لا زال الترويج لكسل السودانيين مستمرا

 


 

د. عمر بادي
29 June, 2011

 


عمود : محور اللقيا
أخي الأكبر محمود يرحمه الله له صورة كان يعلقها في صالون بيته . الصورة تظهره شابا يغطي رأسه بالغطرة و العقال . سمعته مرة يقول أن هذه الصورة قد ألتقطت له عندما كان منتدبا من الحكومة السودانية إلى المملكة العربية السعودية ليعمل في شركة أرامكو في خمسينات القرن الماضي . كان أخي الأكبر محمود يعمل فنيا في مصلحة النقل الميكانيكي بالخرطوم بحري , في ذلك الوقت تم إنتداب أعداد كبيرة من المهندسين و الفنيين ليعملوا في شركة أرامكو العربية – الأمريكية . كان أخي محمود يقول أنه لم يستطع الإقامة هناك لأنه إفتقد الحياة الإجتماعية في السودان , و لأن الفرق بين راتبه الشهري هناك و راتبه الشهري في السودان لم يكن كبيرا , بل كان يقارب الضعف , و أنه بجانب عمله في النقل الميكانيكي كان يذهب بعد إنتهاء العمل إلى المنطقة الصناعية و يعمل أعمالا خاصة كانت تدر عليه دخلا أكثر من دخله في أرامكو , لذلك فقد أكمل سنة التعاقد بالكاد و عاد مثله مثل آخرين كثر إلى السودان و لم يحاول أن يجدد عقده .
في العام 1970 و عند تكوين دولة الإمارات العربية المتحدة بزعامة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان يرحمه الله , و عند خروج البريطانيين من الدولة الجديدة أوصوا بأن يتم إنتداب أعداد من الإداريين و الأطباء و المهندسين و الضباط السودانيين ليساعدوا في إنشاء و توطيد دعائم الدولة الجديدة . هكذا كان مدراء البلديات في الإمارات من السودانيين الأكفاء الذين تربوا و تدربوا في ظل الإدارة البريطانية في السودان . من هؤلاء كان السيد كمال حمزة مدير بلدية دبي و السيد أحمد عوض الكريم مدير بلدية أبو ظبي و السيد عتباني مدير بلدية الشارقة و الذي أعقبه فيما بعد السيد عبد اللطيف فضل في الثمانينات , كما أتى في الثمانينات السيد مختار مكي مديرا لبلدية عجمان . في الشارقة كان الدور الأكبر للباشمهندس حمد عبد الله في إنشاء و تطوير الكهرباء في الإمارة , و قد خلفه في ذلك نائبه الباشمهندس عمر أحمد بينما تولى الباشمهندس حمد عبد الله وظيفة المستشار للشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم إمارة الشارقة . أما عن الأطباء فقد كان معظم مديري المستشفيات و الأخصائيين من السودانيين . كذلك الحال بالنسبة للدفاع و الشرطة فقد كان بها أعداد كبيرة من الضباط و الفنيين السودانيين , و هنا لا أنسى الضابط التاج حمد الذي كان مستشارا عسكريا في أمارة دبي , و قبل ذلك في السودان شغل منصب مدير الإذاعة السودانية .
عند تأسيس جامعة العين كان للبروفيسورات و الدكاترة السودانيين الدورالكبير في ذلك , و هنا لا أنسى أن أذكر الدكتور بشير حمد الذي قام بتأسيس و إنشاء كلية الطب في تلك الجامعة . كل هذه الأسماء قد ذكرتها من الذاكرة , و كلي يقين أنني إذا قصدت المراجع فسوف أجد أعدادا أكبر من السودانيين العظماء الذين أثروا دولة الإمارات العربية المتحدة بخبراتهم , فقد كنت و أنا في بداية حياتي العملية في الهيئة القومية للكهرباء في السودان قد أخترت لإنتداب طال عن مدته في دولة الإمارات العربية المتحدة منذ أواخر السبعينات و إلى بدايات التسعينات من القرن الماضي . هؤلاء الكوكبة الذين ذكرتهم كانوا مخلصين في عملهم و كانوا أمينين و نزيهين في إدارتهم لمختلف المرافق . لم يكونوا منحازين لبني جلدتهم في ملأ الوظائف الشاغرة بل كانوا يختارون الكفؤ دون مراعاة لجنسيته , و هذا الأمر للأسف قد كانت نتيجته في غير صالحهم حينما شرع هؤلاء المختارون من جنسيات معينة في إختلاق المكائد و نشر الشائعات ضدهم .
