(الإنقاذيون) جبناء ومذهولون من طاقة الاستشهاد والتضحية لدى شباب الثورة
الانتهاكات الجسمية قبل 2009م لا يسعفها القانون الوطني
أؤيد الجنائية الدولية ولا أحبذها لأن العدالة ينبغي أن تُرى وهي تطبق!
الحل هو عقد الجنائية الدولية أو محاكم هجين داخل البلاد

حوار رباح الصادق

في الحلقتين الماضيتين عرف الأستاذ كمال الجزولي بمفهوم العدالة الانتقالية، وتطرق لمعيقاتها في السودان ومنها شيوع شعارات ترفض العفو، وتأخر تكوين المفوضية، وذكر بأن الفترة الانتقالية لن تنجح بدون الإسراع بها وبالمجلس التشريعي، كما تطرق للتجرية الرواندية ومحاكم الكاشاشا فيها، وقال إن بالسودان أشكالاً تقليدية توازيها في دارفور وكردفان والشرق وأقصى الشمال ومن الأشكال التي تطرق إليها "قعدة العنقريب" في دارفور وذكر أن الفنان التشكيلي د. محمد عبد الرحمن أبو سبيب أهداه لوحة مستوحاة منها و(الديمقراطي) تنشر اليوم صورة للوحة. كما شرح الجزولي بعض سمات التجربة المغربية منها تحويلهم لمنطقة تعذيب وحشي (تازمامرت) إلى منطقة سياحة أمنية، متحسراً من أن أمنجية النظام البائد دمروا بيوت الأشباح فلم يتركوا ما يمكن تحويله إلى متاحف، وهنا بادرته بالسؤال:

ـ كيف دمروها؟
بيت الأشباح الذي زجَّ بي في إحدى زنازينه المخصصة للحبس الانفرادي على مدى الأربع وعشرين ساعة ما عدا دقائق الوضوء، وذلك لأشهر متطاولة منذ فبراير وحتى حوالي أغسطس 1992م، وكان معي في زنازين أخرى رجال بواسل لن أنسى، ما حييت، صلابتهم، وسمو نفوسهم، وعضهم بالنواجذ على كرامتهم الإنسانية، وفي مقدمتهم المرحوم الحاج مضوي والمرحوم محمد خليل، والإخوة ميرغني عبد الرحمن، ومحمد وداعة، ومحمد عتيق، وحسن عثمان، ومصطفى زكي، وعشرات آخرون ممن لن تسع هذه المساحة لذكرهم، الشاهد أنني لم أكن أعرف مكان ذلك «البيت» لأنني أدخلت إليه معصوب العينين، وخرجت منه أيضاً معصوب العينين، حتى دلني عليه أحد «أولاد الحلال» بعد إطلاق سراحي! كان منزلاً حكومياً بالقرب من عمارة سيتي بنك القديمة بشارع البلدية، حوائطه الخارجية خرسانية مستطيلة، وكان مقسوماً إلى قسمين، وقد حولوا الجزء الذي يفترض أن يكون مخصصاً للحديقة إلى زنازين في شكل حرف «يو» الإنجليزي، تتوسطها مساحة ملأى بتراب البحر تفتح فيها خراطيم المياه طوال النهار ليتم التعذيب داخلها أثناء الليل! وهو تعذيب يتمثل في الإرغام على أداء تمارين رياضية شاقة، ومن لا يقدر عليها حتى من الشباب، دع المسنين، تنهال عليه السياط والعصي بالضرب المبرح من الزبانية حتى يعود سريعاً لممارستها إلى أن يفقد الوعي في معظم الأحيان، دع الطعام الردئ، والأواني القذرة، والحرمان من الملح، ومن شرب الماء أغلب اليوم، ومن الزيارة، ومن القراءة، ومن الحمام!
لكن هذا البيت تحول، بعد نيفاشا، إلى فيلا فاخرة بها حديقة مليئة بالزهور الجميلة، ولعلها صارت تستخدم كمقر لشركة! لتكن ديكتاتوراً زنيماً، ولكن من فضلك لا تزوّر تاريخي، دعه حتى يأتي يوم أريه فيه لأطفالي وللآخرين!

- هل جرى توثيق لتلك التجربة؟
نعم، يوجد من وثق لتلك الأيام، كالصحفي الماجد محمد سيد أحمد عتيق الذي أصدر كتيباً بعد ذهابه إلى سويسرا وصف فيه المكان بذاكرة قوية، والطريف أنه لم ينس مشاجرة نشبت بيني وبين أحد الزبانية، أنا داخل الزنزانة المغلقة، وهو خارجها، ومع ذلك مضيت أكيل له الشتائم المقذعة، والمعتقلون يتوقعون كل سوء، فأولئك الزبانية يعملون بقاعدة «الشر يعم» يكررونها صباح مساء، لكنني كنت بلغت من الانفجار، بعد طول صبر، نقطة اللاعودة! المهم أن شيئاً لم يحدث، بل المدهش كما ذكر عتيق أن أولئك الأوغاد أبعدوا منسوبهم الذي جاءنا يعتذر في المساء، وهو يعلق كلاشنكوفه على كتفه (!) وتذكرنا الأمير نقد الله رد الله غربته، حيث كان يواجههم بنفس الطريقة، وما كانوا يستطيعون الرد عليه!

