كيف كانت اشكال المعارضة للمهدية ؟ ( 1 / 3)
تاج السر عثمان بابو
4 February, 2024
4 February, 2024
بقلم: تاج السر عثمان
نواصل بمناسة الذكرى 139 لتحرير الخرطوم وانتصار الثورة المهدية، ونتناول في هذه الدراسة المهدية والمعارضة، فقد واجهت المهدية معارضة قبل انتصار الثورة، وبعد انتصارها اتسعت المعارضة وخاصة في سنواتها الأخيرة عندما تحولت الي دولة استبداية كرّست التفاوت الطبقي والنهب والسلب والقمع. واتخذت المعارضة للمهدية الأشكال الأتية :
1 - معارضة دينية .
2 - معارضة قبلية .
3 - معارضة داخلية ( الصراع من أجل السلطة ) .
4 - معارضة خارجية .
أولا : المعارضة الدينية
ويمكن أن نقسمها الى شقين : أ – معارضة العلماء ب – معارضة شيوخ الطرق الصوفية .
أ – معارضة العلماء والفقهاء .
انطلقت معارضة العلماء ( خريجي الأزهر أو المعاهد الدينية ) اما من صراع قديم بين أهل الظاهر والباطن أو بين الفقهاء ورجال الطرق الصوفية الذين يتخطون ظاهر الشرع ولا يعملون به وأمثالهم كثير في تاريخ الصوفية مثل الحلاج، ذو النون المصري، ابن عربي ، والسهروردى ، الخ.، وهؤلاء لهم طرق في المعرفة والالهام تتم باللقاء المباشر ودون واسطة ( الشريعة ) . من الفقهاء الذين عارضوا الصوفية بن تيمية واحمد بن حنبل، وهو صراع قديم، اضافة لخلفية ذلك الصراع، كان لصراع العلماء ضد المهدى في السودان ظلاله وارتباطه بالدفاع عن النظام الحاكم، هذا جانب، ولكن جانب الصراع القديم بين علماء الشرع والصوفية ترك ذيوله على هذا الصراع، فليس صحيحا أن ندمغ كل الفقهاء والعلماء الذين عارضوا المهدية بأنهم (علماء السوء)، أو ان معارضتهم كانت بايعاز من النظام.
بالتالى ، فان المعارضة كانت موجودة على حد تعبير د . محمد إبراهيم أبوسليم ( قوم ينكرون هذه الفكرة ( المهدية ) ويموتون من أجل ذلك، وآخرون يدافعون عنها ويبلون في سبيلها البلاء الشديد ويتوقون الى الموت في سبيلها.
( د. ابوسليم : الحركة الفكرية في المهدية ، 1970، ص 39 ، انظر ايضا عبد الله على ابراهيم : الصراع بين المهدى والعلماء ، شعبة ابحاث السودان جامعة الخرطوم 1968 ، ففيه عرض لذلك الصراع بالتفصيل ) .
المهدية كما يراها المعارضون خروج علي النظام الشرعى المتفق عليه وعلى سلطة الخلافة العثمانية والولاية المصرية، وصاحبها الذي يدعيها لنفسه ليس في نظرهم اهلا لها، ولايستوفى شروطها المعروفة وهو ليس الا خارجا على الخلافة وولاية الأمر ومدعيا بكذب على رفاقه لينعم من خلفهم بنعيم الدنيا، والمهدية كما يراها المؤيدون رسالة كُلف بها المهدى لبعث الدين من جديد ولرفع الوية الإسلام واحقاق الحق وإزالة دولة الترك التي خانت المسلمين واستبدلت أحكام القرآن بالقوانين الوضعية، وفي هذا الصراع انحاز بعض العلماء للمهدى مثل : احمد على قاضي الاسلام وحجاز مدثر ، واحمد جبارة ، وحسين الزهراء ، واسماعيل الكردفاني، ولأن الصراع نفسه لم يكن صراعا فقهيا ودينيا معزولا عن الصراع السياسي الوطني العام وعن الصراع الاجتماعي، كان صوت المهدى واصحابه قويا، وكان له الغلبة في ذلك الصراع، واشهر الرسائل المعارضة تلك الرسالة الصغيرة التي أاعدها بعض علماء الخرطوم التي صدرت عن المطبعة الحجرية بالخرطوم ووزعت على الناس، وهناك رسالة الشيخ محمد الأمين الضرير شيخ علماء عموم شرق السودان والتي يسميها (هدى المستهدى الى بيان المهدى والمتمهدى) والتي وردت في تاريخ شقير ، ثم هناك رسالة الشيخ احمد الأزهرى شيخ علماء عموم غرب السودان ( راجع نص الرسالة في عبدالله على ابراهيم : الصراع بين المهدى والعلماء ، ملحق 1 ، ص 49 ) . وهى النصيحة العامة لأهل الإسلام عن مخالفة الحكام والخروج عن طاعة الإمام ورسالة المفتي شاكر مفتي مجلس اسئناف السودان وهى : بطلان دعوى محمد احمد المتمهدى، والمشترك في رسالة أحمد الأزهري ورسالة شاكر العربي هو وجوب طاعة السلطان وبأن العلماء قد نصوا على أن الخروج عن طاعة الإمام حرام ، ونصوا أيضا على انه لا يعزل ولا ينبذ بيعته إلا إذا كفر أو أمر أحدا ليكفر والاعتصام بالكتاب والسنة، ويشير أحمد الأزهرى إلى بعض صفات المهدي الجسمانية ليصل إلى أنها كلها لا تنطبق على محمد احمد المهدي، ويناشد شاكر الناس بالا يغيروا دينهم ( بوساوس محمد احمد الشيطانية وهذياناته النفسية )، كما ينهى عن إتباعه وينعت الأنصار بالعصاة إلا أنه في النهاية يناشدهم بالعودة إلى الدين، والدين عنده طاعة الحكومة والسلطان، ويختتم بفتوى عن وجوب قتل الخوارج ونصر السلطان وهو يدعو بعد أن يورد فيها إجماع الأئمة علة الخروج عن الطاعة من الكبائر ودعا المواطنين لقتل الخوارج، ومن ثم يعلن أن قتلهم فرض ولمن قتلهم الأجر يوم القيامة ) ( أبو سليم : الحركة الفكرية ، ص 42 ) . وفي ذلك يقول د . ابوسليم ( من الأمانة أن نذكر أنها قد وضعت بتحريض عبد القادر باشا حاكم عام السودان بغرض الدعاية والدفاع عن الحكومة وطبعت في مطبعة الحكومة الحجرية . على أن مثل هذا التصرف لاينبغي أن يصرف فكرنا عن حقيقة النزاع الفكري القائم بين المهدي والعلماء )، ( نفسه : 42 ) .
ومن القضايا التي دار حولها الجدل الفكري بين الطرفين: العلماء ورد المهدي عليهم فكرة المهدي المنتظر والإمامة والخلافة ومؤهلات المهدي وإلغاء المذاهب والطرق الصوفية
ب – معارضة شيوخ الطرق الصوفية :
ليس صحيحا أن نقول أن المهدية وجدت تأييدا مطلقا من شيوخ الطرق الصوفية أو معارضة مطلقة، وحتى الذين أيّدوا المهدية في الأيام الأولى للثورة، لايعنى أنهم تخلوا عن طرقهم الصوفية وانضموا إلى المهدية، فالتأييد السياسي لأسباب مختلفة لا يعنى أن يكون هذا الشيخ أو ذاك قد انسلخ عن طريقته وانخرط في سلك المهدية، فالطرق الصوفية كانت قد رسخت جذورها في تربة الواقع السوداني لأربعة قرون، وبالتالي من المستحيل زوالها بين يوم وليلة بعد انتصار الثورة المهدية، لأنها أصبحت جزءا من البناء العلوي للمجتمع الذي لايزول بقرارات فوقية .
تبدأ معارضة شيوخ الطرق الصوفية من الشيخ شريف نور الدائم التي كانت واضحة في قصيدته التي أوردها شقير في تاريخه قبل وبعد إعلان المهدية، وبعد انتصار الجزيرة أبا والهجرة إلى قدير وجد المهدي معارضة من الشيخ المختار والذي كان له مكانته الدينية، بالإضافة إلى أنه سوداني وليس تركيا، وانتهت المعركة بهزيمة المختار وقتله بعد أن اعفي عنه في المرة الأولى (د. محمد سعيد القدال : الإمام المهدي ، 1985 ، ص 96 – 97 ) .
في شرق السودان أيد المجاذيب المهدية بينما عارضها الختمية وكامتداد للصراع القديم بين الختمية والمجاذيب في الشرق، هذا إضافة لمعارضة الختمية عموما للمهدية، ثم قرار المهدي بإلغاء المذاهب و الطرق الصوفية ( راجع نص خطاب الخليفة عبد الله الخاص بإلغاء المذاهب والطرق في أبو سليم : الحركة الفكرية ، ص 45 – 48 ) . لتحل محلها طريقة واحدة هي طريقة الأنصار الدينية الملتفة حول المهدي باعتباره خليفة رسول الله، وفي خطاب الخليفة عبدا لله يرد: أن من يشك في أو يكذب المهدي في المهدية فهو كافر ( وماله غنيمة للمسلمين ودمه هدر ) ( المرجع السابق : 47 ) .
أصبحت المهدية الإسلام الصحيح الوحيد، من يخرج عليها فهو كافر، وطائفة الأنصار أصبحت الطريقة الدينية الوحيدة.
بعد معارضة الختمية للمهدي يذكر في خطاب إلى السيد محمد عثمان الميرغني أن والده الحسن الميرغني قد أشار إلى مهديته المرتقبة ، يقول المهدي ( وقد تعلم أنى خليفة رسول الله ( ص ) لأنك حرى بعلم مهديتي الذي لايخفا على ذي بصيرة بغيره سيما وانت أدرى بإشارة والدك السيد محمد الحسن الميرغني بمهديتي لأنك خليفة وعلى إثره ( الحركة الفكرية: 9 ) . وتشير المصادر أيضا الى معارضة الشيخ محمد ود دوليب للمهدية التي قامت بها أسرة الدواليب بغرب السودان التي اعتنقت الطريقة التيجانية للمهدية في (نصيحة ) الشيخ محمد دوليب يصور الثورة المهدية بأنها هجمة الإعراب وقبائل غرب السودان على المجتمع المتمدن باسم الدين الذين لايفقهون تعاليمه ولاتمثل الدعوة المهدية لهم الاوسيلة لسفك الدماء وإباحة الفروج ونهب الأموال وغيرها من أنماط السلوك البدوي القديم ) ( عوض السيد الكرسني : نحو مشروعية لمعارضة المهدية : نصيحة الشيخ محمد ود دوليب ، مجلة الدراسات السودانية عدد ا- 2 ، مزدوج مجلد 9 ديسمبر 1989 ) . ويقول كرسني ( إن هجوم ود دوليب على الثورة المهدية يحمل في طياته موقف المجموعات ذات المصلحة المؤكدة في استمرار النظام التركي – المصري القائم ) ( نفسه : 10 ) .
بعد إلغاء المهدية للطرق الصوفية ومصادرة نشاطها، مارست نشاطها سرا، وحافظت كل طريقة على روابطها الاجتماعية والاقتصادية والدينية. فالطرق الصوفية لم تكن رابطة حول شيخ معين فحسب، بل كانت روابط وعلائق وتنظيمات اجتماعية واقتصادية، وبالتالي كان طبيعيا بعد زوال المهدية أن تواصل تلك الطرق نشاطها علنا، وتظهر الطرق القديمة التي حلتها المهدية حتى يومنا هذا مثل : القادرية ، الشاذلية ، الختمية ، البرهانية ، .... الخ .
وهذا مثال من التجربة التاريخية، يشير إلى أن التنظيمات الاجتماعية والدينية، من المستحيل حلها أو إزالتها بقرارات لأنها تتعلق بالمعتقد وحرية الضمير..
ثانيا : المعارضة القبلية:
واجهت المهدية معارضة قبلية اتخذت طابع العصيان المسلح لأسباب مختلفة منها مقاومة الهجرات الجماعية للعاصمة ومقاومة احتكار البقارة أو بالتحديد التعايشة على مراكز النفوذ والسلطة ولأسباب تاريخية وجغرافية أو لفقدان بعض القبائل لمصالح ومنافع كانت تحصل عليها من الحكم التركي – المصري ، أو لمقاومة انضمام أبناء القبائل للجهاد والاشتراك في حملات الخليفة إلى مصر والحبشة وغيرهما، أو مقاومة أوامر المهدية بمنع بعض العادات والتقاليد الاجتماعية التي كانت سائدة وسط القبائل، هذا إضافة إلى أن المهدية بطبيعة أهدافها كانت ضد التنظيمات القبلية ( أبو سليم: الحركة الفكرية، ص 34 ).
