كيف خسرنا الجنوب؟

 


 

 



لم تتفق أخطاء التاريخ البشري والسياسي على إلحاق الظلم والتهميش بمنطقة مثل ما حدث لجنوب السودان. فمنذ تجارة الرقيق مروراً بالاستعمار والحكم الوطني الحديث لم يهنأ الجنوبيون بالعيش في غاباتهم وقراهم ومدنهم. وكانت سياسية المناطق المقفولة التي نفذها البريطانيون صفعة أخرى وجهها المستعمر لوجه الجنوب. فلم تنجح ربع قرن من الزمان من عزل الجنوب عن الشمال في منع الأثر العربي عنه، كما لم تنجح محاولات ضمه لشرق إفريقيا، وفشلت السياسات البريطانية في خلق مستعمرة "غربية" تتبع وترتبط بهم ثقافياً ولغوياً ودينياً. كما كان مؤتمر عام 1947 إمعاناً في الهجر والإهمال حيث استعجل البريطانيون رحيلهم وتركوا الجنوبيين لمصيرهم المجهول. وأعقب ذلك سلسلة طويلة من "نقض العهود المواثيق" تخللتها سنوات طويلة من الحروب المدمرة بين الشمال والجنوب، وتاريخ مثقل بسياسات التمييز السياسي والتنموي والاجتماعي التي عانى منها الجنوب.

وتتويجاً لهذه السياسات الفاشلة والقاسية أعلنت حكومة الإنقاذ الوطني الجهاد الإسلامي في جنوب السودان، كسياسة وإستراتيجية دينية متكاملة سخّرت لها آلة الدولة وقواتها المسلحة ودفاعها الشعبي لتنفيذها. وأصبح قتل الجنوبي صكا لضمان دخول الجنة، كما أصبحت نسائهم وممتلكاتهم حل للمجاهدين.  كرست هذه السياسة الجهادية مفهوماً آخر ظل الشماليون يراوغون فيه كثيراً وهو معاملتهم للجنوبي كمواطن درجة ثانية، حيث حسم الجهاد الإسلامي أن الجنوبي هو أحط من ذلك بكثير حيث تحول إلى subject ووسيلة لدخول الجنة. بموجب هذا تغير مفهوم الحرب في جنوب السودان من تمرد عسكري وسياسي إلى حرب دينية تسندها مفاهيم دينية وفقه إسلامي. 

إن حرب الجهاد التي شنتها الإنقاذ في الجنوب في بداية التسعينات لم تقم في الأصل لخدمة مصالح الأمن القومي أو لصون وحدة البلاد كما يظن البعض، بل هي حرب ظن الإسلاميون أنها ستمكنهم في الأرض وتقوي شوكتهم على حساب خصومهم السياسيين. ولعل السنوات الآن قد أثبتت أن هذه كانت من اكبر الحماقات التي ارتكبها إسلاميو السودان.

إن هدف الإنقاذ من وراء الجهاد في الجنوب هو سحق الشعب الجنوبي وأي تمرد مسلح آخر قد يكون في طور التشكل في رحم أقلية أخرى في بقعة من بقاع السودان.  أقامت الإنقاذ لذلك معسكراً حربياً مكثفاً للتعامل مع الجنوب وحركته المسلحة، وتمت عسكرة الحياة العامة في السودان في فترة وجيزة بشكل لم يسبق له مثيل. وكان نتاج ذلك أن اشتعلت الحرب في الجنوب بصورة لم يشهد السودان مثلها من قبل، فأثقلت هذه الحرب قلوب كل الجنوبيين وألقت بظلالها الكثيفة في بيوت وقطاطي الجنوب. كما نتج عنها سحق المجتمع الريفي في جنوب السودان.

للحروب دائماً أهداف متعددة. ولكن حرب الجهاد في الجنوب كانت تسخر من جهة اخرى للسيطرة على الشعب السوداني، وإخافة المواطن العادي، وذلك بخلق حالة طوارئ مستمرة. لذا ظلت الإنقاذ ترفع شعارات أن هذه الحرب هي "أم المعارك" حتى تزرع الرعب في قلوب الأقليات والأقاليم المهمشة الأخرى في الغرب والشرق وأقصى الشمال. إلا أن هذه المناطق كانت ترقب الجهاد بحذر شديد، وقد آثرت الصمت لفترة طويلة، إلا أنها عندما تأكدت من فشل الجهاد "الحرب الكبرى" تمردت في أول سانحة وحملت السلاح على الحكومة الجهادية. ويؤكد هذا الفشل المتمثل في طول أمد الحرب هزيمة الأسطورة التي صنعها حكام السودان الشموليون حولها.  

إن خسران الجنوب هو نتيجة طبيعية أيضا للخلل في ميزان القوى بين الحكام والمحكومين. فكل الحكومات الشمولية العسكرية ظلت تسعى للسيطرة على مراكز السلطة والثروة في السودان، وتخلق وهماً كاذباً تبثه في أوساط الجماهير بأن هذه القرارات الكبرى الكبرى، الخاصة بسير الحروب كأنما هي قرارات شعبية تجسد رغبة الجماهير، في عملية تزييف وتخدير للشعب حتى لا يقوم بدوره الطبيعي في رفض حرب غير عادلة، حيث تخشى هذه القوى الرسمية من تمدد القوى الشعبية وخروجها في مظاهرات ضد الحاكم.

إن خسارة الجنوب وهزيمة اليوم تكمن في أن القوى الشعبية رغم وعيها التام بويلات الحرب في الجنوب وما جرته على البلاد من خراب ودمار وفقر، إلا أنها لم تتحرك خطوة واحدة نحو تنظيم معسكر شامل رافض للحرب، خاصة إذا كان في مقدور هذا العمل الشعبي أن يهز البنية الأساسية للمجتمع السوداني وان يصيب تلك المفاهيم المتكلسة الخاصة بالتقييم الاجتماعي والثقافي والديني لهذه الحروب ويضربها في  الصميم.

إذن السؤال لماذا خسرنا الجنوب يجب أن يقود إلى سؤال آخر عن نوعية المجتمع والقيم التي تسيطر عليه.
Ibrahim Ibrahim [ibrali7@hotmail.com]

 

آراء