- هل من مزيد حول دروس العدالة الانتقالية، كنا نتحدث عن التجربة المغربية؟
من أهم دروس العدالة الانتقالية في المغرب، بل وفي بلدان أخرى، أنها عمليات بأكثر منها إجراءات، إذ تحرك معها المجتمع بأسره: الفنانين، الأدباء، الروائيين، الشعراء، الموسيقيين، المسرحيين، السينمائيين، وهلمجراً. فلو تجولتِ في أسواق الرباط سترين «البرندات» مفروشة بكميات ضخمة من المؤلفات المقروءة والمرئية والمسموعة التي تنفض الغبار عن الذاكرة الاجتماعية بشأن الانتهاكات وبشاعاتها. ومع ذلك فإن الكثيرين من النشطاء والمبدعين والمثقفين المغاربة الذين شاركوا معنا في العديد من الفعاليات الإقليمية ما زالوا غير راضين عن التجربة، ويرونها ناقصة. لكن المناقشات كانت تشير دائماً إلى جوانب إيجابية صالحة للتطوير. لقد أتى الملك الجديد بزعيم الحزب الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي، وكان الأمين المساعد لاتحاد المحامين العرب للعلاقات الخارجية، وكلفه بتشكيل الوزارة فصار الوزير الأول كما يسمى في النظام الفرنسي. وهناك صحفيون وطلاب سودانيون حضروا الانتقال المغربي يمكن الاستفادة من مشاهداتهم، كالصحفي حسن محمد عثمان، والمحاميين نصر الدين يوسف، وأيمن عمر عثمان.

- هنالك من يتحفظ على توثيق انتهاكات النظام البائد باعتباره يزيد المرارات ويؤلب مشاعر الانتقام، أو من يخشى من أن أوغاد ذلك النظام لا زالوا متربصين بسلاحهم وقد يؤذون من ينبش ماضيهم .. ما قولك؟
صدقيني إنهم جبناء، ولا يستطيعون حتى رفع اصبع في وجه أحد، بل إنهم مذهولون من طاقة الاستشهاد والتضحية لدى شباب الثورة! أما ما ترينه الآن مما أصبحوا يأتون من أفعال، بعد الصدمة الأولى، فإن سببه هو التراخي والتهاون في التعاطي مع الفوضى. الفرق كبير بين التسامح وبين «العبط»! إننا لا ندعو لأخذهم بالقمع، ولكن هناك طرق لمواجهة العنف الفوضوي المنفلت بعنف ثوري منضبط. لم يخيفنا سلاحهم وسلطتهم وبطشهم يوم كنا نتصدى بالفضح والشجب الفكريين والسياسيين لسياساتهم التكفيرية ولعناصرهم من ممارسي التكفير، وفي مقدمة صفوفنا المدنية طيب الذكر أمين مكي مدني، فهل نخاف الآن؟! هذا لا يصح مطلقاً ولا ينبغي. ثم إن توثيق الانتهاكات ليس نبشاً عن المرارات، إنما هو تهوية لجزء مهم من تاريخ البلد، وواجب مطلوب بشدة وكل الناس تنتظر أن تقرأه وتسمعه وتشاهده.
منسوبو الأمن الذين كانوا في بيوت الأشباح لا يزالون حتى اليوم يعملون بأسماء حركية، ومحمد سيد أحمد عتيق واحد من أهم الناس الذين كشفوا الأسماء الحقيقية لكل اسم حركي من جماعة بيوت الأشباح. فجهاز الأمن الحالي تم تغيير رؤوسه فقط لكن الكثيرين منهم لا يزالون موجودين.
ـ في التعامل مع الانتهاكات الجسيمة والممنهجة والفظيعة التي جرت في الثلاثين عاماً الماضية، ما هو النطاق المنظور لاستخدام آليات العدالة الجنائية الدولية، والوطنية، والمجال المتبقي للعدالة التصالحية في الانتقال السوداني الحالي؟
إمكانية معالجة بعض هذه الانتهاكات بالعدالة الجنائية الوطنية فيها مشكلة كبيرة أساسها أن أخطر انتهاكات دارفور مثلاً وقعت بين 2003م ـ 2004م عندما لم يكن القانون الجنائي الدولي جزءاً من القانون الجنائي الوطني، ولم يصر كذلك إلا في 2009م بإضافة الباب الثامن عشر للقانون الجنائي لسنة 1991م، وبالتالي صار بالإمكان تطبيقه في محاكمة أية جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية أو جريمة إبادة تقع بعد 2009. لكن من غير الممكن تطبيقه في الجرائم السابقة على ذلك، لأن القانون لا يسري بأثر رجعي. هذه مسألة مهمة جداً لا بد من وضعها في الحسبان.
ـ إذن ما هي الحلول بالنسبة للانتهاكات قبل 2009م؟
إما أن تحاكم في المحكمة الجنائية الدولية، أو في محاكم الدول التي تقبل الاختصاص الدولي كبريطانيا وبلجيكا مثلاً. وربما سمعتِ أن نافع علي نافع زار لندن، فلوحق فيها لأن المنظمة السودانية لحقوق الإنسان كانت قد أسست ضده دعوى جنائية هناك، وتحركوا لاستصدار أمر قبض عليه، وطبعا السياسة دائماً ما تعمل عكس العدالة، فهرع السياسيون في وزارة الخارجية هناك وطلبوا منه لئلا يدخلهم في حرج أن يغادر بريطانيا بسرعة قبل صدور أمر القبض، فكان أن جرت مطاردة له حتى وصل هيثرو واستطاع أن يكمل إجراءاته ويدخل الطائرة ليهرب في آخر لحظة! كذلك أسس الفلسطينيون دعوى جنائية في بلجيكا ضد السفاح شارون.
لكن المشكلة هي اﻷسباب الموضوعية لتحفظ الكثيرين، الذين أعتبر نفسي منهم، على اللجوء للقضاء الدولي خارج السودان، رغم أنني من مؤيدي المحكمة الجنائية الدولية، كونها ثمرة لنضال ومطالبة ملايين المدنيين حول العالم، كما وأنني عضو في التحالف الدولي الداعم لها CICC، وقد كتبت حولها، كقانوني دولي، كتابين وعدداً كبيراً من المقالات والأوراق البحثية، وقدمت عشرات المحاضرات وشاركت في العديد من المؤتمرات والندوات والسمنارات وورش العمل الداعمة لها، داخل وخارج البلاد.
ـ ولكن كيف تؤيد المحكمة الجنائية الدولية وفي نفس الوقت تتحفظ عليها؟
ثمة قاعدة قانونية ذهبية تنبغي مراعاتها وهي أن العدالة التي تطبق يجب أن تُرى وهي تطبق justice to be done is justice to be seen while it is done وإلا فما فائدة العدالة التي تطبق ولا يشهدها الضحايا وذووهم؟ فلو تمت المحاكمة في لاهاي مثلاً أو في بريطانيا أو بلجيكا، من أين للضحايا وذويهم أن يستطيعوا متابعتها؟ بدون ذلك لا تكون هناك عدالة.
ـ هناك وسائط إليكترونية وإسفيرية يمكن نقل الجلسات عبرها!
كم عدد الذين يمتلكون آليات هذه الوسائط؟ وكم عدد الذين يحسنون التعامل معها؟ الآن علي كوشيب مثلاً كم مرة شاهناه أو علمنا أي شئ عنه؟ ثم إن هذه الوسائط ليست حكراً على قضايانا، فلديها الكثير جداً الذي تتابعه، فلا يمكن أن تتفرغ لنا وحدنا.
ـ كيف يمكن إذن محاكمة الجرائم قبل 2009م داخل السودان والقانون الوطني لا يسعف؟
ثمة خيار ثالث يقوم على احتمالين، فمن ناحية يمكن أن تعقد المحكمة الجنائية الدوليَّة جلساتها في السودان، بعد أن تتعهد حكومته بتوفير الحماية لها، فليس هناك ما يحول دون ذاك في نظام روما لسنة 1998م الحاكم لعمل هذه المحكمة؛ ومن ناحية أخرى يمكن أن تتولى المحاكمة محاكم هجين hybrid courts تطبق القانون الجنائي الدولي، بمشاركة قضاة وممثلي إدعاء خليط من سودانيين وعرب أو أفارقة أو دوليين. المهم هو تحقيق متابعة الضحايا للعدالة وهي تطبق.
ـ المحكمة الجنائية الدولية تحاكم أكبر المسؤولين أليس كذلك؟
أصلاً المحكمة الجنائية الدولية تختص حسب نظام روما بمحاكمة أكثر الجرائم خطورة في محل الاهتمام الدولي most dangerous crimes of international concern.
ـ ولكن هناك بعض مرتكبي هذه الجرائم الخطيرة وهم مجرد جنود؟
ككوشيب مثلاً! المعيار المعتمد في نظام روما هو خطورة الجريمة، لا رتبة مرتكبها.
ـ كوشيب قائد مليشيا، ولكن هل جنوده كذلك يحاكمون في المحكمة الجنائية الدولية؟
كوشيب أصلاً عسكري، وجنوده أنفسهم لو وجدوا فسيحاكمون، لكن لا يقبل من أي منهم الدفع بالحصانة، أو بتلقي الأوامر من قائده.
- قصدت أن إجراءات المحكمة الجنائية الدولية مكلفة جداً ولذلك يحاكم فيها فقط الرؤوس، أما عشرات الآلاف من الجنود الذين اشتركوا في الانتهاكات فتعالج حالاتهم بالأشكال أخرى، ما تعليقك!
صحيح إنها مكلفة جداً. ولكن المنتهكين يصنفون بحسب خطورة جرائمهم.