ومن الأمثلة لتلك الثورات نذكر :
• ثورة (مادبو) شيخ الرزيقات، وكان الدافع المباشر للثورة هو نزوعه للاستقلال عن عمال الخليفة واعتراضه على الهجرة الى العاصمة، يقول د .أبو سليم ( وقد كان من نتائج هذه الثورة إخلاء بحر الغزال ، كما أنها أشاعت الخراب والفوضى في جنوب دارفور، وقد قبض على مادبو ولاقى حتفه في فبراير سنة 1887 م على يد حملات حمدان ابوعنجه الذي كان يحمل له ضغينة قديمة ( نفسه : 34 ) .
• أرسل ابوعنجه رأس مادبو إلى الخليفة في امدرمان، وفي هذا يقول سلاطين باشا أن الخليفة رغم إصداره الأمر بتعليق رأس مادبو في الجامع ( جامع الخليفة)، إلا أنه ابدي أسفه لمقتل مادبو ( سلاطين : 415 ) .
• كما أن من أهم آثار ثورة مادبو ما أسفرت عنه من نقص في قوات وعتاد المهدية في الغرب بسبب المعارك والمطاردة (عزام ابوبكر على الطيب: العلاقات بين الخليفة عبد الله التعايشي وقبائل السودان، دار جامعة الخرطوم، 1992 ، ص ، 100 ) .
• في سنة 1886 أمر الخليفة عوض الكريم (أبوسن) شيخ الشكرية لكي يحضر برؤساء قومه إلى العاصمة، ولكن هؤلاء لم يحضروا، بل خرجوا عليه فقبض الخليفة على عوض الكريم وسجنه إلى أن مات وجرد حملة على الشكرية ونكل بهم.
• كما رفض الحمدة بزعامة شيخهم محمد البشير على طه سياسة التهجير وثار الحمدة ، فطارد الخليفة شيخهم إلى أن قتلهم ونكل بأهله.
• ثورة الضببانه بزعامة محمود زائد الذين هزمهم الخليفة وظفر بزايد وسجنه إلى أن مات في سنة 1889 ، وكان من أسباب ذلك أن الشيخ زايد لم يؤيد الدعوة المهدية، كما أنه رفض إجابة داعي الخليفة عندما دعاه إلى امدرمان لأخذ البيعة منه.
• ثورة قبيلة رفاعة الهوى (أو بني حسان) في عام 1888 بزعامة شيخهم المرضى أبى روف بالتحالف مع العقليين والعلاطين ، وكان السبب المباشر هو رفض الهجرة الجماعية وقضى الخليفة على حركتهم في واقعة الاهليليج أمام فشودة ، بالإضافة إلى رفض شيخ المرضى ودابوروف للقدوم إلى امدرمان ، يقال أنه نقض البيعة، هذا إضافة لعامل اقتصادي آخر : وهو أن هذه القبيلة كانت تبسط نفوذها على الضفة الغربية للنيل الأزرق بإقليم سنار حيث كان يتم تمويل العاصمة امدرمان باحتياجاتها من الحبوب والغلال ( عزام مرجع سابق : 57 ) .
• وفي سنة 1889 ثار البطاحين وقطعوا الطريق وكانت حركتهم مرتبطة بمقاومة الهجرة الجماعية واستنفارهم للاشتراك في حملة ود النجومي على مصر وقد قضى الخليفة على هذه الحركة بصرامة قاسية ويقول شقير انه سقط منهم عدد كبير وسيق الباقون اسري بنسائهم وأطفالهم وصودرت مواشيهم، وكان بين الأسرى 67 رجلا جعلهم الخليفة أربعة فرق – فرقة قتلت شنقا وفرقة ضربت أعناقها، وأخرى قطعت أيديها اليمنى وأخرى قطعت أيديها وأرجلها من خلاف ( شقير : 1138 ) .
• وكانت هناك معارضة الكبابيش للمهدية (واتفق المؤرخون إجمالا على إن موقع الكبابيش الاستراتيجي على طرقي التجارة بين كردفان ومصر والفائدة التي تقع لهم من نقل هذه التجارة والصمغ بالذات هو واحد من أهم أسباب خصومة الكبابيش للمهدية التي ستنتهي بتهجيرهم إلى امدرمان ، وتجارتها مع مصر إلى ضياع مؤكد لمصالحهم (عبد الله على إبراهيم: المهدية والكبابيش: نحو مشروعية المعارضة في دراسات في تاريخ المهدية – المجلد الأول ، ديسمبر 1981 ، ص ، 121 – 122). هذا إضافة للأسباب الأخرى التي يوردها المؤرخون مثل عدم قبول الكبابيش للدخول في المهدية وتسبب ذلك الموقف إعدام شيخ القبيلة بعد استيلاء المهدي على الأبيض مباشرة ( ثيوبولد : 1962 ، ص ، 147 – 148 ) . ويرى محمد محجوب مالك إن الكبابيش استفادت أكثر من غيرها من قبائل كردفان بأسباب الأمن الذي فرضته الإدارة التركية على السودان ( محمد محجوب مالك : المقاومة الداخلية لحركة المهدية ) .
• وبعد وصول الكبابيش إلى صيغة للتفاهم مع الحكم التركي أصبح للنوراب فيما يشير عبد الله على إبراهيم والذين هم فرع من الكبابيش، القدح المعلى في العائد من ترحيل الصمغ خاصة وإنهم يمتلكون عددا هائلا من الجمال بالمقارنة مع فروع الكبابيش الأخرى، وبالتالي أصبح النوراب أوفر حظا في العائد من ترحيل الصمغ فقد قرر اسكاريس دى لاتور أن الشيخ فضل الله ود سالم وحده يملك في تقدير متواضع 5000 جمل والعدد نفسه من النياق و300 ) ( عبد الله : المهدية والكبابيش ، ص ، 123 ) . ولا يوافق عبد الله على إبراهيم على نظرية الأمن المجرد والاستقرار ويرى أن الكبابيش ( لم يقبلوا بأمن مجرد ، فقد راوغوا التركية لسبعة عشر عاما حتى رأى النظام التركي أن يردف سيف المعز بذهبه ( نفسه : 124 ) . وفي رأى هولت أن ما أخر الكبابيش عن الانخراط في الثورة المهدية طول خضوعهم للترك في حين بادر بقارة دارفور للثورة لأنهم لم يدخلوا تحت إمرة الترك الا بعد فتح دارفور 1874 م . ويضيف عبد الله على إبراهيم جانبا آخرا مكملا للجانب الاقتصادي يتعلق بالبنية الاجتماعية والأخلاقية لارستقراطية النوراب التي دخلت المهدية معها في تناقض وصراع معها مثل : معارضة النوراب لطلب المهدي ترك استعمال الخمرة التي كانت جزءً من تقاليدهم ومجالسهم وشعرهم وفخرهم، طلب المهدي منع النساء والبنات من الخروج وأن يسترن أجسادهن ورؤؤسهن، وأن تضرب من تكشف على رأسها أو تترك سترها بينما لا ترى ارستقراطية النوراب وغيرها من الإعراب عيبا في أن يدخل الرجل أو الجماعة من الرجال ستر النساء بدافع ( الونسة ) اى تجاذب أطراف الحديث بدافع الاستلطاف بغير انتباه لمسألة المحرم وغير المحرم ويشترط شاعر للرجل في مثل ذلك المجلس أن يكون ذا سعة من ضمن أخرى، معارضة تخفيض مهر النساء وخاصة من أصحاب الامتيازات والثروات، هذا إضافة لطلب المهدي ترك النياحة على الميت بما فيه من فرش واجتماع عليه ضمن طقوس النياحة والفرش اجتماع القبيلة حول ( النقارة ) لدى وفاة واحد منها، وقد تركوا ثغرة تدخل منها الإبل وغيرها لتدور داخل حلقة القبيلة ليتناولها الواقفون بالتعليق على نوعها وعددها في مشهد يوضح القائم على الثروة ( نفسه : 129 ) .
إشارة عبد الله على إبراهيم لموضوع معارضة الكبابيش توسع زوايا النظر، ومن المهم في كل قبيلة من القبائل التي عارضت المهدية أن نحدد القوى ذات النفوذ والثروة والتي فقدت ذلك بعد الثورة المهدية أو هددت المهدية مصالحها، وعلى ضوء حجم وثقل تلك المصالح نحدد هذا الفرع أوذاك من القبيلة التي عارضت المهدية أو أيدتها .
فتوجه المهدي في أول منشور له في سهول وبطاح كردفان ودار فور فيما يتعلق بسياسته نحو الأرض مثلا كان ضد أصحاب النفوذ والثروة ، وفيه انحياز إلى الفقراء والمعدمين من المزارعين والرعاة ، وبالتالي دخل في تناقض مع الفئات التي كانت مصالحها الاقتصادية مرتبطة بالنظام التركي. هذا على المستوى الخاص والتوجه الطبقي ، ولكن على مستوى آخر فان أوامر المهدية الخاصة بمنع الخمر وحجر النساء ومنع التنباك والتبغ والنياحة على الميت ومنع الألعاب مثل: الطاب والغناء والرقص والدلاليك والمزامير . الخ. هذه الأوامر دخلت في تناقض مع تقاليد وعادات مرتبطة بأسس نظم القبائل الاقتصادية والاجتماعية، أي البناء العلوي لتلك القبائل التي من المستحيل إزالتها بقرارات، ومثال على ذلك الشايقي الذي احتج على أوامر المهدي الذي كان يشير إليها عامل بربر محمد الخير فصاح قائلا في محمد الخير :
لامريسى ولاطنبير ولاتنباك ولاسنجير
وده كله من مهديك الكبير وعقربا تطقك يامحمد الخير .
• معارضة الشايقية أو إذا شئنا الدقة الأقسام من الشايقية التي ارتبطت مصالحها بالحكم التركي – المصري وعملت في جهاز دولة الحكم التركي وجيشه أو انخرط على المستوى القيادي في سلك الطريقة الختمية التي عارضت المهدية ، فليس صحيحا أن كل الشايقية عارضوا المهدية ، فهناك أقسام من الشايقية انحازوا للثورة المهدية واشتركوا في حروباتها ، وفي منشور للمهدي إلى كافة أحبابه ببربر يأمر بالا ينازع الشايقية المذكورين ( السواراب ، الحنكاب والعونية التابعين للمهدية ) : مساكن ، أراضي ، نخيل تحت أيديهم ومملوكة لهم نحو 66 عاما – في ممتلكاتهم وأي ممتلكات زاد وضع اليد عليها على سبع سنوات (الأمام المهدي: الآثار الكاملة : ج4 : 84 ) . ويفهم من هذا المنشور أن الشايقية المذكورين أيدوا المهدية .
• مثال آخر ثورة الجعليين في السنوات الأخيرة للمهدية التي قمعها الخليفة عبد الله بوحشية شديدة ، ويرجع ذلك إلى عصيان الجعليين وعدم رضوخهم لسلطان دولة المهدية والاعتراف بحكم الخليفة، واتهمهم الخليفة بالاتصال بسلطات الاحتلال البريطاني في مصر، وبدأ عصيان الحعليين عندما ولى الخليفة عبد الله التعايشي لعبد الله ودسعد أمر شندى على الضفة الشرقية للنيل قبالة المتمة على أن يسند أمر المتمة وما جاورها من قرى الجعليين إلى محمود ودا حمد ، أي أن تنتقل جموع الجعليين إلى الضفة الأخرى وإخلاء المتمة ليعسكر بها محمود وجيوشه . وعندما رجع عبد الله ودسعد إلى قومه ( بعد أن استدعاه الخليفة إلى امدرمان ) اخبرهم بما عزم عليه الخليفة بشأن ترحيلهم إلى شندى، غير أن أفراد الخليفة قابلوا الأمر بانقسام في الرأي، فمنهم من رأى الخضوع لرغبة الخليفة، ومنهم من رأى الابتعاد نهائيا عن المنطقة واللحاق بجيش الغزو في دنقلة، ولكن زعيمهم ودسعد كان يرى في الرحيل إلى دنقلا أمرا غير سهل التنفيذ ( عزام : 65 )، وبعد أن تأكد الخليفة من عصيان الجعليين فتك محمود وداحمد بالحعليين، وقتل منهم عددا كبيرا من الرجال وتم سبي النساء وخُربت المنازل والمتاجر ثم عبرت جيوش المهدية النهر بعد نكبة الجعليين إلى شندى ليكتمل تجمعها هناك، ومن هناك سارت بمحاذاة النيل متجهه شمالا إلى أن وصلت ألنخيله التي دارت فيها المعركة الشهيرة والتي انتصر فيها كتشنر على محمود وداحمد مما سهل له طريق الوصول الى امدرمان ، وفي رسالة من محمد احمد إلى الخليفة بعد نكبة الجعليين نجده يؤكد أن عبد الله ودسعد كان يراسل جيش الفتح ( عزام : 66 – 67 ) .
