كينيا: الديمقراطية على مفترق الطرق؟

 


 

 


تعيش كينيا منذ مطلع الشهر الماضي أزمة سياسية بسبب قرار المحكمة الدستورية القاضي بإلغاء نتيجة الانتخابات الرئاسية التي جرت بالبلاد في مطلع الشهر ، والتي فاز فيها الرئيس أوهورو كينياتا بدورة رئاسية جديدة. أقرت تقارير بعض المراقبين الأجانب بشرعية الانتخابات وتوافقها مع القواعد المعتمدة دولياً ، إلا أن قرار المحكمة الدستورية يشير إلى أخطاء وتجاوزات في عملية نقل نتائج الانتخابات من اللجان الفرعية للمركز عن طريق وسائل التواصل الأليكتروني ، مؤكدة أن ذلك هو السبب وراء إلغاء نتيجة الانتخابات. من الواضح أن تقارير المراقبين الأجانب ركزت على عمليتي التصويت وفرز الأصوات في مختلف المراكز دون الأخذ في الاعتبار الوسائل أو الكيفية التي تم عن طريقها نقل هذه النتائج إلى رئاسة لجنة الانتخابات في عاصمة البلاد ، أو مدى مطابقة النتائج التي وصلت لرئاسة اللجنة مع واقع الحال في المراكز المختلفة. وبينما أقرت المحكمة الدستورية بشرعية الانتخابات في مرحلتي التصويت وفرز الأصوات ، فإنها أشارت إلى حالات تجاوز أو أخطاء واضحة في مرحلة نقل النتائج من اللجان الفرعية إلى رئاسة لجنة الانتخابات بالعاصمة نيروبي الأمر الذي انعكس على النتيجة النهائية. كان ذلك سببا في أن تثار ، كما تقول المحكمة ، الكثير من الشكوك حول صحة النتائج التي وردت لرئاسة اللجنة في نيروبي. قادت هذه الشكوك في النهاية إلى إلغاء النتائج برمتها واتخاذ قرار بشأن إعادة الانتخابات وتحديد موعد جديد لذلك.
تشير الكثير من التحليلات التي وردت في الصحف وأجهزة الإعلام إلى أن قرار المحكمة الدستورية يمثل سابقة بالغة الأهمية ليس بالنسبة لكينيا وحسب ، بل وعلى نطاق القارة الأفريقية ككل. بالرغم من الجدل الدائر بين القوى السياسية المختلفة فإن قرار المحكمة يجد الكثير من الترحيب فيما يبدو من جانب المراقبين والمعلقين السياسيين باعتباره سابقة قانونية مهمة قد تساهم بصورة أو أخرى في ترشيد الممارسة الانتخابية بالبلاد. ويشير المراقبون كذلك إلى القرار باعتباره دليلاً على أن الديمقراطية الكينية قد شبت عن الطوق ، وأن النموذج الكيني يمكن أن يحتذى من جانب بقية الدول الأفريقية. غير أنه ما من شك في أن القرار أدخل البلاد في أزمة سياسية لا يستطيع أحد أن يتنبأ بمآلاتها. وقد بدت بعض البوادر التي تشير إلى أن تبعات إلغاء نتيجة الانتخابات الرئاسية قد تنعكس على الأوضاع الأمنية في ظل الاستقطاب القبلي الواضح على الساحة السياسية الكينية. مما لا شك فيه أن قرار إعادة الانتخابات ، بالرغم من أهميته ، لن يؤدي إلى تغيير كبير في الممارسة السياسية بالبلاد إلا إذا استطاعت القوى السياسية نفسها التخلص من التأثير الواضح للقبلية على الممارسة السياسية في البلاد.
مما زاد من تعقيد الأمور أن المعارضة تطالب الآن بخطوات بعينها لضمان نزاهة الانتخابات المعادة بما في ذلك إعادة النظر في كل القوانين التي تحكم مجمل العملية الانتخابية ، مما يعني المزيد من الجدل وربما التأجيل وهو الأمر الذي سينعكس سلباً على استقرار البلاد مع الأخذ في الاعتبار التوتر الذي يسود الشارع الكيني حالياً. أعادت هذه الأوضاع للأذهان أحداث العتف التي أعقبت انتخابات 2007 والتي راح ضحية لها ما يزيد عن ألف وأربعمائة قتيل من الجانبين ، ودفعت بحوالي 6000 مواطن في مختلف أنحاء البلاد للنزوح عن ديارهم مما شكل أزمة إنسانية حادة ظلت البلاد تعاني منها لفترة ليست بالقصيرة. ولعل مما يزيد من حالة القلق أن الانتخابات الأخيرة كانت بين ذات الرجلين أوهورو كينياتا المنحدر من قبيلة الكيكويو أكبر القبائل الكينية ورائيلا أودنقا المنحدر من قبيلة اللوو ، وقد كان القتال خلال أحداث العنف التي أعقبت انتخابات 2007 بين القبيلتين بصورة أساسية وإن شمل في بعض الحالات أفراداً من قبائل أخرى ، كما امتدت آثاره لمناطق بعيدة داخل البلاد. ظلت العلاقات بين القبيلتين عبر التاريخ الحديث وبصفة خاصة منذ استقلال البلاد في مطلع الستينات من القرن الماضي تتسم بالتنافس المحموم باعتبارهما من أكبر القبائل الكينية حيث تمثل قبيلة الكيكويو 22% من جملة سكان كينيا وتأتي في المركز الأول كأكبر قبائل البلاد ، بينما تحتل قبيلة اللوو المركز الثالث بنسبة 13% من مجموع سكان البلاد.