 

==
محاكمة الانتهاكات بما فيها الثالث من يونيو محكومة بتوازن القوى (4/5)

الكشف عن الحقيقة أولاً وبدونه يصعب الحديث عن أي أمر آخر
ذوو الدم في دارفور يقبلون تطبيقات العدالة الشعبية والرافضون غالبهم «أفندية عاصميون» أو «نخب»
أخشى أن تسيطر على مشهد السلام لعنة الانتصارات الصغيرة فنقبض الريح!
التخوين وانعدام الثقة سائدان الآن
لو سمعتِ برفضي المشاركة في العدالة الانتقالية فاعلمي أن السبب سيادة شعار "الدم قصاد الدم"
نحتاج اختراقات حقيقية تتضمن التضحية بالظهور أمام الناس ورفض شعارات الانتقام


على مدى ثلاث حلقات ماضية حاورنا الأستاذ كمال الجزولي الخبير في العدالة الانتقالية فطاف بنا حول أسسها وتجاربها خاصة جنوب الأفريقية، والرواندية، والمغربية، وتطرق لتجربة بيوت الأشباح متحسراً على تدمير تلك البيوت التي كان بالإمكان تحويلها لمتاحف تشهدها الأجيال، ومهيباً بالمجتمع كله أن يندغم في عمليات العدالة الاجتماعية مشيداً بالتجربة المغربية حيث هبّ المؤلفون لنفض الغبار عن ذاكرة الانتهاكات وبشاعاتها، كما تعرض لإشكالية محاكمة الانتهاكات الجسيمة قبل عام 2009 فحينها فقط أضيف الباب الثامن عشر للقانون الجنائي، وحبذ أن تتم مقاضاة تلك الانتهاكات خاصة التي جرت في دارفور عامي 2003 و2004م في محاكم هجين تجري داخل البلاد، وذلك لكي تُرى العدالة وهي تطبق، ونواصل اليوم حول قضايا العدالة الانتقالية:

حوار رباح الصادق

ـ بالنسبة لإشكالية العفو مقابل الاستقرار المستقبلي في التعامل مع منتهكين صاروا جزءاً من منظومة الانتقال ..