• ونذكر أيضا تمرد الشلك الذين أرسل إليهم الخليفة بتأدية عشر محصول المنطقة عندما اجتاحت مجاعة 1306 ه ، امتنع المك (الرث) عمر عن إرسال المحاصيل التي طلبها الخليفة متعللا بأنه لايخضع للخليفة، ابدي الخليفة استياءه من تصرف زعيم قبيلة الشلك واعتبر موقفه ذلك عصيانا فجهز جيشا بقيادة الزاكى طمل في عام 1890 – 1891 م، حشد المك عمر جيشا للدفاع عن بلاده، غير أن الزاكى طمل شن عليه هجوما خاطفا انهزم على أثره الشلك، كما قُتل المك عمر وأرسلت رأسه إلى الخليفة في امدرمان، ثم قام الزاكى طمل بمصادرة أعداد هائلة من الماشية وقام بإرسالها إلى العاصمة، مكث الزاكى طمل فترة من الوقت بعد تلك المذبحة التي قام بها في فشودة – عاصمة الشلك – ( بلدة كدوك حاليا ) التي تركت في نفوس الشلك والقبائل المجاورة لهم شعورا بالمرارة ( عزام : 122 – 123 )، وللمزيد من التفاصيل، راجع تاج السر عثمان الحاج ، دراسات في التاريخ الاجتماعي للمهدية، مركز عد الكريم ميرغني 2010). .
• في شرق السودان واجهت المهدية ثورات مثل ثورة قبيلة الهدندوة والتي نشبت بسبب سجن عثمان دقنه لشيخ قبيلة الهدندوة نتيجة لنزاعه مع محمد على دقنه – احد أقرباء عثمان دقنه – حاكم كسلا ،مما أدي إلى سخط قبيلة الهدندوة فقام رجالها باقتحام السجن واخرجو شيخهم منه. وعندما بلغت الخليفة أنباء الاضطرابات في كسلا قام بفصل إدارة كسلا عن إمارة الشرق . وكذلك ثورة قبيلة الامرأرالتي نشبت بعد أن دب الخلاف بين الشيخ احمد زعيم الآمرأر والأمير عثمان دقنه وذلك عندما تضررت القبيلة من الإجراءات الصارمة التي اتخذها عثمان دقنه لتصريف شئون الإقليم ( المنطقة المحيطة بسواكن التي يقيم فيها الامرأر ) . وقد انتهى ذلك الخلاف بصدام مسلح بين عثمان دقنه والآمرأر بعد أن أغارت على بلدة ابوهشيم وقتلت عدد من رجال عثمان دقنه في أواخر يونيو من 1886 ، إلا أن عثمان دقنه تمكن من هزيمتهم ( نفسه : 124 – 125 ) .
• في غرب السودان ، بالإضافة لثورة الرزيقات بقيادة مادبو المشار إليها سابقا، تمكن الخليفة من تحطيم مقاومة قبيلة التعايشة للهجرة، كما حطم الخليفة عبد الله مقاومة الهبانية للهجرة ( للمزيد من التفاصيل راجع عزام ، المرجع السابق). .
• كما نذكر أيضا تمرد قبائل جبال النوبا على حكم الخليفة عبد الله والذين أرسل إليهم الخليفة حمدان ابوعنجه لقمع ذلك التمرد
نواصل
كيف كانت أشكال المعارضة للمهدية؟ (2 / 3)
بقلم : تاج السر عثمان
ثالثا : المعارضة الداخلية ( الصراع على السلطة) :
المقصود بالمعارضة الداخلية هو الصراع بين قيادات الثورة المهدية من أجل السلطة أو صراع تيار ضد آخر، فالثورة المهدية ضمت أنصارا من أصول اجتماعية وطبقية وقبلية وفكرية متنوعة ومتباينة، وهذا التنوع والتفاوت والتباين كان له انعكاسه في الصراع داخل طائفة الأنصار أو حزب السلطة، كما كان له انعكاسه في الصراع من أجل السلطة .
معلوم أن الصراع شئ طبيعي ومحرك للتطور، وليس غريبا، وتتباين أساليب إدارته، فمنها العنيفة والقمع الوحشي للمخالفين وإبعادهم أو قتلهم أو سجنهم، ومنها أساليب الإغراء، وعلى طريقة "سيف المعز وذهبه"، ومنها أساليب الإقناع والحوار في إدارة الصراع . وفي إطار هذا الصراع نعلم أن الخليفة عبد الله اختار أسلوب القمع للمعارضين له، فقد كان الصراع بينه وبين الأشراف صراعا من اجل السلطة ومراكز النفوذ في قيادة الثورة المهدية، وهذا شئ لم تنفرد به المهدية، وإنما شهدته معظم الثورات الاجتماعية التي جاءت بعدها، والتي كانت مماثلة أو مختلفة عن الثورة المهدية .
لفهم طبيعة هذا الصراع يجدر بنا أن نحدد الأصول الاجتماعية والدينية والطبقية والقبلية التي انحدر منها ابرز قيادات الثورة المهدية التي دار بينها الصراع أو قادت الصراع الداخلي في المهدية. وسوف نعتمد في سيرة هذه الشخصيات على المعلومات التي قدمها د. ابوسليم في مؤلفه الحركة الفكرية في المهدية 1970، وموسوعة ريتشارد هل : أكسفورد 1951 .
1 – الياس باشا أم برير: تاجر ثرى من تجار الأبيض، انضم إلى المهدية بعد خلافاته مع منافسه احمد دفع الله، وبعد أن أعفته الحكومة من منصب مدير شكا، مال إلى جانب المهدي وقدم له خدمات كبيرة، وهو من قبيلة الجعليين، سُجن في عهد الخليفة بتهمة الاتصال بالحكومة المصرية ومات في سجنه في سنة 1898 م. 2 – المنا إسماعيل : من أعيان الجوامعة، اتصل به المهدي منذ زيارته لكردفان، وقد انضم إلى المهدية في أيامها الأولى، وفتح مركز التباره ، ولعب دورا خطيرا في وقائع كثيرة وفي حصار بارا، كان جيشه عظيما، بعد فتح الأبيض وقع خلاف بينه وبين المهدي حول منصب خلافة عثمان التي طالب بها المهدي وحول منافسته مع الخليفة عبد الله، وعلى الاثر خرج المنا بجيشه وعسكر بقرية دار الجوامعة، رفعه المهدي عن الإمارة، ولم يقبل المنا ذلك، فأرسل جيشا للقبض عليه وقد تم ذلك وسيق المنا مع بعض معاونيه إلى القيادة حيث جرى إعدامهم، وكان ذلك في جماد آخر سنة 1300 ه / مايو 1883 م .
3 – المك آدم عمر: مك جبال تقلى ، كان أبوه عمر مكا لتقلى عند وفاته خلفه أخوه ناصر الذي كان رهيبا، وقد أخذ آدم الملك عنه عنوة بتأييد الناس، وكانت علاقته بالإدارة المصرية علاقة جافة إذ لم يدفع الجزية، دخل المهدي دياره إثناء هجرته إلى قدير، وحماه من هجوم محمد سعيد ولكنه اعترض على التبعية له ثم أذعن له وعيّن أميرا، هاجر إلى المهدي في سنة 1884 بعد واقعة هكس بناءً على طلبه وصحب جيش المهدي في طريقه إلى الخرطوم ، وهو مرغم ، وقد توفى في شيشه في أواخر سنة 1884 م، اخلص ابنه عمر للمهدية واحتل مكانا مرموقا في عهد الخليفة عبد الله.
4 – على ود حلو: خليفة الراية الخضراء، وهو من قبيلة دغيم، اتصل بالمهدي قبل المهدية ثم انضم إليه وتنخرط في سلك الدعوة عند بدايتها، وكان تحت لوائه دغيم وكنانه والحسنات والعمارنه واشتهر من جماعته أخوه موسى الحلو الذي استشهد مع الخليفة وجماعة آخرين من المشاهير في واقعة أم دبيكرات في سنة 1899 م .
5 – محمد شريف: خليفة الراية الحمراء وابن عم المهدي، اشترك في حركة المهدية منذ أوائلها وهو صغير السن وعُين خليفة للرآية الحمراء ، وهى رآية أبناء النيل، ثم صار خليفة الكرار في المرتبة الدينية ، اختلف مع الخليفة عبد الله بعد وفاة المهدي ووقع ما يعرف بفتنة الإشراف الأولى والثانية فسجنه الخليفة وصفى نفوذه وقتل معظم أعوانه الكبار، ظل في سجنه حتى احتل الجيش المصري بقيادة كتشنر دنقلا، سلم للجيش الفاتح في نوفمبر 1898 ومعه بعض أبناء المهدي وأقام في الشكابة ، قُتل غدرا هو وبعض أبناء المهدي في سنة 1899 م
6 – أحمد سليمان : صديق المهدي وأمين بيت المال، وهو من قبيلة المحس، ومن أوائل أنصار المهدي، وكان من المعارضين للخليفة عبد الله، تولى أمانة بيت المال في قدير وظل يحتلها حتى وفاة المهدي حيث رفعه الخليفة عبد الله لاشتراكه في فتنة الإشراف، وكان على رأس هذه الفتنة، قُتل في فشودة على يد الزاكى طمل بعد أن أرسل أليه محبوسا، وكان ذلك في 1889 م .
7 – احمد ود محمد جبارة: جاءت أسرته مع جيش إسماعيل واستقرت به، وقد كان ممن انضم إلى المهدي في أوائل الدعوة وعُين قاضيا للإسلام في قدير وظل في هذا المنصب إلى أن استشهد في واقعة الأبيض الأولى في 24 شوال سنة 1299 ه 8 / سبتمبر / 1882 م ..
8 – محمد خالد زقل : ابن عم المهدي ومن كبار قادة عهده، بدأ حياته تاجرا ثم صار موظفا في دارفور ، عين مديرا لشكا في 1879 م، وعاون في القضاء على سليمان الزبير، وعند قيام الثورة المهدية مال إليها، ثم وفد إلى المهدي واستقر إلى جانبه، ، وعُين أميرا على عموم دارفور وأرسل على رأس قوة احتلت دارفور دون صعوبة وسلّم له سلاطين باشا، استدعاه الخليفة اثر فتنة الأشراف وصفى قوته في بارا ثم سجنه مدة في امدرمان، أفرج عنه وأُرسل في وفد للنظر في النزاع بين عثمان دقنه وأبى قرجه ، فاقام بالشرق مدة ونظّم الإدارة فيه ثم أرسل عاملا على دنقلا، إلا أن مقامه بها لم يطل إذ استدعى إلى امدرمان اثر فتنة الأشراف الثانية في سنة 1889 م، ونُفى إلى الرجاف حيث ظل مسجونا حتى أطلق سراحه البلجيكيون في سنة 1897 م فذهب إلى دارفور وقام بها إلى أن قتله على دينار في سنة 1903 م .
9 – كرم الله محمد كركساوى: أصله دنقلاوى ، ذهب إلى بحر الغزال للتجارة، ثم انضم إلى المهدي وهاجر إليه ثم عاد إلى بحر الغزال أميرا عاما عليها من قبل المهدي وكانت المديرية تعانى من الثورات التي قام بها أنصار المهدي وخلفاؤه وهى تشبه حرب العصابات فسهل ذلك مهمة كرم الله الذي دخل المدينة في سنة 1884 م دون قتال وسلم له لبتن بك الذي أُرغم على التسليم . اعد كرم الله العدة لاحتلال الاستوائية إلا أن وفاة المهدي وثورة الرزيقات اضطرته إلى إخلاء بحر الغزال، وقمع ثورة الرزيقات ثم دخل في صراع مع الأمير يوسف إبراهيم الذي كان عاملا على دارفور منذ غادرها زقل أفل نجمه بعد ذلك اثر سياسة التخلص من الدناقلة، اشترك في واقعة فركه ( 1896 م ) وجُرح فيها وبعد سقوط المهدية ذهب إلى دارفور وأقام بها إلى أن قتله على دينار في سنة 1903 م .
