كونفدرالية النيل حرب السودان نحو منظور جديد للعلاقات السودانية-المصرية

 


 

 

ياسر عرمان

نكتب في تذكر ومحبة عمنا العزيز الأستاذ محجوب محمد صالح وفي حب السودان، ونكرس ذلك لقضية هامة الا وهي بناء علاقات استراتيجية بين السودان ومصر وفق منظور جديد وفي وقت تصاعد فيه النقاش ايجاباً وسلباً حول مستقبل العلاقات بعد ثورة ديسمبر السودانية ٢٠١٩، وفي وقت تتحدث فيه أهمية العلاقات عن نفسها دون أذن من أحد وتشهد فيه مصر تواجداً واسعاً للسودانيين من كل الفئات سيما النخب والفئات المحظوظة.

تصدر جريدة الأيام عدداً خاصاً يحمل ملامح مؤسسها الأستاذ محجوب محمد صالح واهتماماته وهو من الأباء الكبار للصحافة السودانية، وفي ذكرى رحيله وقد سبقه إلى دار الخلود اصدقائه الأستاذة بشير محمد سعيد ومحجوب عثمان اللذان أسسا معه صرح الأيام، ولي الشرف ان اكون من ضمن الذين طُلب منهم المساهمة في هذا العدد، وقع اختياري على قضية شائكة لا تخلو من أزهار ورحيق وأشواك وتقع ضمن اهتمامات الراحل. ولأن الكتابة في حيز محدود وفي موضوع معقد لا تخلو من الصعوبة والمغامرة معاً، ولكن لا بأس من تناوله برؤية كلية بعيداً عن التفاصيل وهو موضوع قديم متجدد لا تكفي مقالة لتناوله ويحتاج لجهد جبار وجماعي ومتصل فهو جهد شعبين ودولتين.

الأستاذ محجوب وجيله درجوا على الطرق في هذا الموضوع وقد اختاره الله إلى جواره في مصر، وقد اختار هو بعد بداية الحرب مصر مستقراً له كانسان نيلي يذهب مع الضفاف وموجات النيل دون غيرها من جغرافيا محتشدة في جوار السودان، وهو اختيار ذو دلالات ضم أعداد كبيرة من السودانيات والسودانيين، فعلاقات مصر والسودان لا تحكمها الاعتبارات السياسية الآنية وحدها بل ان الحاكمية ترجع للنيل وعبقرية التاريخ والمكان والهرم والصحراء والبحر والمصالح الفعلية. ذات مرة قال دكتور جون قرنق دي مابيور في إجابة على سؤال طرحه عليه الأستاذ الصحفي المصري حمدي رزق “إن حدود السودان في الإسكندرية وحدود مصر في نمولي” حملت هذه الاجابة اهتمامات قديمة للدكتور جون قرنق بحضارات وادي النيل القديمة وكتابات المفكر السنغالي الشيخ انتا ديوب حول تلك الحضارات وانتماء قرنق الصميم لتيار وحدة افريقيا.

نحن الآن أمام لحظة تاريخيّة فارقة مشحونة بوقائع داخلية، اقليمية وعالمية جديدة وهنالك اعادة تشكل للمسرح السياسي الوطني والاقليمي والدولي، ولابد من نظرة جديدة وبداية جديدة للعلاقات السودانية- المصرية تِحدث قطيعة مع ماضي العلاقات مع وصل جديد لماضي وحاضر ومستقبل العلاقات.