(مقاطعاً) من تقصدين بمنتهكين صاروا جزءاً من منظومة الانتقال؟

ـ أسأل مثلاً عن المكون العسكري في مجلس السيادة وقد كانوا جزءاً من النظام الذي ارتكب الانتهاكات، ما هي الخيارات الممكنة للتوفيق بين مطالب القصاص العادلة ومتطلبات الاستقرار الواجبة للحكم؟ وكيف يمكن إبراء جراح الثالث من يونيو التي حدثت بعد بدء الانتقال؟
تتكلمين عن الأمر الواقع de facto.. أولاً لا بد من الكشف عن الحقيقة، أصلاً العدالة الجنائية الدولية والعدالة الانتقالية تستهدفان بالأساس الكشف عن الحقيقة، إذا لم يحدث هذا الكشف يصبح من الصعب الحديث عن أي شيء آخر! بعد الكشف عن الحقيقة يكون الأمر مرهوناً بتوازن القوى. لا يمكن فعل أي شئ خارج توازن القوى. يمكنك أن تحلمي كما تشائين، لكن الواقع محكوم بتوازن القوى، فإن سمح هذا التوازن بتطبيق العدالة الانتقالية بأشكالها المختلفة، القضائية وغير القضائية، أو سمح بالإحالة للمحكمة الجنائية الدولية مثلاً، فهذا هو الخيار الأفضل، أما إن لم يسمح فسيكون ذلك أمراً مؤسفاً!

ـ بعضهم كالسيد محمد حمدان دقلو (حميدتي) طالب من قبل بمحاكمة كل من يثبت تورطه في مجزرة الثالث من يونيو بل استأخر إجراءات التحقيق؟
نسأل العلي القدير أن يأخذ بيد لجنة نبيل أديب إلى نهاية آمنة لتحقيقاتها! لكن ثمة ثقافة شعبية ثرية للتسويات الودية في دارفور التي ينتمي إليها حميدتي نفسه، مما يستطيع الناس أن يستلهموا في باب العدالة التقليدية، منها «قعدة العنقريب»، مثلاً، ومنها أشكال مختلفة للمعالجات reparations، شاملة الديات، المهم مراعاة أننا نتحرك ضمن خيارات يسمح بها توازن القوى.
ـ هل تعني أن ذوي الدم في دارفور يقبلون بالعدالة الانتقالية؟
نعم، ولا أتحدث من فراغ، فقد لمستُ هذا الأمر بنفسي في أكثر من مناسبة، ففي ورش العمل التي أشرفت عليها، ودائماً ما يكون الكثير من المشاركين فيها من أبناء دارفور، صحفيين، أو محامين، أو خلافهم، أهتم بألا أركن فقط للتنظير، بل أحرص على التواصل المباشر مع الرؤى والقيم الثقافية. كذلك حدث، بعد نيفاشا، أن استخدمتنا الأمم المتحدة، أمين مكي مدني (رحمه الله) وشخصي، لنقدم كورسات في القانون الجنائي السوداني لمراقبي حقوق الإنسان الذين تبعث بهم إلى دارفور دون أن يكون لديهم إلمام به. وفي الفاشر أتيح لنا الجلوس مع الناس، في معسكر «أبو شوك» للنازحين، تحت خيامهم المتخذة من عيدان الأشجار الشوكية وجوالات السكر الفارغة، والاستماع إليهم للتعرف مباشرة على مواقفهم من قضايا كثيرة، على رأسها العدالة الانتقالية، حيث كنا في بداية فترة انتقالية بموجب اتفاقية نيفاشا والدستور الانتقالي، ولعلني رويت ذلك في مقدمتي لمذكرات أمين التي شارفت على الصدور.
- وما الذي وصلتم إليه في دارفور؟
هناك لمسنا بشكل وثيق مدى طيبة نفوس أولئك الناس، ومدى استعدادهم للمسامحة والعفو، على أسس تقاليدهم القبلية، فقط كانوا يعبرون عن رفضهم إهمال الحكومة لقضيتهم! وفي وقت لاحق تأكدت من تلك المعلومات والانطباعات عن طريق التواصل مع مثقفي الإقليم، ومهنييه، وكان بعضهم أعضاء في هيئة محاميي دارفور، وبعضهم الآخر إما مهندسين، أو أساتذة جامعات، أو موظفي خدمة مدنية، أو عناصر فكرية داخل الحركات المسلحة، أو ما إلى ذلك. أما الذين يرفضون تطبيقات هذه الثقافات الشعبية فهم في الغالب «أفندية عاصميون» أو «نخب» لا علاقة لهم بالمتضررين في دارفور!