10 – محمد الخير عبد الله خوجلي: أستاذ المهدي وأمير أمرائه، واصله جعلي ، كانت عنده خلوة مشهورة في الغبش وتتلمذ عليه فيها بعض مشاهير المهدية ومنهم المهدي نفسه، وقد سعى المهدي بعد فتح الأبيض فعين أميرا على بربر وعدّل اسمه من محمد الضكير إلى محمد الخير فعُرف به بعد ذلك، حاصر بربر سنة 1884 م واستلمها في سنة 1885 م، اشترك في مقاومة حملة إنقاذ غوردون الانجليزية ثم طاردها عند انسحابها حتى استولى على دنقلا . وأصبح عاملا على دنقلا وبعد انكسار قوات محمد الخير في واقعة جسي في 20 / ديسمبر / 1885 م، عزله الخليفة من عمالة دنقلا وتولى الأمير ود النجومى عمالة دنقلا، ثم عاد الخليفة فعزل محمد الخير عن عمالة بربر واحل محله يونس الدكيم وهو من أبناء غرب السودان، وكانت تربطه بالخليفة صلة عائلية، توفي محمد الخير في سنة 1888 ( عزام : 81 ، وفي رواية ابوسليم ورد أن محمد الخير ظل عاملا على بربر حتى وفاته في سنة 1888 م ) .
11 – عثمان دقنه : هو عثمان بن أبي بكر دقنه يقول شقير ( انه من قبيلة الدقناى ) أصله من البجا ولد في سنة 1840 وعمل في مقتبل عمره بالتجارة، وقد قبضت عليه السفن البريطانية وسلمته إلى السلطات المصرية فسُجن وضاعت تجارته، وقد ظل يحمل ضغينة ذلك في نفسه، وعند قيام الثورة العرابية عطف عليها وحاول نصرتها وأُجبر على مغادرة سواكن إلى بربر ولما قامت الثورة المهدية هاجر إلي المهدي وأخذ عنه البيعة في الأبيض وعُين أميرا على شرق السودان وبتحالف مع المجاذيب استنفر البجا وهاجم النقط الحكومية وقضي عليها ماعدا سواكن، وفي سنة 1891 خسر عثمان طوكر التي استولى عليها قولد اسميث وعندما تقدم الجيش المصري أضيف عثمان إلى قيادة محمود ودا حمد واشترك في واقعة كرري وواقعة ام دبيكرات ، وقد فرّ بعد الأخيرة قاصدا الحجاز إلا أنه وقع في الأسر في سنة 1900 م ونفى إلى حلفا، أدى فريضة الحج وتوفي في سنة 1926 .
12 – محمد عثمان ابوقرجة: أصله من دناقلة القطينة، بدأ حياته تاجرا وعمل في شركة العقاد ومع الزبير باشا وإدريس ابتر . انخرط في سلك المهدية منذ أوائل المهدية وقاد القوة التي كانت تناوش هكس، ثم اشترك في واقعة شيكان . لقب بأمير البحرين، وأُرسل لمحاصرة الخرطوم فسلم له صالح المك، ثم حاصر الخرطوم حتى جاءه النجومى وظل مشتركا في الحصار حتى سقطت المدينة، كلف بجمع زكوات الشكرية ثم أُرسل إلى شرق السودان، وهناك حصلت منازعات بينه وبين عثمان دقنه وصار مسئولا عن الإدارة بينما صار عثمان مسئولا عن الجيش ثم أُرسل مسجونا إلى الرجاف حيث بقى حتى فك إساره البلجيكيون، ومن ثم ذهب إلى دارفور وأقام بها مدة ثم عاد إلى أم غنيم وأصبح عمدة بامدرمان في سنة 1916 م.
13 – عبد الرحمن النجومى : أمير أمراء الراية الحمراء، ومن أوائل المنتسبين إلى المهدي ، لعب دورا خطيرا في وقائع كرد فان ثم قاد الحملة على جبل الدائر، ثم أُرسل قائدا على المحاصرين لمدينة الخرطوم، فظل محاصرا لها حتى فتحت على يديه، وبعد الفتح ذهب إلى بربر ليتولى قيادة القوات المطاردة للحملة الانجليزية، ثم استدعى للاشتراك في محاصرة سنار، ألا أن المدينة سقطت قبل أن يشترك في وقائعها، عاد بعدها إلى الجبهة الشمالية ليهزم في واقعة جنس،تولى قيادة القوات في دنقلا، إلا أن القيادة لم تكن مريحة نسبة إلى المعاكسات إلى تعرض لها من قبل مساعد قيدوم ثم يونس الدكيم، تولى قيادة القوات التي أعدت لفتح مصر وسار بها حتى استشهد في واقعة توشكي في أغسطس 1889 م .
14 – عبد الله النور: أصله من العركيين ومن أوائل أمراء المهدية ، اشترك في وقائع المهدية الأولي واشترك في حصارها ، قتل قرب بوابة برى في أواخر أيام الحصار 1885 م فحزن الأنصار لمقتله، له أخ يدعى مكين النور ، وهو من الأمراء الذين اشتركوا في حملة النجومي ومات متأثرا بجروحه.
15 – حمدان ابوعنجه: أمير الأمراء ، ولد حوالي 1835 م واشترك في حروبات الزبير والرزيقات، انضم إلى حركة المهدي في وقت مبكر وخدم تحت الراية الزرقاء، صار قائدا للجهادية بعد سقوط الأبيض ولعب دورا خطيرا في القضاء على هكس وقواته، اشترك في حرب الداير وتولى القيادة المباشرة في معركة امدرمان، أُرسل بعد فتح الخرطوم عاملا على جبال النوبة، فقضى على الخارجين، قابل محمد خالد زقل في بارا بناءً على أمر الخليفة وصفى قيادته وأرسله مسجونا إلى الخليفة، تولى قيادة الجبهة الشرقية في القلابات وغزا الحبشة في سنة 1887 م، ودخل مدينة غندار وغنمها ، توفى سنة 1888 م وخلفه في القيادة الزاكى طمل . ويضيف د .شبيكة إلى ترجمة أبى سليم أعلاه : أن حمدان ابوعنجه خدم في جيش ابنه سليمان ولم يسلم مع سليمان ولافر مع رابح، بل بقى في دار التعايشه فقبض عليه محمد خالد زقل مدير داره في ذلك الحين وزجه في السجن، ثم خرج من السجن وبقى في دار التعايشه وعلم المهدي بسالته وتعوده على إدارة الأسلحة النارية فجعله أميرا على الجهادية كما تقدم ( ابوسليم : 29 ، ود . شبيكه : السودان والثورة المهدية : 131 ) .
16 – المدثر إبراهيم الحجاز : كاتب المهدي وأمين سر الخليفة وأصله جعلي، ولد سنة 1855 م، ذهب إلى الحجاز صغيرا ثم عاد إلى السودان بعد قيام المهدية، كتب للمهدي ثم للخليفة وصار حامل ختم الخليفة بعد مقتل فوزي بادي، أرسله الخليفة في مهمة سرية إلى حمدان ابوعنجه إثناء فتنة الإشراف الأولى ، فاشترك معه في تصفية قوة محمد خالد زقل في بارا وإرساله مسجونا إلى أم درمان، سلم للجيش الفاتح الأوراق التي عنده ثاني يوم واقعة كرري، لعب دورا خطيرا في ثورة الشريف حسين في مكة ضد تركيا في سنة 1916 ، توفى في بربر سنة 1937 م .
17 – الزاكى طمل: أمير الأمراء، من مواليد التعايشه والمنضله، قاد الأنصار في دارفور ثم اشترك في وقائع الحبشة تحت قيادة أبى عنجه، وبعد وفاة حمدان عُين بدله أميرا على أمراء القلابات، قاد قواته بعد ذلك بقليل في معركة القلابات وانتصر على الأحباش وقتل الملك يوحنا إمبراطور الحبشة رغم تفوقهم في القوات والسلاح، انشغل بعد ذلك بمحاربة الشلك ثم وشى به الوشاة فقُبض عليه ومات جوعا وعطشا في سنة 1892 م ..
18 – إبراهيم عدلان: من قبيلة الكواهله، بدأ حياته تاجرا في الأبيض ثم في مدني، خلف أحمد سليمان في أمانة بيت المال في 1889 م ونظم إدارتها ورتبها في أقسام مختلفة واقنع الخليفة بإعادة التجارة مع مصر ، اعدم شنقا في 1891 م اثر منافسة بينه وبين يعقوب وفي ظروف الجو الذي ترتب على مجئ البقارة ، خلفه النور إبراهيم الجريفاوى ..
19 – الأمير يعقوب بن محمد : اخو الخليفة عبد الله وأمير أمراء الراية الزرقاء وساعد الخليفة الأيمن ، ولد في سنة 1855 م وانضم إلى المهدي بينما كان في طريقه إلى قدير سنة 1881 م ، اشترك في معظم الوقائع الكبيرة في كردفان وتولى قيادة الهجوم على امدرمان وبعد وفاة المهدي تولى القيادة العامة للجيش بالإضافة إلي قيادة الراية الزرقاء، ولكنه لُقب أمير جيش المهدية رسميا ، كما انه أصبح الرجل الثاني في نظام الخليفة وقد لعب دورا خطيرا في حوادث التصفيات الداخلية لأنه كان شخصا متوجسا، وُصف بالمقدرة الفائقة والكفاءة، نازعه السلطان في أواخر أيام المهدية عثمان شيخ الدين الابن البكر للخليفة عبد الله وقائد الملازمين، قتل في واقعة كرري في 2 / سبتمبر / 1898 م .
20 – احمد على قاضى الإسلام: تولى القضاء في الإدارة المصرية في إقليم دارفور، ثم تخلى عن وظيفته ولحق بالمهدي في سنة 1882 م، تولى منصب قاضي الإسلام بعد مقتل أحمد ودجبارة في واقعة الأبيض، لعب دورا رئيسيا في فتنة الإشراف وفي مقتل الزاكى طمل، حقد عليه الخليفة بوشاية من يعقوب وسجنه ثم مات بعد القبض عليه بأيام، وكانت وفاته في سنة 1892 م.
21 – ونكمل الصورة بالإمام محمد احمد المهدي ، وهو معروف من الدناقلة ، وينحدر من أسرة اشتهرت بصناعة المراكب ، وتلقى تعليما عاليا وثقافة دينية واسعة بمقاييس ذلك العصر. والمهدي هو خليفة رسول الله ومصدر التشريع والقائد الديني والدنيوي، ثم خلفه الخليفة عبد الله التعايشى، وهو من قبيلة التعايشه، ثقافته الدينية محدودة ، وهو خليفة الصديق وأمير الراية الزرقاء التي تمتلك الأسلحة النارية المتقدمة، وبالتالي فهي قوة ضارية وحاسمة في الجيش ، كما أن الخليفة عبد الله كان يمتلك قدرات تنظيمية وتنفيذية عاليه ، وأن المهدي كان يكلفه بتنفيذ أو مراقبة تنفيذها سواء كانت تلك الأوامر ذات صفة عامة أو خاصة ( فيفان أمينه ناجى : شخصية الخليفة عبد الله ، مجلة الدراسات السودانية ، اكتو بر 1988 ) . كما أن المهدي كان قد أصدر خطابا في يوم الجمعة 17 / ربيع أول 1300 ه عن الخليفة عبد الله ونهى عن الطعن أو الكلام في الخليفة عبد الله، جاء في ذلك المنشور ( وأعلموا أن جميع أفعاله – عبد الله – وأحكامه محمولة على الصواب لأنه أوتى الحكمة وفصل الخطاب ولو كان حكمه على قتل نفس منكم أو سلب أموالكم فلا تتعرضوا عليه فقد حكمه الله فيكم بذلك ليطهركم ويزكيكم من خبائث الدنيا لتصفى قلوبكم وتقبلوا إلى ربكم ومن تكلم في حقه ولو بالكلام النفسي جزما فقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ويخشى عليه من الموت على سوء الخاتمة والعياذ بالله لأنه خليفة الصديق ( انظر نص المنشور في د . شبيكة : السودان والثورة المهدية ، 168 – 170 ) .
وربط شقير بين إصدار هذا المنشور بشأن الخليفة عبد الله ومكانته في جهاز المهدية وبين منافسات بين الخليفة عبد الله وودعجيل ود الجنقاوية والمنا إسماعيل حيث قال ( وأمر المهدي بعد فتح الأبيض بقتل اثنين من أعظم أنصاره وهما المنا إسماعيل المار ذكره وعجيل ود الجنقاويه من كبار مشايخ الرزيقات لمنافسة حصلت بينهما وبين ألتعايشي فساء قتلهما جميع الناس وكثر الطعن على التعايشى وقومه سرا وجهرا، وكان التعايشى وزير المهدي وقائد جيشه وعينه سرا وخوفا من حصول الفشل في أنصاره أصدر منشوره الشهير بتاريخ 17 / ربيع أول سنة 1300 ه ، 26 / يناير سنة 1883 م ) ، ولكن مكي شبيكه يرى أن هذا المنشور عندما صدر كان المنا ما زال حيا يرزق أكثر من شهرين بعد صدور المنشور ( شبيكه : المرجع السابق ، ص 170 – 171 ) .
للمزيد من التفاصيل راجع: تاج السر عثمان الحاج، دراسات في التاريخ الاجتماعي للمهدية، مركز عبد الكريم ميرغني 2010).