لا شك أن الحديث عن انتخابات نزيهة وخالية تماماً من كل مخالفة ربما يكون ضرباً من الخيال حتى في أعرق النظم الديمقراطية ، لذلك فإن بعض المراقبين يطرحون السؤال الذي يقول: أيهما يجب أن يكون محط اهتمام الحكومات في العالم الثالث ، نزاهة الانتخابات أم الاستقرار السياسي؟. وهو سؤال مشروع بالنظر للأوضاع السائدة في كينيا بل وفي الغالبية العظمى من دول العالم الثالث. ومع إيماننا بأن العلاقة بين نزاهة الانتخابات والاستقرار السياسي لا تكون دائماً في شكل معادلة صفرية ، إلا أن السؤال يستدعي الدراسة المتعمقة والإجابة القاطعة وبصفة خاصة في الحالة الكينية حيث لا زال الولاء القبلي يمثل السلسلة الفقرية التي يقوم عليها النفوذ السياسي.
قاد الخلاف حول ما جرى خلال الانتخابات الأخيرة لجدل واسع ومطالبة بضرورة إعادة النظر في الوسائل والقوانين التي تحكم الممارسة الديمقراطية في كينيا برمتها. ولعل ذلك كان هو السبب وراء التصريحات التي أدلى السيد أودنقا زعيم المعارضة التي تعرف بالائتلاف الوطني العظيم ، ويشار لها اختصاراً باسم "ناسا". جاء في تلك التصريحات أن تحالف "ناسا" لن يشارك في أي انتخابات قادمة إلا بعد تعديل قانون الانتخابات بالصورة التي تضمن نزاهة العملية في جميع مراحلها ، وعدم تكرار ما جرى في الانتخابات الأخيرة التي ألغت المحكمة الدستورية نتيجتها. زاد من تعقيد الأوضاع محاولات حزب كانو الحاكم استغلال أغلبيته في البرلمان لإجراء عدد من التعديلات ، التي لا تجد القبول من جانب المعارضة ، في قانون الانتخابات المقترح. ورغم أن أودينغا نفسه سبق أن طالب بتعديل القانون ، إلا أنه أعلن رفضه لمحاولة الحزب الحاكم استغلال أغلبيته في البرلمان لإجراء التعديلات بصورة فردية وبمنأى عن القوى السياسية الأخرى في البلاد ، مؤكداً أنه مستعد للحوار مع الحزب الحاكم في حالة واحدة فقط وهي تراجع الحكومة عن تمرير قانون جديد للانتخابات عن طريق استغلال أغلبيتها في البرلمان.
من الواضح أن أزمة الانتخابات الكينية تشهد تطورات مهمة وتدخل يوماً بعد يوم مرحلة اخرى من مراحل التعقيد غير المرغوب فيه وذلك بسبب المواقف المتنافرة والمتشددة التي يبديها الحزبان الكبيران داخل البرلمان وخارجه. ومما لا شك فيه أن اتجاه الحكومة نحو استغلال أغلبيتها لتمرير التعديلات المقترحة في قانون الانتخابات عبر أغلبيتها في البرلمان لا يجد تأييد كل القوى السياسية في البلاد وسيقود حتماً لجدل قانوني طويل ومثير للخلاف. كما أن التعديلات في قانون الانتخابات قد تواجه بالرفض من جانب لجنة الانتخابات نفسها. من المؤكد أن الأمور إذا سارت على هذا المنوال فإن البلاد مقبلة في الأيام والأسابيع القليلة القادمة على أزمة غاية في التعقيد قد تعود بها إلى مربع الصراع العنيف الذي شهدته في عام 2007. من جهة أخرى فإن بعض المراقبين يبدون موقفاً متفائلاً ويقولون أن الحزبين الكبيرين يلجآن للمناورة كحال السياسيين دائما وهما يعلنان عن مواقف متشددة كوسيلة فقط على أمل كسب المزيد من التنازلات من الطرف الآخر خلال المفاوضات التي يصفونها بالصعوبة والتعقيد. من جهة أخرى فإن التصريحات والمواقف المتشددة تجعل المواطن العادي متخوفاً من أن يعتمد حزب كانو الحاكم على أغلبيته البرلمانية لتعديل قانون الانتخابات بالصورة التي تخدم مصالحه ، إذ أن ذلك قد يدفع بالبلاد نحو حالة من الصراع الحزبي والقبلي تتضاءل أمامها الأزمة السابقة التي أشرنا لها في متن هذا التقرير.


mahjoub.basha@gmail.com

 

آراء