لتحقيق الفائدة القصوى والأكثر اتساعاً ورحابةً يجب ان تُؤخذ العلاقات السودانية- المصرية في اطار عريض منفتح على افريقيا والعالم العربي سيما ان العرب والأفارقة على هامش تضاريس الجغرافيا السياسية والاقتصادية العالمية ويعانيان من التبعية والتخلف رغم التطور النسبي الذي أحرزته مصر وبلدان أخرى. معلوم ان العرب الذين هم في أفريقيا اكثر من العرب الذين يقطنون آسيا، وهذا محفز وقيمة مضافة لأهمية العلاقات الافريقية العربية ومؤخرًا شهدنا القمم الصينية والأمريكية واليابانية والاوربية والروسية مع القادة الأفارقة، ولأن هنالك اهتمام متعاظم بافريقيا عالمياً فمن باب أولى ان تكون بلدان مثل السودان ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب والصومال وجيبوتي أعضاء الجامعة العربية وأعضاء الاتحاد الأفريقي مدخل لأجندة افريقيه عربية جديدة تطرح مشروعاً جديداً لهذا الفضاء الحيوي والعضوي ويمكن ان يبدأ ذلك بدولة جنوب السودان وإثيوبيا واريتريا وتشاد بما يحقق مشروعاً جديداً يمتن اواصر المصالح والعلاقات بين القرن الأفريقي وشرق وغرب أفريقيا وبلدان حوض النيل وبلدان الخليج كتكتل اقتصادي وسياسي ذو فاعلية يربط بين العالمين الأفريقي والعربي وهم ليس بكتلة صماء وبهم حيوية دافقة من التنوع والتعدد الثقافي والجغرافي والديني.

ان الحرب الدائرة في السودان حرب كارثية ويجب ان نجعل من كارثيتها منفعة وتوظف كنقطة انطلاق جديدة لاستدامة الحلول ومعالجة جذور الأزمة السودانية داخلياً واجتراح منظور جديد للعلاقات الخارجية بدأً بجيران السودان الأقربين وان ننظر بجدية لموقع السودان الجغرافي وموارده وتوظيفها في ربط العالمين الأفريقي والعربي بمنظومة علاقات قائمة على توازن المصالح وتعظيم روابط الانسان والتاريخ والثقافة والجغرافيا لخدمة المصالح الفعلية لشعوب وبلدان هذه المنطقة، ومن هنا تكمن أهمية البداية الجديدة للعلاقات السودانية-المصرية، المصرية-السودانية، وان نحدث قطيعة مع سلبيات الماضي وان تجد التوجهات الجديدة منابر تتمتع بالشفافية والرصانة بدلاً من الأحاديث المبتسرة في وسائل التواصل الاجتماعي. هذا يتطلب احترام خيارات كل شعب ونظامه السياسي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لكافة البلدان وهذه عملية وليست حدث ولن تتم بالقفز فوق المشاكل الآنية وتستدعي تكامل وتوازن المصالح وحل التقاطعات بين البلدين وفي الاقليم والسباحة في أعالي البحار عالمياً، وكل ذلك يتطلب رؤية جديدة هي أساس البدايات وان أخذت حيناً من الوقت.

في أحدى زياراته للقاهرة اقترحتُ على الدكتور جون قرنق ان نذهب لمشاهدة مسرحية (الزعيم) ويقوم بدور البطولة المبدع الكبير عادل امام وعند نهاية العرض طلب عادل امام مقابلة الدكتور جون قرنق في كواليس المسرح الخلفية وجرى بينهم حوار شيق ذو صلة بموضوعات، اشار خلاله قرنق إلى معلومة مهمة من وحي التاريخ قائلاً لعادل امام” ان الغزاة أتوا دائماً إلى مصر من الشمال ومن آسيا، اما دعم مصر ومؤازرتها ضد الغزاة فقد أتى عبر التاريخ من النيل ومن الجنوب ” فرد عادل امام بخفة ظله وذكائه المعهود : فيما عدا مرة واحدة يا دكتور، في توشكي، واجابه قرنق بعد استيضاح ما يعنيه : ان مصر في أيام الخليفة عبدالله كانت مستعمرة أيضاً. وقد كتبت الأستاذة أسماء الحسيني عن ذلك اللقاء في جريدة الأهرام تحت عنوان (الزعيم يلتقي بالزعيم ). وقد أوفى الراحل العظيم الدكتور جمال حمدان البعد النيلي حقه في حديثه عن ابعاد مصر.