ـ نشهد استمراراً للقتل والمذابح القبلية وعبر مليشيات مسلحة في أكثر من سبع جبهات في السودان، كيف نتحدث عن عدالة انتقالية ولا زلنا نخوض في الدم؟
الحكمة تقول ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، يجدر بنا ألا نيأس، بل ينبغي أن نجرب حتى الحجر، كالأرضة تماماً. لقد عملت مستشاراً للحركة الشعبية في أديس أبابا، وللعدل والمساواة في الدوحة. ولا شك لدي البتة في الطاقات القيادية، والقدرات الفكرية والسياسية، لدى رموز هاتين الحركتين، بل ولدى رموز بقية الحركات التي قدر لي الاقتراب منها على نحو أو آخر. وقد ربطتني بمعظم هؤلاء صداقة شخصية. لذا، وأتحدث بصراحة، كنت آمل في أن يولوا اهتماماً أعمق، وعناية أكبر، بمسألة صناعة السلام! ورغم ذلك، وأنا لا أحب أن أنعب في بيت العرس، ما زلت أتمنى أن تكون الفرصة ما تزال قائمة لتحقيق السلام الشامل بالفعل. فإن دفعوا بهذا الاتجاه، وامتلكت المجموعات التي تفاوضهم نيابة عن الحكومة الانتقالية القدرة على صناعة سلام حقيقي، فإنني سأكون، دون شك، أسعد الناس وأكثرهم تأييداً لهذه العملية، لكن أخفي خشيتي من أن تسيطر على المشهد لعنة الانتصارات الصغيرة في قاعات التفاوض، فلا نقبض سوى الريح.
ـ أتحدث عن الاقتتال القبلي في عدة جبهات في القضارف وكسلا ودارفور فهل إيقاف الدم هو دور الحكومة أم المجتمع؟ أما آن الأوان ليكون لدينا رفض مطلق (zero tolerance) للدم؟
كل له دوره، الحكومة لها دور، القبائل لها دور، المجتمع العشائري، والمجتمع المدني في تلك المناطق وأبنائها، كل له دور. لكن المشكلة ما الذي يمكن عمله مع التخوين وانعدام الثقة السائدين الآن، حيث لا أحد يستطيع أن يكابر، مع الشواهد الماثلة، في سيادة هذين العاملين السلبيين حتى بين المحاربين ذاتهم وداخل الحركات نفسها!
ـ العدالة الانتقالية تتضمن العدالة التصالحية restorative justice التي ترجمت أحياناً بالعدالة الترميمية، ولكنك ترجمتها بالعدالة الإصلاحية.. ما هي العلاقة بينهما؟
ما قصدته في الواقع هو أن الترميمية، والتصالحية، والإصلاحية، كلها في معنى الإصلاحات المؤسسية التي ينبغي أن تقترن بالمصالحات، جميعها مصطلحات تحوم حول دلالة العدالة الانتقالية. الأهم هو ألا توضع هذه العبارات الاصطلاحية ضد بعضهما البعض.
ـ هناك من يعتبر العدالة العادية حتى لو أمكن إجراؤها عاجزة عن رم شروخ المجتمعات المنقسمة، وأنها تعبر عن قصر نظر الاتجاه القانوني الغربي، والتجربة الرواندية تذكر دائماً كمثال لأولوية العدالة التصالحية، ما تعليقك؟
العدالة الجنائية التقليدية غير مؤهلة أصلاً، إلا في أضيق النطاقات، للتعامل مع انتهاكات الماضي خلال الفترة التي تسبق الانتقال إلى أوضاع مستقبلية مأمولة. فهي بطبيعتها تستغرق وقتاً طويلاً جداً، وسنين عدداً، بينما فترات الانتقال تكون عادة محدودة. لذلك ينبغي إعطاء الأولوية للعدالة الانتقالية التي تنجز المطلوب في وقت قياسي. وهي أصلاً مرصودة للعمل على تصفية طيف واسع من الانتهاكات وأعداد من المنتهكين تحسب بالآلاف. فلا يمكن تحقيق نجاحات ملموسة إلا بالعدالة الانتقالية، أما الإصرار على تفعيل شكل العدالة التقليدية خلال الفترات الانتقالية، فإن جملة من المسائل العويصة ما تلبث أن تثور..
- أي مسائل عويصة؟
منها الأعداد المهولة للمنتهكين الذين يراد لها أن تطبق عليهم؟ والكم من المحاكم التي يحتاجها هذا التطبيق؟والكم من القضاة الذين ينبغي أن يديروا هذه المحاكم؟ دع طول نفس العدالة التقليدية، وتعقيداتها الإجرائية، ومحاذيرها الإثباتية، وقواعد عدم التعجل التي يتوجب عليها اتباعها، وما إلى ذلك، أنظري الآن إلى محاكمة البشير ومن معه بشأن الانقلاب الإسلاموي في 1989م، إذ ما تزال حتى الآن في مرحلة الجلسات الإجرائية والأسئلة حول الاسم والعمر والسكن! موضوع العدالة الانتقالية هذا موضوع لا يمكن التعامل معه إلا بذهنية مرنة تتعاطى مع الخيارات التي تتواءم مع المطلوبات.

ـ هل يمكن تحقيق العدالة الانتقالية بدون تحقيق التوافق الوطني حول أسسها؟ وما هو العمل إزاء الشرخ البائن داخل قوى الثورة نفسها؟ وبينهم وبين غيرهم من مكونات المشهد السوداني؟
هذا سؤال ممتاز. حين زارني وزير العدل، د. عبد الباري، عبَّرت له عن خشيتي من أن يصبح كل ما نتحدث عنه مجرد أماني، لأن مدة طويلة قد انقضت في التمكين لشعار هو بطبيعته المفهومية البنيوية ضد فكر العدالة الانتقالية تماماً: "الدم قصاد الدم ما بنقبل الدية"! وكل يوم فيه مظاهرات صباحية ومسائية تحمل هذا الشعار حتى لقد استقرَّ في وعي الشباب أن هذه هي الثورة، فكيف يأتي الآن من يتحدث عن أن من الممكن ألا يكون «الدم قصاد الدم»، بل ومن الممكن أن يكون ثمة عفو وتسامح؟!
ـ ما العمل إذن؟
لا أعرف، لكن الموضوع يحتاج لاختراقات حقيقية تتضمن تضحيات كبيرة، أن يظهر أشخاص مثلي ومثلك ليقولوا للناس، من أعلى المنابر: «لا، ليس دائماً الدم قصاد الدم»، ولا دائماً «لا نقبل الدية»! هناك دية، ولا يمكن أن تكونوا أحكم من أهلكم في الإدارة الأهلية في كردفان ودارفور والشرق، وقد اشتغلوا على هذه الحكمة، ووصلوا فيها إلى أرقى المراقي الإنسانية. على أن مرور الزمن ليس من المصلحة، بل مضر. لذلك فإنني قلق جداً من عامل الزمن. ولو سمعتِ بأنني رفضت في أي يوم المشاركة في هذا الملف فاعلمي أن هذا هو السبب. هذه من أخطر العقبات والعوائق!