نواصل
نواصل بمناسة الذكرى 139 لتحرير الخرطوم وانتصار الثورة المهدية، ونتناول في هذه الدراسة المهدية والمعارضة، فقد واجهت المهدية معارضة قبل انتصار الثورة، وبعد انتصارها اتسعت المعارضة وخاصة في سنواتها الأخيرة عندما تحولت الي دولة استبداية كرّست التفاوت الطبقي والنهب والسلب والقمع. واتخذت المعارضة للمهدية الأشكال الأتية :
1 - معارضة دينية .
2 - معارضة قبلية .
3 - معارضة داخلية ( الصراع من أجل السلطة ) .
4 - معارضة خارجية .
أولا : المعارضة الدينية
ويمكن أن نقسمها الى شقين : أ – معارضة العلماء ب – معارضة شيوخ الطرق الصوفية .
أ – معارضة العلماء والفقهاء .
انطلقت معارضة العلماء ( خريجي الأزهر أو المعاهد الدينية ) اما من صراع قديم بين أهل الظاهر والباطن أو بين الفقهاء ورجال الطرق الصوفية الذين يتخطون ظاهر الشرع ولا يعملون به وأمثالهم كثير في تاريخ الصوفية مثل الحلاج، ذو النون المصري، ابن عربي ، والسهروردى ، الخ.، وهؤلاء لهم طرق في المعرفة والالهام تتم باللقاء المباشر ودون واسطة ( الشريعة ) . من الفقهاء الذين عارضوا الصوفية بن تيمية واحمد بن حنبل، وهو صراع قديم، اضافة لخلفية ذلك الصراع، كان لصراع العلماء ضد المهدى في السودان ظلاله وارتباطه بالدفاع عن النظام الحاكم، هذا جانب، ولكن جانب الصراع القديم بين علماء الشرع والصوفية ترك ذيوله على هذا الصراع، فليس صحيحا أن ندمغ كل الفقهاء والعلماء الذين عارضوا المهدية بأنهم (علماء السوء)، أو ان معارضتهم كانت بايعاز من النظام.
بالتالى ، فان المعارضة كانت موجودة على حد تعبير د . محمد إبراهيم أبوسليم ( قوم ينكرون هذه الفكرة ( المهدية ) ويموتون من أجل ذلك، وآخرون يدافعون عنها ويبلون في سبيلها البلاء الشديد ويتوقون الى الموت في سبيلها.
( د. ابوسليم : الحركة الفكرية في المهدية ، 1970، ص 39 ، انظر ايضا عبد الله على ابراهيم : الصراع بين المهدى والعلماء ، شعبة ابحاث السودان جامعة الخرطوم 1968 ، ففيه عرض لذلك الصراع بالتفصيل ) .
المهدية كما يراها المعارضون خروج علي النظام الشرعى المتفق عليه وعلى سلطة الخلافة العثمانية والولاية المصرية، وصاحبها الذي يدعيها لنفسه ليس في نظرهم اهلا لها، ولايستوفى شروطها المعروفة وهو ليس الا خارجا على الخلافة وولاية الأمر ومدعيا بكذب على رفاقه لينعم من خلفهم بنعيم الدنيا، والمهدية كما يراها المؤيدون رسالة كُلف بها المهدى لبعث الدين من جديد ولرفع الوية الإسلام واحقاق الحق وإزالة دولة الترك التي خانت المسلمين واستبدلت أحكام القرآن بالقوانين الوضعية، وفي هذا الصراع انحاز بعض العلماء للمهدى مثل : احمد على قاضي الاسلام وحجاز مدثر ، واحمد جبارة ، وحسين الزهراء ، واسماعيل الكردفاني، ولأن الصراع نفسه لم يكن صراعا فقهيا ودينيا معزولا عن الصراع السياسي الوطني العام وعن الصراع الاجتماعي، كان صوت المهدى واصحابه قويا، وكان له الغلبة في ذلك الصراع، واشهر الرسائل المعارضة تلك الرسالة الصغيرة التي أاعدها بعض علماء الخرطوم التي صدرت عن المطبعة الحجرية بالخرطوم ووزعت على الناس، وهناك رسالة الشيخ محمد الأمين الضرير شيخ علماء عموم شرق السودان والتي يسميها (هدى المستهدى الى بيان المهدى والمتمهدى) والتي وردت في تاريخ شقير ، ثم هناك رسالة الشيخ احمد الأزهرى شيخ علماء عموم غرب السودان ( راجع نص الرسالة في عبدالله على ابراهيم : الصراع بين المهدى والعلماء ، ملحق 1 ، ص 49 ) . وهى النصيحة العامة لأهل الإسلام عن مخالفة الحكام والخروج عن طاعة الإمام ورسالة المفتي شاكر مفتي مجلس اسئناف السودان وهى : بطلان دعوى محمد احمد المتمهدى، والمشترك في رسالة أحمد الأزهري ورسالة شاكر العربي هو وجوب طاعة السلطان وبأن العلماء قد نصوا على أن الخروج عن طاعة الإمام حرام ، ونصوا أيضا على انه لا يعزل ولا ينبذ بيعته إلا إذا كفر أو أمر أحدا ليكفر والاعتصام بالكتاب والسنة، ويشير أحمد الأزهرى إلى بعض صفات المهدي الجسمانية ليصل إلى أنها كلها لا تنطبق على محمد احمد المهدي، ويناشد شاكر الناس بالا يغيروا دينهم ( بوساوس محمد احمد الشيطانية وهذياناته النفسية )، كما ينهى عن إتباعه وينعت الأنصار بالعصاة إلا أنه في النهاية يناشدهم بالعودة إلى الدين، والدين عنده طاعة الحكومة والسلطان، ويختتم بفتوى عن وجوب قتل الخوارج ونصر السلطان وهو يدعو بعد أن يورد فيها إجماع الأئمة علة الخروج عن الطاعة من الكبائر ودعا المواطنين لقتل الخوارج، ومن ثم يعلن أن قتلهم فرض ولمن قتلهم الأجر يوم القيامة ) ( أبو سليم : الحركة الفكرية ، ص 42 ) . وفي ذلك يقول د . ابوسليم ( من الأمانة أن نذكر أنها قد وضعت بتحريض عبد القادر باشا حاكم عام السودان بغرض الدعاية والدفاع عن الحكومة وطبعت في مطبعة الحكومة الحجرية . على أن مثل هذا التصرف لاينبغي أن يصرف فكرنا عن حقيقة النزاع الفكري القائم بين المهدي والعلماء )، ( نفسه : 42 ) .
ومن القضايا التي دار حولها الجدل الفكري بين الطرفين: العلماء ورد المهدي عليهم فكرة المهدي المنتظر والإمامة والخلافة ومؤهلات المهدي وإلغاء المذاهب والطرق الصوفية
ب – معارضة شيوخ الطرق الصوفية :
ليس صحيحا أن نقول أن المهدية وجدت تأييدا مطلقا من شيوخ الطرق الصوفية أو معارضة مطلقة، وحتى الذين أيّدوا المهدية في الأيام الأولى للثورة، لايعنى أنهم تخلوا عن طرقهم الصوفية وانضموا إلى المهدية، فالتأييد السياسي لأسباب مختلفة لا يعنى أن يكون هذا الشيخ أو ذاك قد انسلخ عن طريقته وانخرط في سلك المهدية، فالطرق الصوفية كانت قد رسخت جذورها في تربة الواقع السوداني لأربعة قرون، وبالتالي من المستحيل زوالها بين يوم وليلة بعد انتصار الثورة المهدية، لأنها أصبحت جزءا من البناء العلوي للمجتمع الذي لايزول بقرارات فوقية .
تبدأ معارضة شيوخ الطرق الصوفية من الشيخ شريف نور الدائم التي كانت واضحة في قصيدته التي أوردها شقير في تاريخه قبل وبعد إعلان المهدية، وبعد انتصار الجزيرة أبا والهجرة إلى قدير وجد المهدي معارضة من الشيخ المختار والذي كان له مكانته الدينية، بالإضافة إلى أنه سوداني وليس تركيا، وانتهت المعركة بهزيمة المختار وقتله بعد أن اعفي عنه في المرة الأولى (د. محمد سعيد القدال : الإمام المهدي ، 1985 ، ص 96 – 97 ) .
في شرق السودان أيد المجاذيب المهدية بينما عارضها الختمية وكامتداد للصراع القديم بين الختمية والمجاذيب في الشرق، هذا إضافة لمعارضة الختمية عموما للمهدية، ثم قرار المهدي بإلغاء المذاهب و الطرق الصوفية ( راجع نص خطاب الخليفة عبد الله الخاص بإلغاء المذاهب والطرق في أبو سليم : الحركة الفكرية ، ص 45 – 48 ) . لتحل محلها طريقة واحدة هي طريقة الأنصار الدينية الملتفة حول المهدي باعتباره خليفة رسول الله، وفي خطاب الخليفة عبدا لله يرد: أن من يشك في أو يكذب المهدي في المهدية فهو كافر ( وماله غنيمة للمسلمين ودمه هدر ) ( المرجع السابق : 47 ) .
أصبحت المهدية الإسلام الصحيح الوحيد، من يخرج عليها فهو كافر، وطائفة الأنصار أصبحت الطريقة الدينية الوحيدة.
بعد معارضة الختمية للمهدي يذكر في خطاب إلى السيد محمد عثمان الميرغني أن والده الحسن الميرغني قد أشار إلى مهديته المرتقبة ، يقول المهدي ( وقد تعلم أنى خليفة رسول الله ( ص ) لأنك حرى بعلم مهديتي الذي لايخفا على ذي بصيرة بغيره سيما وانت أدرى بإشارة والدك السيد محمد الحسن الميرغني بمهديتي لأنك خليفة وعلى إثره ( الحركة الفكرية: 9 ) . وتشير المصادر أيضا الى معارضة الشيخ محمد ود دوليب للمهدية التي قامت بها أسرة الدواليب بغرب السودان التي اعتنقت الطريقة التيجانية للمهدية في (نصيحة ) الشيخ محمد دوليب يصور الثورة المهدية بأنها هجمة الإعراب وقبائل غرب السودان على المجتمع المتمدن باسم الدين الذين لايفقهون تعاليمه ولاتمثل الدعوة المهدية لهم الاوسيلة لسفك الدماء وإباحة الفروج ونهب الأموال وغيرها من أنماط السلوك البدوي القديم ) ( عوض السيد الكرسني : نحو مشروعية لمعارضة المهدية : نصيحة الشيخ محمد ود دوليب ، مجلة الدراسات السودانية عدد ا- 2 ، مزدوج مجلد 9 ديسمبر 1989 ) . ويقول كرسني ( إن هجوم ود دوليب على الثورة المهدية يحمل في طياته موقف المجموعات ذات المصلحة المؤكدة في استمرار النظام التركي – المصري القائم ) ( نفسه : 10 ) .
بعد إلغاء المهدية للطرق الصوفية ومصادرة نشاطها، مارست نشاطها سرا، وحافظت كل طريقة على روابطها الاجتماعية والاقتصادية والدينية. فالطرق الصوفية لم تكن رابطة حول شيخ معين فحسب، بل كانت روابط وعلائق وتنظيمات اجتماعية واقتصادية، وبالتالي كان طبيعيا بعد زوال المهدية أن تواصل تلك الطرق نشاطها علنا، وتظهر الطرق القديمة التي حلتها المهدية حتى يومنا هذا مثل : القادرية ، الشاذلية ، الختمية ، البرهانية ، .... الخ .
وهذا مثال من التجربة التاريخية، يشير إلى أن التنظيمات الاجتماعية والدينية، من المستحيل حلها أو إزالتها بقرارات لأنها تتعلق بالمعتقد وحرية الضمير..
ثانيا : المعارضة القبلية:
واجهت المهدية معارضة قبلية اتخذت طابع العصيان المسلح لأسباب مختلفة منها مقاومة الهجرات الجماعية للعاصمة ومقاومة احتكار البقارة أو بالتحديد التعايشة على مراكز النفوذ والسلطة ولأسباب تاريخية وجغرافية أو لفقدان بعض القبائل لمصالح ومنافع كانت تحصل عليها من الحكم التركي – المصري ، أو لمقاومة انضمام أبناء القبائل للجهاد والاشتراك في حملات الخليفة إلى مصر والحبشة وغيرهما، أو مقاومة أوامر المهدية بمنع بعض العادات والتقاليد الاجتماعية التي كانت سائدة وسط القبائل، هذا إضافة إلى أن المهدية بطبيعة أهدافها كانت ضد التنظيمات القبلية ( أبو سليم: الحركة الفكرية، ص 34 ).