 

العلاقة بين البلدين بها مصالح عميقة واختلافات واختلالات وتلاحم وتقاطعات ذات جذور تاريخية وقضايا آنية ومستقبليه وعالم اليوم الافريقي والعربي تقاصرت فيه الاحلام الكبيرة وغاب اتساع أفق الستينيات وانحسر ظل الدولة الوطنية التي تجابه التحديات في العديد من البلدان وبانت اهمية رفد هذه العلاقات برؤية جديدة وان لا نتركها نهباً لارتفاع صوت قوى السوق والموارد التي لا تستند على مشروع ذو نظرة شاملة تأخذ مصالح الشعوب والدول معاً، ويشهد جوار مصر ثلاث حروب كبيرة على حدودها شرقاً وغرباً وجنوباً مما يجعلها مكاناً للجوء من محيطها القريب والبعيد مما يأتي بإيجابيات التداخل وتوظيف امكانيات الطبقات العليا والمتوسطة من بلدان اللجوء في الاقتصاد المحلي مع تزايد الضغوط على الخدمات والأمن ومنافسة السكان الوطنيين وحقوق ما هو وطني وحقوق ما هو لاجئ، وتبدو هذه القضايا في تكامل احياناً وفي تضارب احياناً أخرى وهي تحتاج إلى حوار شفاف يمتن العلاقات ويشفي الجراح بتقديم معالجات ذات سعة وافق في التناول.

هذا العام ٢٠٢٤ يشهد مرور مائة عام على ثورة ١٩٢٤ في السودان وهي ذات صلة بثورة ١٩١٩ في مصر ونحن إذ نحتفل بذكرى ثورة ١٩٢٤ السودانية فان هذه الذكرى العظيمة تعد مدخل يجب ان تتخذ منه مراكز البحوث والدراسات مناسبة لإعلاء شأن العلاقات السودانية- المصرية في كل من مصر والسودان بمراجعة لا تغفل التاريخ سيما وان زعيم ثورة ١٩٢٤ الزعيم على عبد اللطيف يوارى الثرى في القاهرة وقد كان صديقاً للرئيس المصري الراحل محمد نجيب، ان ثورة ١٩٢٤ قد قامت على رواسي الوطنية السودانية وذات صلة بموضوعات العلاقات السودانية-المصرية بمصالحها الجمة واختلافاتها واختلالاتها التي تحتاج إلى رؤية للمعالجة.

ان الحرب الحالية في السودان بقدر ما تطرح من اشكاليات فهي تطرح فرص جديدة لتعاون اقليمي في اعادة الإعمار وبناء الاقتصاد السوداني والبنية التحتية وما دمرته الحرب بخطة وطنية منفتحة على الاقليم والعالم وتخدم مصالح السودانيات والسودانيين.

ان سودان ما بعد الحرب في نظرته لتجديد العلاقات السودانية-المصرية كواحد من الأمور الهامة التي يجب ان ترتكز على التعاون الاقتصادي وتعزيز التبادل التجاري المتكافئ والاستثمارات المشتركة التي تخدم البلدين وتعزز فرص النمو الاقتصادي وتخلق فرص العمل للشباب وتستدعي التعاون الاستراتيجي في مجال المياه والغذاء وكيفية إدارة موارد مياه النيل بشكل عادل مستدام كاساس لتمتين العلاقات في اطار من التعاون الاقليمي الشامل وحل القضايا العالقة في ترسيم حدود البلدين على نحو سلمي ومتفق عليه.

حكم الإسلاميين في السودان واختطافهم مؤسسات الدولة وعلى رأسها القوات المسلحة وتدخلهم في شؤون بلدان الجوار يعد أحدى العقبات الرئيسية التي تحتاج لحل من السودانيين لتمتين وترسيخ العلاقات بين البلدين، وقد اضرت سنوات حكمهم بالعلاقات المصرية-السودانية على نحو أخص.

أخيراً السودان ومصر يحتاجان إلى تكييف علاقاتهم المشتركة في اطار اوسع مع العرب والأفارقة وبالاخص مع دولة جنوب السودان وإثيوبيا لايجاد حلول شاملة في إدارة موارد مياه النيل واستخدام الميزات التي يتمتع بها كل بلد في اطار عريض يربط عضوياً بين المصالح العربية والأفريقية ويستفيد من تكامل الموارد وهذا يتطلب النظرة لأفريقيا بمنظور جديد يقوم على تكامل وتوازن المصالح ويربط الكتل الاقتصادية والسياسية الأفريقية والعربية وفق مشروع جديد.

ربما قد آن الآوان لنا ان نطرح كنفدرالية النيل كفكرة تربط بلدان حوض النيل وتتجانس مع التكتلات الاقليمية الأفريقية والعربية الأخرى.

 

٥ أبريل ٢٠٢٤

 

آراء