 

==
بعد اتفاقية نيفاشا ضيّعت فرصة العدالة الانتقالية وانفصل الجنوب (5/5)

لنفتح المساءلة منذ 1956م وسوف نجدها لا تسوى شيئاً بنسبة انتهاكات 1989م وما بعدها
معالجة غبائن الماضي ضرورية لئلا نصحب «حِبناً» محتقناً في إبط الوطن وخاصرته السياسية
ما حدث بعد ثورة أكتوبر كان صفقة سياسية أبرمتها الأحزاب التقليدية مع عبود
بعد الانتفاضة أهملنا منهج العدالة الانتقالية فسهل على الإنقلابيين الإسلامويين أن يدمروا الديمقراطية
ليس لتقارير صلاح شبيكة، والقاضي قطران، ودفع الله الحاج يوسف أية صلة بالعدالة الانتقالية

في الحلقات الماضية تحدث الأستاذ كمال الجزولي عن أسس العدالة الانتقالية وتجاربها العالمية وأهم الدروس المفيدة لحالتنا، ومعيقاتها في تجربة الانتقال السوداني الحالي وأهمها عدم تكوين مفوضيتها حتى الآن، وسيادة ذهنية انتقامية شعارها "الدم قصاد الدم"، كما قطع بتعذر معالجة الانتهاكات الجسيمة عبر القانون الوطني للانتهاكات التي جرت قبل 2009م مقترحاً انعقاد إما المحكمة الجنائية الدولية أو محاكم هجين داخل السودان، ونواصل اليوم حول معالجة الانتهاكات قبل 1989م وتجارب العدالة في الانتقالات السودانية السابقة:

حوار رباح الصادق

ـ حينما تذكر الظلامات التي تسبب شرخاً في الجسم الوطني وتتطلب مخاطبة بالعدالة الانتقالية تذكر أحداث تتجاوز قيام انقلاب الجبهة، 1989، هل يمكن تمديد المدى الزمني المطلوب أن يغطيه الكشف عن الحقيقة ضمن العدالة الانتقالية إلى 1956م أو ما قبلها، فهناك من يتحدث عن مذبحة المتمة؟
(ضاحكاً) طبعاً لا يمكن الرجوع حتى المتمة، لكن يمكن الرجوع حتى 1956م وأظنني ذكرت ذلك في كتاباتي، وحينما أدخل عبد الباسط سبدرات الباب 18 في القانون الجنائي بعد ملاواة شديدة منا قلت له: لكنه لن يسري بأثر رجعي، فقال لي: «نحن كل ما نسدها تجي انت تقدها»؟ وكان الجبهجية يقولون لي في الندوات لماذا تريدون فتح باب المساءلات منذ 1989م فقط، دون الانتهاكات قبلها. وقد قلت لهم دعونا نتفق على فتحها منذ الاستقلال، لتشمل تجاوزات كعنبر جودة مثلاً، فالمغاربة قبلنا فتحوا الملفات منذ 1956م، ولن يضيرنا فتحها من 1956م وحتى سقوط نظام البشير في 11 أبريل.
ـ أم حتى 3 يونيو 2019م؟
نعم حتى 3 يونيو، لكنني في ذلك الوقت تحديتهم بأننا في النهاية سنجد أن الانتهاكات قبل 1989م لا تسوى شيئاً قصاد الانتهاكات منذ 1989م. فيجدر ألا تجعلوا الأمر تكأة لكم لاتهامنا بأننا نريد استهدافكم وحدكم.

ـ لا أرى الأمر تكأة، فهناك حوادث مريرة بالنسبة للبعض، مثلاً الأنصار تقف حاجزاً بينهم وبين كثيرين أحداث المولد أيام عبود، والجزيرة أبا وودنوباوي أيام نميري، كذلك لدى الشيوعيين مرارات حل حزبهم وإعدام قادتهم في يوليو1971م، وبينهم وآخرين أحداث بيت الضيافة، هذه وغيرها غبائن إن لم تتم تصفية تركتها ستظل تعكر صفو البلاد، فهل تراها أموراً ليست بذات الأهمية؟
على العكس هي مسألة في غاية الأهمية، بل هي «حِبن» محتقن في إبط الوطن وخاصرة حياته السياسية، فلا بد من تصفيتها، وإلا رُمَّ هذا «الحِبن» على صديد! ولقد أبديت بالفعل، كما قلت لكِ، ترحيباً بفتح باب المساءلات منذ الاستقلال. لكن ما ذكرته لكِ مما دار في بعض الفعاليات بيني وبين عدد من الجبهجية كان في الفترة الانتقالية التي أعقبت نيفاشا، وهي الفترة التي أسيئت معاملتها، حيث العدالة الانتقالية لا تكون إلا في فترة انتقالية، وفي 2005م كان لدينا دستور جيد، واتفاقية سلام لا بأس بها، وأمل عريض في انتقال واعد، لكن ذلك كله ضاع سدى بسبب موقف النظام البائد الذي أدى لانفصال الجنوب!