ومن الأمثلة لتلك الثورات نذكر :
• ثورة (مادبو) شيخ الرزيقات، وكان الدافع المباشر للثورة هو نزوعه للاستقلال عن عمال الخليفة واعتراضه على الهجرة الى العاصمة، يقول د .أبو سليم ( وقد كان من نتائج هذه الثورة إخلاء بحر الغزال ، كما أنها أشاعت الخراب والفوضى في جنوب دارفور، وقد قبض على مادبو ولاقى حتفه في فبراير سنة 1887 م على يد حملات حمدان ابوعنجه الذي كان يحمل له ضغينة قديمة ( نفسه : 34 ) .
• أرسل ابوعنجه رأس مادبو إلى الخليفة في امدرمان، وفي هذا يقول سلاطين باشا أن الخليفة رغم إصداره الأمر بتعليق رأس مادبو في الجامع ( جامع الخليفة)، إلا أنه ابدي أسفه لمقتل مادبو ( سلاطين : 415 ) .
• كما أن من أهم آثار ثورة مادبو ما أسفرت عنه من نقص في قوات وعتاد المهدية في الغرب بسبب المعارك والمطاردة (عزام ابوبكر على الطيب: العلاقات بين الخليفة عبد الله التعايشي وقبائل السودان، دار جامعة الخرطوم، 1992 ، ص ، 100 ) .
• في سنة 1886 أمر الخليفة عوض الكريم (أبوسن) شيخ الشكرية لكي يحضر برؤساء قومه إلى العاصمة، ولكن هؤلاء لم يحضروا، بل خرجوا عليه فقبض الخليفة على عوض الكريم وسجنه إلى أن مات وجرد حملة على الشكرية ونكل بهم.
• كما رفض الحمدة بزعامة شيخهم محمد البشير على طه سياسة التهجير وثار الحمدة ، فطارد الخليفة شيخهم إلى أن قتلهم ونكل بأهله.
• ثورة الضببانه بزعامة محمود زائد الذين هزمهم الخليفة وظفر بزايد وسجنه إلى أن مات في سنة 1889 ، وكان من أسباب ذلك أن الشيخ زايد لم يؤيد الدعوة المهدية، كما أنه رفض إجابة داعي الخليفة عندما دعاه إلى امدرمان لأخذ البيعة منه.
• ثورة قبيلة رفاعة الهوى (أو بني حسان) في عام 1888 بزعامة شيخهم المرضى أبى روف بالتحالف مع العقليين والعلاطين ، وكان السبب المباشر هو رفض الهجرة الجماعية وقضى الخليفة على حركتهم في واقعة الاهليليج أمام فشودة ، بالإضافة إلى رفض شيخ المرضى ودابوروف للقدوم إلى امدرمان ، يقال أنه نقض البيعة، هذا إضافة لعامل اقتصادي آخر : وهو أن هذه القبيلة كانت تبسط نفوذها على الضفة الغربية للنيل الأزرق بإقليم سنار حيث كان يتم تمويل العاصمة امدرمان باحتياجاتها من الحبوب والغلال ( عزام مرجع سابق : 57 ) .
• وفي سنة 1889 ثار البطاحين وقطعوا الطريق وكانت حركتهم مرتبطة بمقاومة الهجرة الجماعية واستنفارهم للاشتراك في حملة ود النجومي على مصر وقد قضى الخليفة على هذه الحركة بصرامة قاسية ويقول شقير انه سقط منهم عدد كبير وسيق الباقون اسري بنسائهم وأطفالهم وصودرت مواشيهم، وكان بين الأسرى 67 رجلا جعلهم الخليفة أربعة فرق – فرقة قتلت شنقا وفرقة ضربت أعناقها، وأخرى قطعت أيديها اليمنى وأخرى قطعت أيديها وأرجلها من خلاف ( شقير : 1138 ) .
• وكانت هناك معارضة الكبابيش للمهدية (واتفق المؤرخون إجمالا على إن موقع الكبابيش الاستراتيجي على طرقي التجارة بين كردفان ومصر والفائدة التي تقع لهم من نقل هذه التجارة والصمغ بالذات هو واحد من أهم أسباب خصومة الكبابيش للمهدية التي ستنتهي بتهجيرهم إلى امدرمان ، وتجارتها مع مصر إلى ضياع مؤكد لمصالحهم (عبد الله على إبراهيم: المهدية والكبابيش: نحو مشروعية المعارضة في دراسات في تاريخ المهدية – المجلد الأول ، ديسمبر 1981 ، ص ، 121 – 122). هذا إضافة للأسباب الأخرى التي يوردها المؤرخون مثل عدم قبول الكبابيش للدخول في المهدية وتسبب ذلك الموقف إعدام شيخ القبيلة بعد استيلاء المهدي على الأبيض مباشرة ( ثيوبولد : 1962 ، ص ، 147 – 148 ) . ويرى محمد محجوب مالك إن الكبابيش استفادت أكثر من غيرها من قبائل كردفان بأسباب الأمن الذي فرضته الإدارة التركية على السودان ( محمد محجوب مالك : المقاومة الداخلية لحركة المهدية ) .
• وبعد وصول الكبابيش إلى صيغة للتفاهم مع الحكم التركي أصبح للنوراب فيما يشير عبد الله على إبراهيم والذين هم فرع من الكبابيش، القدح المعلى في العائد من ترحيل الصمغ خاصة وإنهم يمتلكون عددا هائلا من الجمال بالمقارنة مع فروع الكبابيش الأخرى، وبالتالي أصبح النوراب أوفر حظا في العائد من ترحيل الصمغ فقد قرر اسكاريس دى لاتور أن الشيخ فضل الله ود سالم وحده يملك في تقدير متواضع 5000 جمل والعدد نفسه من النياق و300 ) ( عبد الله : المهدية والكبابيش ، ص ، 123 ) . ولا يوافق عبد الله على إبراهيم على نظرية الأمن المجرد والاستقرار ويرى أن الكبابيش ( لم يقبلوا بأمن مجرد ، فقد راوغوا التركية لسبعة عشر عاما حتى رأى النظام التركي أن يردف سيف المعز بذهبه ( نفسه : 124 ) . وفي رأى هولت أن ما أخر الكبابيش عن الانخراط في الثورة المهدية طول خضوعهم للترك في حين بادر بقارة دارفور للثورة لأنهم لم يدخلوا تحت إمرة الترك الا بعد فتح دارفور 1874 م . ويضيف عبد الله على إبراهيم جانبا آخرا مكملا للجانب الاقتصادي يتعلق بالبنية الاجتماعية والأخلاقية لارستقراطية النوراب التي دخلت المهدية معها في تناقض وصراع معها مثل : معارضة النوراب لطلب المهدي ترك استعمال الخمرة التي كانت جزءً من تقاليدهم ومجالسهم وشعرهم وفخرهم، طلب المهدي منع النساء والبنات من الخروج وأن يسترن أجسادهن ورؤؤسهن، وأن تضرب من تكشف على رأسها أو تترك سترها بينما لا ترى ارستقراطية النوراب وغيرها من الإعراب عيبا في أن يدخل الرجل أو الجماعة من الرجال ستر النساء بدافع ( الونسة ) اى تجاذب أطراف الحديث بدافع الاستلطاف بغير انتباه لمسألة المحرم وغير المحرم ويشترط شاعر للرجل في مثل ذلك المجلس أن يكون ذا سعة من ضمن أخرى، معارضة تخفيض مهر النساء وخاصة من أصحاب الامتيازات والثروات، هذا إضافة لطلب المهدي ترك النياحة على الميت بما فيه من فرش واجتماع عليه ضمن طقوس النياحة والفرش اجتماع القبيلة حول ( النقارة ) لدى وفاة واحد منها، وقد تركوا ثغرة تدخل منها الإبل وغيرها لتدور داخل حلقة القبيلة ليتناولها الواقفون بالتعليق على نوعها وعددها في مشهد يوضح القائم على الثروة ( نفسه : 129 ) .
إشارة عبد الله على إبراهيم لموضوع معارضة الكبابيش توسع زوايا النظر، ومن المهم في كل قبيلة من القبائل التي عارضت المهدية أن نحدد القوى ذات النفوذ والثروة والتي فقدت ذلك بعد الثورة المهدية أو هددت المهدية مصالحها، وعلى ضوء حجم وثقل تلك المصالح نحدد هذا الفرع أوذاك من القبيلة التي عارضت المهدية أو أيدتها .
فتوجه المهدي في أول منشور له في سهول وبطاح كردفان ودار فور فيما يتعلق بسياسته نحو الأرض مثلا كان ضد أصحاب النفوذ والثروة ، وفيه انحياز إلى الفقراء والمعدمين من المزارعين والرعاة ، وبالتالي دخل في تناقض مع الفئات التي كانت مصالحها الاقتصادية مرتبطة بالنظام التركي. هذا على المستوى الخاص والتوجه الطبقي ، ولكن على مستوى آخر فان أوامر المهدية الخاصة بمنع الخمر وحجر النساء ومنع التنباك والتبغ والنياحة على الميت ومنع الألعاب مثل: الطاب والغناء والرقص والدلاليك والمزامير . الخ. هذه الأوامر دخلت في تناقض مع تقاليد وعادات مرتبطة بأسس نظم القبائل الاقتصادية والاجتماعية، أي البناء العلوي لتلك القبائل التي من المستحيل إزالتها بقرارات، ومثال على ذلك الشايقي الذي احتج على أوامر المهدي الذي كان يشير إليها عامل بربر محمد الخير فصاح قائلا في محمد الخير :
لامريسى ولاطنبير ولاتنباك ولاسنجير
وده كله من مهديك الكبير وعقربا تطقك يامحمد الخير .
• معارضة الشايقية أو إذا شئنا الدقة الأقسام من الشايقية التي ارتبطت مصالحها بالحكم التركي – المصري وعملت في جهاز دولة الحكم التركي وجيشه أو انخرط على المستوى القيادي في سلك الطريقة الختمية التي عارضت المهدية ، فليس صحيحا أن كل الشايقية عارضوا المهدية ، فهناك أقسام من الشايقية انحازوا للثورة المهدية واشتركوا في حروباتها ، وفي منشور للمهدي إلى كافة أحبابه ببربر يأمر بالا ينازع الشايقية المذكورين ( السواراب ، الحنكاب والعونية التابعين للمهدية ) : مساكن ، أراضي ، نخيل تحت أيديهم ومملوكة لهم نحو 66 عاما – في ممتلكاتهم وأي ممتلكات زاد وضع اليد عليها على سبع سنوات (الأمام المهدي: الآثار الكاملة : ج4 : 84 ) . ويفهم من هذا المنشور أن الشايقية المذكورين أيدوا المهدية .
• مثال آخر ثورة الجعليين في السنوات الأخيرة للمهدية التي قمعها الخليفة عبد الله بوحشية شديدة ، ويرجع ذلك إلى عصيان الجعليين وعدم رضوخهم لسلطان دولة المهدية والاعتراف بحكم الخليفة، واتهمهم الخليفة بالاتصال بسلطات الاحتلال البريطاني في مصر، وبدأ عصيان الحعليين عندما ولى الخليفة عبد الله التعايشي لعبد الله ودسعد أمر شندى على الضفة الشرقية للنيل قبالة المتمة على أن يسند أمر المتمة وما جاورها من قرى الجعليين إلى محمود ودا حمد ، أي أن تنتقل جموع الجعليين إلى الضفة الأخرى وإخلاء المتمة ليعسكر بها محمود وجيوشه . وعندما رجع عبد الله ودسعد إلى قومه ( بعد أن استدعاه الخليفة إلى امدرمان ) اخبرهم بما عزم عليه الخليفة بشأن ترحيلهم إلى شندى، غير أن أفراد الخليفة قابلوا الأمر بانقسام في الرأي، فمنهم من رأى الخضوع لرغبة الخليفة، ومنهم من رأى الابتعاد نهائيا عن المنطقة واللحاق بجيش الغزو في دنقلة، ولكن زعيمهم ودسعد كان يرى في الرحيل إلى دنقلا أمرا غير سهل التنفيذ ( عزام : 65 )، وبعد أن تأكد الخليفة من عصيان الجعليين فتك محمود وداحمد بالحعليين، وقتل منهم عددا كبيرا من الرجال وتم سبي النساء وخُربت المنازل والمتاجر ثم عبرت جيوش المهدية النهر بعد نكبة الجعليين إلى شندى ليكتمل تجمعها هناك، ومن هناك سارت بمحاذاة النيل متجهه شمالا إلى أن وصلت ألنخيله التي دارت فيها المعركة الشهيرة والتي انتصر فيها كتشنر على محمود وداحمد مما سهل له طريق الوصول الى امدرمان ، وفي رسالة من محمد احمد إلى الخليفة بعد نكبة الجعليين نجده يؤكد أن عبد الله ودسعد كان يراسل جيش الفتح ( عزام : 66 – 67 ) .