دعوني أروي لكم بعض الأمثلة عن مكانة هؤلاء الرواد العظماء عند الإماراتيين . كان السيد كمال حمزة مدير بلدية دبي عندما يحس ببعض المضايقات في العمل , كان يقدم إستقالته و يتوجه إلى المطار مع أسرته , و لكن كان شيوخ دبي الذين توطدت علاقة كمال حمزة معهم , و من أجل إثنائه عن السفر , كانوا يأخذون أحد أبنائه و يخبئونه حتى يؤجل سفره و تتم الترضيات . السيد أحمد عوض الكريم مدير بلدية أبو ظبي , و عندما صدر قرار الشيخ زايد بن سلطان بتوطين كل الوظائف العليا في الدولة إقترحوا عليه أن يمنحوه الجنسية الإماراتية حتى يستمر مديرا للبلدية , و لكنه رفض أن يتنازل عن الجنسية السودانية , هنا صدر قرار بأن تترك له الجنسية السودانية و تضاف إليها الجنسية الإماراتية , رغما عن أن دولة الإمارات لا تعمل بنظام إزدواج الجنسية , و إنما إعتبروه حالة خاصة ! السيد عبد اللطيف فضل مدير بلدية الشارقة كان أول من أدخل نظام المراقبة بالكاميرات في مكاتب و صالات و ممرات البلدية و كان يتدخل بتوجيهاته متى تطلب الأمر خاصة في حالات تكدس المتعاملين وفي حالات الغياب و التسيب ! و كان يعاد تعيينه أكثر من مرة .هذه أمثلة ثلاث لمكانة السودانيين الرواد في دولة الإمارات العربية المتحدة .
دار الزمان دورته و ظهر التدهور الإقتصادي في السودان مع بداية الثمانينات من القرن الماضي , و ظهر معه إغتراب الطبقة الوسطى إلى دول الخليج , ثم دار الزمان دورة أخرى في فترة التسعينات و ما بعدها بعد إستيلاء الإنقاذيين على مقاليد الأمور في السودان , فظهرت مع التدهور المريع في كل جوانب الحياة هجرات للطبقات الدنيا التي كانت مرتبطة بالأرض سواء في الأرياف أو في المدن و هم العمال غير المهرة في مجال الرعي أو الزراعة أو المهن الهامشية , و ظهر نوع جديد من التأشيرات تمنح لمثل هؤلاء تحت مسمى ( عمال تربية مواشي ) و نسبة لإنعدام غيرها من التأشيرات فقد هاجر بموجبها الأطباء و المهندسون و الموظفون و عانى الكثيرون الأمرين في سبيل تحويلها إلى وظائف أخرى . لقد كانت لعصبة الإنقاذ أفانين في قهر المواطنين و إذلالهم و التضييق عليهم معيشيا حتى يتم إيصالهم بكل ذلك إلى مرحلة اللامبالاة و من ثم الخنوع . لدينا مثل سوداني يجسد هذه الحالة المزرية , يقول المثل : ( لو كترت عليك الهموم , إتدمدم و نوم ) ! هذا الحال الذي يغني عن السؤال يفسر التقاعس العام الضارب بأطنابه رغم سؤ المآل الذي فات الحد .
بالنسبة للسودانيين العاملين في بلاد المهجر فقد أصابتهم يد الإحباط من التضييق المتزايد نتيجة لإنخفاض الرواتب مع التنافس الشديد بين الجنسيات المختلفة في سوق العمل و مع البطالة التي تعلم الصبر . هذا الإحباط النفسي أراه ظاهرا في عدم الإهتمام بالملبس و في الجري وراء التحويش و التحويل , فالمستقبل غير مضمون و هنا ( ووب ) و هناك ( ووبين ) ! هذه الحالة المزرية ربما كانت السبب في عدم إتخاذ السودانيين لأي إجراء ضد النكات الساخرة التي تطلق عنهم . بهذا فإنني أرى أن حال السودانيين في الداخل و الخارج قد صار ينطبق عليه قول المتنبي : ( من يهن يسهل الهوان عليه , ما لجرح بميت إيلام ) !
إذا تمعنا دور السودانيين المقدر في بناء و تطوير دولة الإمارات العربية المتحدة , مع كل الكوكبة من الرواد العظماء الذين ذكرتهم , هل يستوي بعد ذلك كله أن تبث أذاعات من داخل دولة الإمارات دعاياتها المغرضة عن كسل السودانيين , و تظل تذيع ذلك علنا لعدة مرات يوميا ؟ لقد تطرقت لهذا في مقالتي السابقة التي كانت بعنوان ( السودانيون و خصلة الكسل المنسوبة إليهم ) فتطرقت فيها إلى الحملة المنظمة لتشويه سمعة السودانيين بسبب تنافس سوق العمل , و نوهت إلى تلك الإذاعات دون ذكرها , و لكنها إستمرت في سخريتها من السودانيين و باللهجة السودانية في فقرة عن ( عصمان ) و كسله و نومه و حلمه المتكرر حتى ينال جائزة ( الحلم ) ! هنا أقول عيانا أنني ضد هذه الفقرة الإعلانية الدعائية التي تبثها إذاعتي إم بي سي إف إم و إم بي سي بانوراما إف إم , رغم أنني مستمع جيد لهاتين الإذاعتين و لكن مستني تلك الفقرة التي ربما فات أمرها على البعض من ذوي النوايا الطيبة .
لا بد من الوقوف إحتجاجا في وجه هذه الحملة الرامية لتشويه سمعة السودانيين , و من هنا أرجو من الجهات السودانية العاملة في دولة الإمارات أن تتدخل في هذا الأمر المسيء للسودانيين , و أوجه القانونيين أن يتعاملوا بالقانون مع هاتين الإذاعتين اللتين أساءتا للسودانيين بوصمهم بالكسل و الترويج له عيانا بيانا .
omar baday [ombaday@yahoo.com]

 

آراء