ـ ما هي قراءتك لتجارب العدالة الانتقالية السودانية السابقة، مثلاً العفو عن مرتكبي انقلاب عبود، وما حدث بعد الانتفاضة، وغيرها؟
ما حدث بعد ثورة أكتوبر لا علاقة له بمفهوم العدالة الانتقالية. تلك كانت صفقة سياسية أبرمتها الأحزاب التقليدية مع عبود ومجلسه العسكري، يُعفى بموجبها عبود وزمرته من المساءلة، ويخرج قادة ورموز الحزبين الكبيرين من ورطة الاتهام بتدبير وتأييد الانقلاب! ذلك بالإضافة إلى أنه لم تكن هناك تجارب للعدالة الانتقالية في العالم، كما وأن المفهوم نفسه لم يكن موجوداً.
ـ ولكن الاتفاق الذي جاء فيه العفو كان يوم الجمعة 30 أكتوبر بحضور الأحزاب التقليدية وغير التقليدية وجبهة الهيئات على إضافة المادة 108 من الدستور "رفع المسؤولية عن الأفعال السابقة" أم لعلك تقصد صفقة أخرى؟!
الخلاف بيننا يا رباح ليس خلافاً في زوايا النظر، بل في الوقائع التاريخية، وأنا مع خالص احترامي لكلامك ما زلت متمسكاً بروايتي دون التشويش عليها بإهمال الوقائع الجوهرية، والنسج المتداخل للوقائع الثانوية، وقد يكون من المناسب أن نحتكم في الأمر إلى القراء، إذ أنني متأكد أنه بالنسبة للكثيرين منهم ليس مجرد تاريخ، بل لقد كانوا هم أنفسهم شهوداً عليه. لقد تكونت حكومة أكتوبر الأولى برئاسة سر الختم الخليفة في 31 أكتوبر 1964م. لكن حزبي الأمة والوطني الاتحادي ظلا يعاكسان عملياً صدور أي قرار بمحاكمة عبود وزمرته من العسكريين والمدنيين حتى 31 يناير 1965م، حيث أمكن صدور هذا القرار، فشكل رئيس القضاء لجنة تحقيق برئاسة مولانا صلاح شبيكه في 14 فبراير عام 1965م.
- وماذا فعلت لجنة التحقيق؟
باشرت اللجنة التحقيق مع مدبري ومنفذي الانقلاب من العسكريين، كما أخذت أقوال سياسيين مدنيين على رأسهم عبد الله خليل سكرتير حزب الأمة ورئيس الوزراء ووزير الدفاع وقت الانقلاب، والذي اجتمعت الشواهد على أنه هو من دفع عبود لاستلام الحكم بسبب تأكده من أن البرلمان يوشك آنذاك على إسقاط حكومته. وكانت من أقوى الشهادات ضده شهادتا زين العابدين صالح زميله في قيادة الحزب، والشيخ علي عبد الرحمن زعيم حزب الشعب الديمقراطي. ورغم إفادة عبد الله خليل بتأييد الإمام عبد الرحمن والسيد علي للانقلاب، وإلى ذلك انكشاف تورط قيادات ورموز بارزة من الحزبين في تدبير وتأييد الإنقلاب، إلا أنه أنكر واقعة تسليمه السلطة لعبود، الأمر الذي كان متوقعاً أن تكشف عن حقيقته مذكراته التي أوصى بعدم نشرها إلا في هذه السنة ــ 2020م (!)
- ثم ماذا حدث؟
الشاهد، أن اللجنة استوفت تحقيقها، وأعدت تقريرها، وأوصت بالقبض على عسكريين ومدنيين وجهت لهم الاتهام. خلال ذلك أسفرت انتخابات أبريل 1965م عن فوز الحزبين الكبيرين بأغلبية مقاعد الجمعية التأسيسية، فشكلا حكومة ائتلافيَّة برئاسة المحجوب. لكن تقرير لجنة التحقيق كان بمثابة السيف المعلق فوق رأس حكومة الحزبين، فسارعا للتخلص من تلك الورطة بإحالته مع توصياته إلى الجمعية لتقرر بشأنه، علماً بطبيعة الحال بالقوة التصويتية للحزبين داخلها. وبالفعل صوّتت الجمعية في 7 يوليو 1965م ضد التقرير، فخلصت الحزبين من تلك المشكلة، وأضحت محاكمة زمرة عبود هي والعدم سواء!
ـ ألا يعتبر تقرير هذه اللجنة نوعاً من الحقيقة المطلوبة في العدالة الانتقالية؟
لا علاقة له، ولا لأوامر اللجنة، بمفهوم العدالة الانتقالية. فالحقيقة المطلوبة لعمليات العدالة الانتقالية هي التي يراد أن يقبلها الضحايا كي يؤسسوا عليها عفوهم عن المنتهكين. أما تلك اللجنة فقد كوِّنت وعملت بموجب «قانون لجان التحقيق لسنة 1954م». وكشف تحقيقها الأدوار التي لعبها بعض قادة الحزبين الكبيرين في دفع الفريق إبراهيم عبود لاستلام السلطة، وقد أوصت اللجنة بتقديمه مع عسكرييه وبعض المدنيين للمحاكمة. غير أن البت في ذلك الأمر أحيل إلى الجمعية التأسيسية، حيث كانت الغلبة، حسب نتيجة انتخابات 1965م، لنواب الحزبين الكبيرين الذين صوتوا ضد تقرير لجنة شبيكة وتوصيتها بمنطق «عفا الله عما سلف»!
ـ لكن قضية المحاكمة أثيرت منذ حملة انتخابات 1965م ووقف من وقف ضدها بمنطق «الوفاء بالعهود»، فالجميع مراعاة لتوازن القوى، أبرموا مع جماعة عبود، وكانت السلطة بيدهم، عهداً مذاعاً في 30 أكتوبر. هذا الأمر مهم لأنه قد يتكرر ويتسبب في تشبث العسكريين بالسلطة ما دام المدنيون لا يوفون بالوعود، فما قولك؟
لم يكن ذلك هو منطق الحزبين! ولو كان كذلك لكان الأجدر أن يحافظا على تعهدهما باحترام الديمقراطية فلا يقدما على التعاون مع الأخوان المسلمين في حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان!
والآن دعينا نعود لقضيتنا الأساسية وهي أنه لا لجنة صلاح شبيكة ولا تقريرها كان لهما أية علاقة بمفهوم العدالة الانتقالية. كذلك ما سبقهما من تقرير أصدرته في فبراير 1956م لجنة التحقيق في أحداث توريت التي وقعت عام 1955م ..