• ونذكر أيضا تمرد الشلك الذين أرسل إليهم الخليفة بتأدية عشر محصول المنطقة عندما اجتاحت مجاعة 1306 ه ، امتنع المك (الرث) عمر عن إرسال المحاصيل التي طلبها الخليفة متعللا بأنه لايخضع للخليفة، ابدي الخليفة استياءه من تصرف زعيم قبيلة الشلك واعتبر موقفه ذلك عصيانا فجهز جيشا بقيادة الزاكى طمل في عام 1890 – 1891 م، حشد المك عمر جيشا للدفاع عن بلاده، غير أن الزاكى طمل شن عليه هجوما خاطفا انهزم على أثره الشلك، كما قُتل المك عمر وأرسلت رأسه إلى الخليفة في امدرمان، ثم قام الزاكى طمل بمصادرة أعداد هائلة من الماشية وقام بإرسالها إلى العاصمة، مكث الزاكى طمل فترة من الوقت بعد تلك المذبحة التي قام بها في فشودة – عاصمة الشلك – ( بلدة كدوك حاليا ) التي تركت في نفوس الشلك والقبائل المجاورة لهم شعورا بالمرارة ( عزام : 122 – 123 )، وللمزيد من التفاصيل، راجع تاج السر عثمان الحاج ، دراسات في التاريخ الاجتماعي للمهدية، مركز عد الكريم ميرغني 2010). .
• في شرق السودان واجهت المهدية ثورات مثل ثورة قبيلة الهدندوة والتي نشبت بسبب سجن عثمان دقنه لشيخ قبيلة الهدندوة نتيجة لنزاعه مع محمد على دقنه – احد أقرباء عثمان دقنه – حاكم كسلا ،مما أدي إلى سخط قبيلة الهدندوة فقام رجالها باقتحام السجن واخرجو شيخهم منه. وعندما بلغت الخليفة أنباء الاضطرابات في كسلا قام بفصل إدارة كسلا عن إمارة الشرق . وكذلك ثورة قبيلة الامرأرالتي نشبت بعد أن دب الخلاف بين الشيخ احمد زعيم الآمرأر والأمير عثمان دقنه وذلك عندما تضررت القبيلة من الإجراءات الصارمة التي اتخذها عثمان دقنه لتصريف شئون الإقليم ( المنطقة المحيطة بسواكن التي يقيم فيها الامرأر ) . وقد انتهى ذلك الخلاف بصدام مسلح بين عثمان دقنه والآمرأر بعد أن أغارت على بلدة ابوهشيم وقتلت عدد من رجال عثمان دقنه في أواخر يونيو من 1886 ، إلا أن عثمان دقنه تمكن من هزيمتهم ( نفسه : 124 – 125 ) .
• في غرب السودان ، بالإضافة لثورة الرزيقات بقيادة مادبو المشار إليها سابقا، تمكن الخليفة من تحطيم مقاومة قبيلة التعايشة للهجرة، كما حطم الخليفة عبد الله مقاومة الهبانية للهجرة ( للمزيد من التفاصيل راجع عزام ، المرجع السابق). .
• كما نذكر أيضا تمرد قبائل جبال النوبا على حكم الخليفة عبد الله والذين أرسل إليهم الخليفة حمدان ابوعنجه لقمع ذلك التمرد
نواصل
كيف كانت أشكال المعارضة للمهدية؟ (2 / 3)
بقلم : تاج السر عثمان
ثالثا : المعارضة الداخلية ( الصراع على السلطة) :
المقصود بالمعارضة الداخلية هو الصراع بين قيادات الثورة المهدية من أجل السلطة أو صراع تيار ضد آخر، فالثورة المهدية ضمت أنصارا من أصول اجتماعية وطبقية وقبلية وفكرية متنوعة ومتباينة، وهذا التنوع والتفاوت والتباين كان له انعكاسه في الصراع داخل طائفة الأنصار أو حزب السلطة، كما كان له انعكاسه في الصراع من أجل السلطة .
معلوم أن الصراع شئ طبيعي ومحرك للتطور، وليس غريبا، وتتباين أساليب إدارته، فمنها العنيفة والقمع الوحشي للمخالفين وإبعادهم أو قتلهم أو سجنهم، ومنها أساليب الإغراء، وعلى طريقة "سيف المعز وذهبه"، ومنها أساليب الإقناع والحوار في إدارة الصراع . وفي إطار هذا الصراع نعلم أن الخليفة عبد الله اختار أسلوب القمع للمعارضين له، فقد كان الصراع بينه وبين الأشراف صراعا من اجل السلطة ومراكز النفوذ في قيادة الثورة المهدية، وهذا شئ لم تنفرد به المهدية، وإنما شهدته معظم الثورات الاجتماعية التي جاءت بعدها، والتي كانت مماثلة أو مختلفة عن الثورة المهدية .
لفهم طبيعة هذا الصراع يجدر بنا أن نحدد الأصول الاجتماعية والدينية والطبقية والقبلية التي انحدر منها ابرز قيادات الثورة المهدية التي دار بينها الصراع أو قادت الصراع الداخلي في المهدية. وسوف نعتمد في سيرة هذه الشخصيات على المعلومات التي قدمها د. ابوسليم في مؤلفه الحركة الفكرية في المهدية 1970، وموسوعة ريتشارد هل : أكسفورد 1951 .
1 – الياس باشا أم برير: تاجر ثرى من تجار الأبيض، انضم إلى المهدية بعد خلافاته مع منافسه احمد دفع الله، وبعد أن أعفته الحكومة من منصب مدير شكا، مال إلى جانب المهدي وقدم له خدمات كبيرة، وهو من قبيلة الجعليين، سُجن في عهد الخليفة بتهمة الاتصال بالحكومة المصرية ومات في سجنه في سنة 1898 م. 2 – المنا إسماعيل : من أعيان الجوامعة، اتصل به المهدي منذ زيارته لكردفان، وقد انضم إلى المهدية في أيامها الأولى، وفتح مركز التباره ، ولعب دورا خطيرا في وقائع كثيرة وفي حصار بارا، كان جيشه عظيما، بعد فتح الأبيض وقع خلاف بينه وبين المهدي حول منصب خلافة عثمان التي طالب بها المهدي وحول منافسته مع الخليفة عبد الله، وعلى الاثر خرج المنا بجيشه وعسكر بقرية دار الجوامعة، رفعه المهدي عن الإمارة، ولم يقبل المنا ذلك، فأرسل جيشا للقبض عليه وقد تم ذلك وسيق المنا مع بعض معاونيه إلى القيادة حيث جرى إعدامهم، وكان ذلك في جماد آخر سنة 1300 ه / مايو 1883 م .
3 – المك آدم عمر: مك جبال تقلى ، كان أبوه عمر مكا لتقلى عند وفاته خلفه أخوه ناصر الذي كان رهيبا، وقد أخذ آدم الملك عنه عنوة بتأييد الناس، وكانت علاقته بالإدارة المصرية علاقة جافة إذ لم يدفع الجزية، دخل المهدي دياره إثناء هجرته إلى قدير، وحماه من هجوم محمد سعيد ولكنه اعترض على التبعية له ثم أذعن له وعيّن أميرا، هاجر إلى المهدي في سنة 1884 بعد واقعة هكس بناءً على طلبه وصحب جيش المهدي في طريقه إلى الخرطوم ، وهو مرغم ، وقد توفى في شيشه في أواخر سنة 1884 م، اخلص ابنه عمر للمهدية واحتل مكانا مرموقا في عهد الخليفة عبد الله.
4 – على ود حلو: خليفة الراية الخضراء، وهو من قبيلة دغيم، اتصل بالمهدي قبل المهدية ثم انضم إليه وتنخرط في سلك الدعوة عند بدايتها، وكان تحت لوائه دغيم وكنانه والحسنات والعمارنه واشتهر من جماعته أخوه موسى الحلو الذي استشهد مع الخليفة وجماعة آخرين من المشاهير في واقعة أم دبيكرات في سنة 1899 م .
5 – محمد شريف: خليفة الراية الحمراء وابن عم المهدي، اشترك في حركة المهدية منذ أوائلها وهو صغير السن وعُين خليفة للرآية الحمراء ، وهى رآية أبناء النيل، ثم صار خليفة الكرار في المرتبة الدينية ، اختلف مع الخليفة عبد الله بعد وفاة المهدي ووقع ما يعرف بفتنة الإشراف الأولى والثانية فسجنه الخليفة وصفى نفوذه وقتل معظم أعوانه الكبار، ظل في سجنه حتى احتل الجيش المصري بقيادة كتشنر دنقلا، سلم للجيش الفاتح في نوفمبر 1898 ومعه بعض أبناء المهدي وأقام في الشكابة ، قُتل غدرا هو وبعض أبناء المهدي في سنة 1899 م
6 – أحمد سليمان : صديق المهدي وأمين بيت المال، وهو من قبيلة المحس، ومن أوائل أنصار المهدي، وكان من المعارضين للخليفة عبد الله، تولى أمانة بيت المال في قدير وظل يحتلها حتى وفاة المهدي حيث رفعه الخليفة عبد الله لاشتراكه في فتنة الإشراف، وكان على رأس هذه الفتنة، قُتل في فشودة على يد الزاكى طمل بعد أن أرسل أليه محبوسا، وكان ذلك في 1889 م .
7 – احمد ود محمد جبارة: جاءت أسرته مع جيش إسماعيل واستقرت به، وقد كان ممن انضم إلى المهدي في أوائل الدعوة وعُين قاضيا للإسلام في قدير وظل في هذا المنصب إلى أن استشهد في واقعة الأبيض الأولى في 24 شوال سنة 1299 ه 8 / سبتمبر / 1882 م ..
8 – محمد خالد زقل : ابن عم المهدي ومن كبار قادة عهده، بدأ حياته تاجرا ثم صار موظفا في دارفور ، عين مديرا لشكا في 1879 م، وعاون في القضاء على سليمان الزبير، وعند قيام الثورة المهدية مال إليها، ثم وفد إلى المهدي واستقر إلى جانبه، ، وعُين أميرا على عموم دارفور وأرسل على رأس قوة احتلت دارفور دون صعوبة وسلّم له سلاطين باشا، استدعاه الخليفة اثر فتنة الأشراف وصفى قوته في بارا ثم سجنه مدة في امدرمان، أفرج عنه وأُرسل في وفد للنظر في النزاع بين عثمان دقنه وأبى قرجه ، فاقام بالشرق مدة ونظّم الإدارة فيه ثم أرسل عاملا على دنقلا، إلا أن مقامه بها لم يطل إذ استدعى إلى امدرمان اثر فتنة الأشراف الثانية في سنة 1889 م، ونُفى إلى الرجاف حيث ظل مسجونا حتى أطلق سراحه البلجيكيون في سنة 1897 م فذهب إلى دارفور وقام بها إلى أن قتله على دينار في سنة 1903 م .
9 – كرم الله محمد كركساوى: أصله دنقلاوى ، ذهب إلى بحر الغزال للتجارة، ثم انضم إلى المهدي وهاجر إليه ثم عاد إلى بحر الغزال أميرا عاما عليها من قبل المهدي وكانت المديرية تعانى من الثورات التي قام بها أنصار المهدي وخلفاؤه وهى تشبه حرب العصابات فسهل ذلك مهمة كرم الله الذي دخل المدينة في سنة 1884 م دون قتال وسلم له لبتن بك الذي أُرغم على التسليم . اعد كرم الله العدة لاحتلال الاستوائية إلا أن وفاة المهدي وثورة الرزيقات اضطرته إلى إخلاء بحر الغزال، وقمع ثورة الرزيقات ثم دخل في صراع مع الأمير يوسف إبراهيم الذي كان عاملا على دارفور منذ غادرها زقل أفل نجمه بعد ذلك اثر سياسة التخلص من الدناقلة، اشترك في واقعة فركه ( 1896 م ) وجُرح فيها وبعد سقوط المهدية ذهب إلى دارفور وأقام بها إلى أن قتله على دينار في سنة 1903 م .
10 – محمد الخير عبد الله خوجلي: أستاذ المهدي وأمير أمرائه، واصله جعلي ، كانت عنده خلوة مشهورة في الغبش وتتلمذ عليه فيها بعض مشاهير المهدية ومنهم المهدي نفسه، وقد سعى المهدي بعد فتح الأبيض فعين أميرا على بربر وعدّل اسمه من محمد الضكير إلى محمد الخير فعُرف به بعد ذلك، حاصر بربر سنة 1884 م واستلمها في سنة 1885 م، اشترك في مقاومة حملة إنقاذ غوردون الانجليزية ثم طاردها عند انسحابها حتى استولى على دنقلا . وأصبح عاملا على دنقلا وبعد انكسار قوات محمد الخير في واقعة جسي في 20 / ديسمبر / 1885 م، عزله الخليفة من عمالة دنقلا وتولى الأمير ود النجومى عمالة دنقلا، ثم عاد الخليفة فعزل محمد الخير عن عمالة بربر واحل محله يونس الدكيم وهو من أبناء غرب السودان، وكانت تربطه بالخليفة صلة عائلية، توفي محمد الخير في سنة 1888 ( عزام : 81 ، وفي رواية ابوسليم ورد أن محمد الخير ظل عاملا على بربر حتى وفاته في سنة 1888 م ) .
