بعد غيبة عن الكتابة في الشأن السياسي امتدت لأكثر من ستة أشهر لإعادة قراءة المشهد الوطني الماثل بتانٍ، والتأمل بصبر في ما يجري، أجبرني موضوع العلاقة بين من يسمون أنفسهم التيار الإسلامي وبين قضايا وأحداث الفترة الانتقالية للإدلاء بالدلو. إذ إنه برغم الغبن الدفين الذي أحاط بغالب الثوار نتيجة لعدم توفر قادة أشداء في الحكومة بمستوى المرحلة سوى أن هذا الخلل البنيوي أتاح لعدد من الإسلاميين، ومأجورينهم، والانتهازيين، إمكانية اختبار هشاشة قادة هذه الفترة، ومؤسساتها بعيدًا عن الفعل القانوني، لمضاعفة استهدافهم التغيير الذي هد أركان مملكتهم بإبداع من ناحية، ومواصلتهم الحيل الخبيثة لشغل الرأي العام بترهات، وانصرافيات، والسعي لخلط أوراق المرحلة، من الناحية الأخرى. ويتمثل الاستهداف الإسلاموي من خلال الطرق المتذاكي للإسلاميين على حديد موضوعات تتعلق بالإستراتيجية المبيتة عندهم للانتقام من الثورة (١)، وفتن مكوناتها (٢) وتقويض بناءاتها (٣)، حتى لو أدى ذلك للانهيار الأمني في البلاد. وقد تركزت تلك الإستراتيجية المخدومة بتناغم وسط الإسلاميين - منظمين وفرادى في الداخل والخارج - حيث وقفنا على الدس وسط السودانيين لتعميق الاختلاف الجهوي، والقبلي. وكذلك استخدام العاطفة الدينية بتصوير أن المرحلة إنما هي تجذير لمحاربة الإسلام في أصله، وليس بعض تفسيراته البشرية المضرة بالمواطنة، وثالثا العمل على تتفيه أي إنجاز للثورة برغم الخيبات الكثيرة على المستوى السياسي، والاقتصادي، والأمني، والعدلي. ونظرا لأهمية المرحلة، وحاجتها لحساسية نقدية تغلب المصلحة العامة للتغيير، فإن عدداً من الثوار أنفسهم وقعوا في مصيدة الإسلاميين لتشكيل الرأي العام بالانصرافيات لمقتضى نسف وحدة القوى الثورية كمقدمة لضرب التغيير نفسه. وقد لاحظنا إثارة غير مثمرة للمواضيع ذات الصلة بالجهويات، والقبليات، عبر تسجيلات هنا وهناك غمرت وسائط التواصل الاجتماعي. وكما نعلم أن الثائر الواعي من أجل دولة الحقوق والمساواة لا يستجيب لهذه التسجيلات المخدومة بعناية لإعادة الثوار إلى منصة الجهوية والقبلية، وبالتالي يفلح الإسلاميون في مخطط تشتيت دم جرمهم التنظيمي ليلتصق بجهات السودان ضجيجا في البدء، ثم كراهية فاحترابا. ولا نعتقد أن ثوار السودان الذين أبانوا تعقلهم في المشاركة جميعا في الثورة بحاجة إلى الانجرار للخطاب الجهوي، وألفاظ الكراهية من أي جهة أتت، ما دام الأمر الموضوعي هو إصرارنا جميعا على معالجة المواضيع المتعلقة بالعنصرية، والتفاوت التنموي، والاستعلاء الديني، والعرقي، عن طريق مخاطبة جذور أزماتنا بشكل مسؤول، وفي مناخ ودي يرسم طريقا لتحقيق شعار الثورة المتمثل في الحرية، والسلام، والعدالة. إن محاربتنا لخطاب الكراهية لا تبدأ إلا من خلال تجاهلنا التام لخطابات الفتنة، المثارة بأشكال متعددة في الميديا، والتركيز على وحدة البناء الوطني لهزيمة المخططات الإسلاموية المستثمرة في الجهوية بعد بوار تجارتهم الدينية - السياسية. صحيح أن هناك رجاحة للنقد الموضوعي إزاء الحكومة، وسائر موسسات الانتقال، غير أن ضرورة ترتيب الأولويات لا بد أن تجعلنا نركز جهدنا الثوري على هزيمة الخبث الإخواني المعد لجرنا نحو دعم استراتيجياته الانصرافية. ذلك بوصف أن هذه الأولوية في هزيمة مساعي الإسلاميين أهم من اعتراك القوى السياسية بعضها بعضا، وذلك حتى نحمي الانتقال، ونصلحه بالنقد، وما أكثر عيوبه القاتلة. وهذا أمر ممكن، ومتاح، ما دامت نار الثورة حية في الريف والمدن، ولا يزال يتدفأ بها الثوار كلما أحسوا عمق المؤامرات التي تستهدف الثورة، والمرحلة الانتقالية، في الأساس. والحقيقة لا يمكن فصل هذه المؤامرات عن حقيقة مهادنة المسؤولين الانتقاليين تجاه ضرب التمكين في كل مجالاته. ولكننا جميعا نعرف في ذات الوقت أن موازيين القوى أتاحت وجود الطرف العسكري الذي بموجب الوثيقة الدستورية أصبح جزءً من الانتقال، ومشاركا فيه. ولو كان التغيير قد جاء راديكاليا بقيادة مدنية تخضع لها سائر المؤسسات النظامية، وفي داخلها وطنيون لديهم المصلحة لهدم تراث الإنقاذ الباقي بعجالة، كما حدث في أكتوبر وأبريل فإن الكثير من الإنجاز في التغيير كان من المفترض تضاعفه. وذلك في حال وجود قادة حقيقيين يستمدون القوة الكاملة من النظاميين في الجيش، والشرطة، والأمن. وما دام هذا الشرط لم يتوفر كما يعلم القاصي والداني فإن لا سبيل سوى التركيز على استمرارية الفعل الثوري دون استهداف المرحلة الانتقالية برمتها، إذ إن هذا الاستهداف هو طموح الإستراتيجية الإخوانية، وهيهات أن يفعل الثوار العاقلون ذلك ليحققوا حلم الإخوان المحليين والدوليين. أياً كان ضعف أداء الحكومة، وسعي العسكريين للتدخل في العمل المدني، والخيبة في قوى الحرية والتغيير، وصعوبة التحديات اللوجستية والموضوعية التاريخية أمام الشعب السوداني، فإن نجاح الإسلاميين في محاولة غش الشعب السوداني بتوظيف العاطفة الدينية دونه خرط القتاد. السؤال المهم هو لماذا لا يعتبر الإسلاميون من ماضيهم القريب الذي لفظه الشعب السوداني بثورة مثابرة، وجسارة، وصمود، أنكر حدوثها د. حسن مكي!، وقال د. التيجاني عبد القادر إنها "خطفت السلطة" وكرهت الإسلام، وشنشن حولها د. عبد الوهاب الأفندي بما شنشن..! إذا كان هؤلاء الأكاديميون مصنفين في دوائر الإسلاميين بأنهم، عقلاء، وصادقون، ومفكرون استراتيجيون، فما بالك بمن هم دونهم في التأهيل العلمي؟ لا عودة للغش الديني والاستهبال السياسي مطلقاً مهما زادت المكابرة الأكاديمية الإسلاموية، أو زادت المؤامرات ضد التغيير..الشعب السوداني يستحق منكم الاحترام .. لو أنكم لم تحترموا أنفسكم، وعلمكم، وإنسانيتكم.