ــ تعني لجنة القاضي توفيق قطران؟
نعم، فهي الأخرى لا علاقة لها ولا لتقريرها بالعدالة الانتقالية؛ فقد كونت وعملت أيضاً بموجب «قانون لجان التحقيق لسنة 1954م».
هناك كذلك لجنة دفع الله الحاج يوسف لسنة 2004م، ولا علاقة لها أيضاً بالعدالة الانتقالية، حيث كونت، أيضاً، بموجب «قانون لجان التحقيق لسنة 1954م»، وعهد إليها بالتحقيق في انتهاكات دارفور، وأعتقد أنها أدت عملاً جيداً، لكن النظام البائد أخفى نتائجها التي لم توافق هواه، وقد تطابقت معها تقريباً نتائج تقرير اللجنة الدولية التي كونها، بعدها، كوفي أنان بتوجيه من مجلس الأمن الدولي برئاسة القاضي الإيطالي انطونيو كاسيوس. وهو التقرير الذي رفع لمجلس الأمن في مارس 2005م، وأحيلت أوراقه إلى المحكمة الجنائية الدولية بموجب القرار 1593. وكان التقرير قد خلص إلى أن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية قد ارتكبت، لكنه نفى وقوع جريمة إبادة، مؤكداً ارتكاب أفعال إبادة غير مقترنة بالقصد الجنائي الذي هو الركن المعنوي، علماً بأن القانون الجنائي، سواء الوطني أو الدولي، يشترط توفر ركنين، مادي ومعنوي، لارتكاب أية جريمة، بحيث تنتفي هذه الجريمة حال انتفاء أي من الركنين.
ــ كيف ترتكب أفعال إبادة بلا قصد جنائي؟
لقد أسهبت في توضيح هذه المسألة ضمن كتابين صدرت طبعتهما الأولى عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان عام 2007م، غير أن النظام البائد حظر توزيعهما داخل السودان، الأول بعنوان «النزاع بين حكومة السودان والمحكمة الجنائية الدولية»، والآخر بعنوان «الحقيقة في دارفور». وقد صدرت مؤخراً الطبعة الثانية من الكتاب الأول عن دار عزة، وستصدر خلال الأيام القادمة الطبعة الثانية من الكتاب الثاني عن نفس الدار. باختصار توقفت لجنة كاسيوس عند ملاحظة مهمة فحواها أنها لمست ما يثبت ارتكاب عناصر النظام، مصحوبين بالجنجويد، لما يمكن أن يمثل أفعال إبادة ضد الفور المزارعين خارج المدن، لكنها لم تلمس شيئاً من ذلك داخل نيالا والفاشر والجنينة وغيرها من المدن، بل لاحظت تعايشاً سلمياً بين العناصر المختلفة، بينما الإبادة لا تميز بين الريف والمدينة، كما حدث، مثلاً، بين الهوتو والتوتسي في رواندا! على أية حال تقرر ترك هذه المسألة لتبت فيها المحكمة الجنائية. ولو تذكرين كان هناك حديث عن قائمة من 51 متهماً، لكن المدعي العام الدولي، آنذاك، لويس مورينو أوكامبو، أعلن منذ البداية أنه لن يتقيد بمخرجات لجنة كاسيوس، بل سيفتح تحقيقاً مستقلاً، وكان ذلك أكبر دليل على استقلال المحكمة، وعدم خضوعها لمجلس الأمن، كما يشيع خصومها ومن بينهم النظام البائد. وبالفعل بدأت المحكمة تحقيقاتها، ووجهت اتهاماتها باستقلال.
ـ وماذا عن العدالة خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت الانتفاضة، ونيفاشا؟
ما جرى بعد انتفاضـة 1985م كان، فقـط، تطبيقاً للعـدالة التقليدية خـلال الفترة الانتقالية (1985م ـ 1986م). فرغم أن المفهوم كان معروفاً على نحو أو آخر، إلا أننا تجاهلناه في السودان وطبقنا شكل العدالة التقليدية الذي استغرق وقتاً طويلاً دون أن ينجح سوى في قضيتين تقريباً: ترحيل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل، ومحاكمة مدبري انقلاب مايو. وفي ما عدا ذلك لم ينجح في تطبيق أي شكل من العدالة يغطي جرائم سنوات حكم النميري الستة عشر، رغم المجهود الجبار الذي بذله وزير العدل النائب العام وقتها بمعاونة مجموعة متميزة من المحامين. وبالنتيجة سهُل على الانقلابيين الإسلامويين في 1989م أن يدمروا التجربة الديمقراطية (1986م – 1989م).
- وماذا عن تجربة العدالة الانتقالية بعد اتفاقية نيفاشا 2005م؟
كانت فرصة نادرة أخرى عقب اتفاق السلام الشامل والدستور الانتقالي، امتدت من 2005 م إلى 2011م. لكنها على طولها النسبي كانت شراكة بين النظام البائد والحركة الشعبية ـ قرنق، ولكل مأربه الخاص، لا سيما بعد مقتل قرنق، واختفائه من المشهد، الأمر الذي يظلُّ معلقاً على عنق النظام الإسلاموي باعتباره المستفيد الأول إلى حين إشعار آخر، فقرنق كان وحدويَّاً بصورة قاطعة، وكان في نفس الوقت كاريزمياً بما يستعصي على البيع والشراء، أمَّا انقلابيو الجبهة الإسلامية فقد كانوا يرغبون في التخلص من الحركة الشعبية، وأن يوصلوها إلى آخرها بدفعها للانفصال، وأما الحركة الشعبية نفسها فقد كانت حاربت طويلاً بلا نتيجة حاسمة، وشهد المسرح الجيوبوليتيكي حولها تغيرات لم تكن في مصلحة استمرارها في الحرب، هذا كله فضلاً عن ضغط التيار الانفصالي في صفوف قياداتها. وهكذا انتهت تلك الفرصة بلا أي تطبيقات للعدالة الانتقالية، وبلا فائدة، من ثم، للسودان، بل على العكس انفصل الجنوب وصار السودان دولتين.


//////////////////////////

 

آراء