11 – عثمان دقنه : هو عثمان بن أبي بكر دقنه يقول شقير ( انه من قبيلة الدقناى ) أصله من البجا ولد في سنة 1840 وعمل في مقتبل عمره بالتجارة، وقد قبضت عليه السفن البريطانية وسلمته إلى السلطات المصرية فسُجن وضاعت تجارته، وقد ظل يحمل ضغينة ذلك في نفسه، وعند قيام الثورة العرابية عطف عليها وحاول نصرتها وأُجبر على مغادرة سواكن إلى بربر ولما قامت الثورة المهدية هاجر إلي المهدي وأخذ عنه البيعة في الأبيض وعُين أميرا على شرق السودان وبتحالف مع المجاذيب استنفر البجا وهاجم النقط الحكومية وقضي عليها ماعدا سواكن، وفي سنة 1891 خسر عثمان طوكر التي استولى عليها قولد اسميث وعندما تقدم الجيش المصري أضيف عثمان إلى قيادة محمود ودا حمد واشترك في واقعة كرري وواقعة ام دبيكرات ، وقد فرّ بعد الأخيرة قاصدا الحجاز إلا أنه وقع في الأسر في سنة 1900 م ونفى إلى حلفا، أدى فريضة الحج وتوفي في سنة 1926 .
12 – محمد عثمان ابوقرجة: أصله من دناقلة القطينة، بدأ حياته تاجرا وعمل في شركة العقاد ومع الزبير باشا وإدريس ابتر . انخرط في سلك المهدية منذ أوائل المهدية وقاد القوة التي كانت تناوش هكس، ثم اشترك في واقعة شيكان . لقب بأمير البحرين، وأُرسل لمحاصرة الخرطوم فسلم له صالح المك، ثم حاصر الخرطوم حتى جاءه النجومى وظل مشتركا في الحصار حتى سقطت المدينة، كلف بجمع زكوات الشكرية ثم أُرسل إلى شرق السودان، وهناك حصلت منازعات بينه وبين عثمان دقنه وصار مسئولا عن الإدارة بينما صار عثمان مسئولا عن الجيش ثم أُرسل مسجونا إلى الرجاف حيث بقى حتى فك إساره البلجيكيون، ومن ثم ذهب إلى دارفور وأقام بها مدة ثم عاد إلى أم غنيم وأصبح عمدة بامدرمان في سنة 1916 م.
13 – عبد الرحمن النجومى : أمير أمراء الراية الحمراء، ومن أوائل المنتسبين إلى المهدي ، لعب دورا خطيرا في وقائع كرد فان ثم قاد الحملة على جبل الدائر، ثم أُرسل قائدا على المحاصرين لمدينة الخرطوم، فظل محاصرا لها حتى فتحت على يديه، وبعد الفتح ذهب إلى بربر ليتولى قيادة القوات المطاردة للحملة الانجليزية، ثم استدعى للاشتراك في محاصرة سنار، ألا أن المدينة سقطت قبل أن يشترك في وقائعها، عاد بعدها إلى الجبهة الشمالية ليهزم في واقعة جنس،تولى قيادة القوات في دنقلا، إلا أن القيادة لم تكن مريحة نسبة إلى المعاكسات إلى تعرض لها من قبل مساعد قيدوم ثم يونس الدكيم، تولى قيادة القوات التي أعدت لفتح مصر وسار بها حتى استشهد في واقعة توشكي في أغسطس 1889 م .
14 – عبد الله النور: أصله من العركيين ومن أوائل أمراء المهدية ، اشترك في وقائع المهدية الأولي واشترك في حصارها ، قتل قرب بوابة برى في أواخر أيام الحصار 1885 م فحزن الأنصار لمقتله، له أخ يدعى مكين النور ، وهو من الأمراء الذين اشتركوا في حملة النجومي ومات متأثرا بجروحه.
15 – حمدان ابوعنجه: أمير الأمراء ، ولد حوالي 1835 م واشترك في حروبات الزبير والرزيقات، انضم إلى حركة المهدي في وقت مبكر وخدم تحت الراية الزرقاء، صار قائدا للجهادية بعد سقوط الأبيض ولعب دورا خطيرا في القضاء على هكس وقواته، اشترك في حرب الداير وتولى القيادة المباشرة في معركة امدرمان، أُرسل بعد فتح الخرطوم عاملا على جبال النوبة، فقضى على الخارجين، قابل محمد خالد زقل في بارا بناءً على أمر الخليفة وصفى قيادته وأرسله مسجونا إلى الخليفة، تولى قيادة الجبهة الشرقية في القلابات وغزا الحبشة في سنة 1887 م، ودخل مدينة غندار وغنمها ، توفى سنة 1888 م وخلفه في القيادة الزاكى طمل . ويضيف د .شبيكة إلى ترجمة أبى سليم أعلاه : أن حمدان ابوعنجه خدم في جيش ابنه سليمان ولم يسلم مع سليمان ولافر مع رابح، بل بقى في دار التعايشه فقبض عليه محمد خالد زقل مدير داره في ذلك الحين وزجه في السجن، ثم خرج من السجن وبقى في دار التعايشه وعلم المهدي بسالته وتعوده على إدارة الأسلحة النارية فجعله أميرا على الجهادية كما تقدم ( ابوسليم : 29 ، ود . شبيكه : السودان والثورة المهدية : 131 ) .
16 – المدثر إبراهيم الحجاز : كاتب المهدي وأمين سر الخليفة وأصله جعلي، ولد سنة 1855 م، ذهب إلى الحجاز صغيرا ثم عاد إلى السودان بعد قيام المهدية، كتب للمهدي ثم للخليفة وصار حامل ختم الخليفة بعد مقتل فوزي بادي، أرسله الخليفة في مهمة سرية إلى حمدان ابوعنجه إثناء فتنة الإشراف الأولى ، فاشترك معه في تصفية قوة محمد خالد زقل في بارا وإرساله مسجونا إلى أم درمان، سلم للجيش الفاتح الأوراق التي عنده ثاني يوم واقعة كرري، لعب دورا خطيرا في ثورة الشريف حسين في مكة ضد تركيا في سنة 1916 ، توفى في بربر سنة 1937 م .
17 – الزاكى طمل: أمير الأمراء، من مواليد التعايشه والمنضله، قاد الأنصار في دارفور ثم اشترك في وقائع الحبشة تحت قيادة أبى عنجه، وبعد وفاة حمدان عُين بدله أميرا على أمراء القلابات، قاد قواته بعد ذلك بقليل في معركة القلابات وانتصر على الأحباش وقتل الملك يوحنا إمبراطور الحبشة رغم تفوقهم في القوات والسلاح، انشغل بعد ذلك بمحاربة الشلك ثم وشى به الوشاة فقُبض عليه ومات جوعا وعطشا في سنة 1892 م ..
18 – إبراهيم عدلان: من قبيلة الكواهله، بدأ حياته تاجرا في الأبيض ثم في مدني، خلف أحمد سليمان في أمانة بيت المال في 1889 م ونظم إدارتها ورتبها في أقسام مختلفة واقنع الخليفة بإعادة التجارة مع مصر ، اعدم شنقا في 1891 م اثر منافسة بينه وبين يعقوب وفي ظروف الجو الذي ترتب على مجئ البقارة ، خلفه النور إبراهيم الجريفاوى ..
19 – الأمير يعقوب بن محمد : اخو الخليفة عبد الله وأمير أمراء الراية الزرقاء وساعد الخليفة الأيمن ، ولد في سنة 1855 م وانضم إلى المهدي بينما كان في طريقه إلى قدير سنة 1881 م ، اشترك في معظم الوقائع الكبيرة في كردفان وتولى قيادة الهجوم على امدرمان وبعد وفاة المهدي تولى القيادة العامة للجيش بالإضافة إلي قيادة الراية الزرقاء، ولكنه لُقب أمير جيش المهدية رسميا ، كما انه أصبح الرجل الثاني في نظام الخليفة وقد لعب دورا خطيرا في حوادث التصفيات الداخلية لأنه كان شخصا متوجسا، وُصف بالمقدرة الفائقة والكفاءة، نازعه السلطان في أواخر أيام المهدية عثمان شيخ الدين الابن البكر للخليفة عبد الله وقائد الملازمين، قتل في واقعة كرري في 2 / سبتمبر / 1898 م .
20 – احمد على قاضى الإسلام: تولى القضاء في الإدارة المصرية في إقليم دارفور، ثم تخلى عن وظيفته ولحق بالمهدي في سنة 1882 م، تولى منصب قاضي الإسلام بعد مقتل أحمد ودجبارة في واقعة الأبيض، لعب دورا رئيسيا في فتنة الإشراف وفي مقتل الزاكى طمل، حقد عليه الخليفة بوشاية من يعقوب وسجنه ثم مات بعد القبض عليه بأيام، وكانت وفاته في سنة 1892 م.
21 – ونكمل الصورة بالإمام محمد احمد المهدي ، وهو معروف من الدناقلة ، وينحدر من أسرة اشتهرت بصناعة المراكب ، وتلقى تعليما عاليا وثقافة دينية واسعة بمقاييس ذلك العصر. والمهدي هو خليفة رسول الله ومصدر التشريع والقائد الديني والدنيوي، ثم خلفه الخليفة عبد الله التعايشى، وهو من قبيلة التعايشه، ثقافته الدينية محدودة ، وهو خليفة الصديق وأمير الراية الزرقاء التي تمتلك الأسلحة النارية المتقدمة، وبالتالي فهي قوة ضارية وحاسمة في الجيش ، كما أن الخليفة عبد الله كان يمتلك قدرات تنظيمية وتنفيذية عاليه ، وأن المهدي كان يكلفه بتنفيذ أو مراقبة تنفيذها سواء كانت تلك الأوامر ذات صفة عامة أو خاصة ( فيفان أمينه ناجى : شخصية الخليفة عبد الله ، مجلة الدراسات السودانية ، اكتو بر 1988 ) . كما أن المهدي كان قد أصدر خطابا في يوم الجمعة 17 / ربيع أول 1300 ه عن الخليفة عبد الله ونهى عن الطعن أو الكلام في الخليفة عبد الله، جاء في ذلك المنشور ( وأعلموا أن جميع أفعاله – عبد الله – وأحكامه محمولة على الصواب لأنه أوتى الحكمة وفصل الخطاب ولو كان حكمه على قتل نفس منكم أو سلب أموالكم فلا تتعرضوا عليه فقد حكمه الله فيكم بذلك ليطهركم ويزكيكم من خبائث الدنيا لتصفى قلوبكم وتقبلوا إلى ربكم ومن تكلم في حقه ولو بالكلام النفسي جزما فقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ويخشى عليه من الموت على سوء الخاتمة والعياذ بالله لأنه خليفة الصديق ( انظر نص المنشور في د . شبيكة : السودان والثورة المهدية ، 168 – 170 ) .
وربط شقير بين إصدار هذا المنشور بشأن الخليفة عبد الله ومكانته في جهاز المهدية وبين منافسات بين الخليفة عبد الله وودعجيل ود الجنقاوية والمنا إسماعيل حيث قال ( وأمر المهدي بعد فتح الأبيض بقتل اثنين من أعظم أنصاره وهما المنا إسماعيل المار ذكره وعجيل ود الجنقاويه من كبار مشايخ الرزيقات لمنافسة حصلت بينهما وبين ألتعايشي فساء قتلهما جميع الناس وكثر الطعن على التعايشى وقومه سرا وجهرا، وكان التعايشى وزير المهدي وقائد جيشه وعينه سرا وخوفا من حصول الفشل في أنصاره أصدر منشوره الشهير بتاريخ 17 / ربيع أول سنة 1300 ه ، 26 / يناير سنة 1883 م ) ، ولكن مكي شبيكه يرى أن هذا المنشور عندما صدر كان المنا ما زال حيا يرزق أكثر من شهرين بعد صدور المنشور ( شبيكه : المرجع السابق ، ص 170 – 171 ) .
للمزيد من التفاصيل راجع: تاج السر عثمان الحاج، دراسات في التاريخ الاجتماعي للمهدية، مركز عبد الكريم ميرغني 2010).
نواصل