لجان المقاومة السودانية… ظاهرة موضوعية

 


 

 

نقلا عن القدس العربي
في ملتقى سياسي بالأمس، وصف أحدهم لجان المقاومة بالظاهرة الدخيلة، وأن دورها مبالغ فيه، وطالب بتخطيها بحثا عن وفاق سياسي! رفضتُ بشدة حديث الرجل، ورددت عليه بمناقشة مطولة، جوهرها أن لجان المقاومة ظاهرة موضوعية وصحية. اقتطع من المناقشة النقاط الثلاث التالية: الأولى، الحراك الجماهيري في السودان ليس مجرد متلق تتنافس على إثارته القيادات السياسية، حكومة أو معارضة، وإنما هو الطرف الرئيس الذي يملك الحل الصحيح لمعادلة الأزمة السودانية بتجلياتها المختلفة. فشعب السودان تخطى مرحلة أن يظل حبيس وعي الغناء للمطر حتى يهطل، والدق على الصفيح حتى تعدل الشمس عن كسوفها، وأصبح واثقا من قدرته على استنتاج الإجابات الصحيحة للأسئلة المثارة حول استمرار الحرب الأهلية في البلاد، والفشل في إدارة السياسة والإقتصاد، وحول الفساد وضنك الغلابة، ولماذا يصر القادة على مقارعة شعوبهم ويرفضون التنحي… وغير ذلك من الأسئلة العديدة التي يتقدمها سؤال رئيس ومحوري حول المستقبل. صحيح أن القوى السياسية السودانية، بمختلف فصائلها وأقسامها، تجتهد في التصدي الجاد لهذه الأسئلة، ولكن من الواضح أنها اليوم تواجه معضلة في تقديم إجابات مقنعة وملهمة وتشفي غليل الأجيال الجديدة، والتي تتهم الأحزاب بالتوهان في متاهة الثنائيات العقيمة، في السياسة والتنظيم والتحالفات، وحول المواثيق والهيكلة والفعالية، بعيدا عن اكتشاف كلمة السر الضرورية واللازمة لإحداث الحراك الشعبي. وللأسف، نحن لم نتمعن جيدا في هذه الملاحظات، وكان علينا أن نتمثلها بعقلية تتقن استخدام منهج النقد والمراجعة وإعادة النظر، وتقبل التعدد والاختلاف، فلا أحد يحتكر الحقيقة، ونسقط مفردات الأول/الفائز/الغالب في العمل السياسي، والتي لم نحصد منها غير استفحال الأزمات المزمنة. والسواد الأعظم من الشعب السوداني كره هذا النوع من السياسة بشكلها النمطي القديم والذي ظلت تمارسة أحزابنا، يسارا أو يمينا، وطفق يفتح بوابات الخيال والابتكار بحثا عن ابتداع فهم جديد للممارسة السياسية، عنوانه طرح الشعارات الصحيحة في الوقت الصحيح، والتي تتجسد في مطالب ملموسة تنبع من الهموم اليومية للناس، وتلقى صدى واسعا في دواخلهم، وتتفجر بهم حراكا ملهما نحو المستقبل الأفضل.
النقطة الثانية، يشهد عالمنا المعاصر طفرة هائلة في إنضاج العامل الذاتي للتغيير. فالثورة التقنية الحديثة، بقدر ما كسرت احتكار أنظمة الاستبداد للمعلومة، وقلصت قدرتها على المراقبة والتجسس والاختراق وشل الحركة بالاعتقال، بقدر ما كسرت العقلية النخبوية البيروقراطية للعمل المعارض، وخلقت مساحات وميادين ومنظمات إفتراضية لتوسيع أفاق العمل السياسي نحو أوسع صيغة من المشاركة والتفاعل، يمكن ترجمتها على أرض الواقع إلى قوة تغيير خارقة. ألم تلعب الثورة التقنية الحديثة دورا في انتصار ثورات تونس ومصر أكبر بكثير من دور المؤسسات السياسية التقليدية؟ لكن أدوات ثورة الاتصال والمعلومات ستظل مجرد آلات صماء إذا لم تدرها عقول فعالة تحسن قراءة الواقع وتحولاته، وتترجم معطياته إلى مبادرات مبتكرة في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ومن الواضح أن الشباب هم أفضل من يتولى ذلك. والمتغيرات على أرض الواقع تفرض، وبالفعل فرضت كما حدث في انتفاضات الربيع العربي، مجموعة من النقلات والانتقالات، منها: الانتقال من فكرة انتظار الزعيم الكاريزما والبطل المنقذ، إلى فكرة القيادي والرئيس المسؤول وسط قيادة جماعية تتساوى في الواجبات والحقوق. والانتقال من فكرة المناضل بالفهم القديم، الذي يحترف ويحتكر النضال، إلى فكرة الناشط الميداني، والذي هو أيضا مناضل ولكن بفهم حديث، فهو فرد يملك استقلاليته ويفجر حيويته، مساهما في الميدان، مسؤولا ومشاركا، يبادر ويتحرك، يناقش وينتقد، يقترح وينفذ، يؤثر ويتأثر، زاده ووقوده هو الخلق والإبداع والابتكار على نحو بنّاء لمنجزات العولمة والثورة التكنولوجية. والانتقال من المنظومة المغلقة الصماء إلى رحاب الفضاء المفتوح للتداول والتفاعل، بحيث الجميع يتغير ويسهم في تغيير الآخر، وبحيث أن ثورة التغيير لم تعد ثورة الطلائع والتنظيمات المعلبة، بل هي ثورة الإنسان العادي الذي يدشن عهدا جديدا يتصرف فيه كمشارك في فعل التغيير، له كلمته ومساهمته ورأيه، بعد أن كان في الماضي مجرد متلق في الحشد والندوات والليالي السياسية، يصفق ويهلل لبلاغة الزعيم، بل وأحيانا يمارس طقوس التقديس والتعظيم لهذا الزعيم القائد الملهم، ولمن يفكرون ويقررون بالإنابة عنه.
النقطة الثالثة، تاريخ الثورة السودانية، منذ ثورة اللواء الأبيض 1924، يؤكد بديهية أن الشباب هم محركو الثورات ومشعلو شرارتها. أما الجديد هذه المرة، فهو سعيهم لتنظيم أنفسهم في تكوينات مستقلة عن الأحزاب، أو داخلها، وهذا الجديد سيرفد المشهد السياسي في السودان بتغير نوعي. والشباب ليس نسيج وحده، فوعيه يتشكل من خلال حدة الصراع السياسي الاجتماعي في البلد، وحراك المجتمع المدني عموما بما في ذلك الاحزاب. لكن وجوده المستقل عن مواقع اتخاذ القرار، في الحكم والمعارضة، يسمح له بالرؤية الناقدة، كما إن تطلعه نحو المستقبل الأفضل يؤهله ليكون خالق البدائل الأكثر انسجاما مع المستقبل. وحركة الشباب، تطرح بشدة قضايا إصلاح السياسة والمجتمع، مجددة بثورية خلاقة وعي الأحزاب القائمة، وفي نفس الوقت مكتسبة وعي الحكمة من هذه الأحزاب، دافعة إما إلى تجدد هذه الاحزاب أو خلق أحزاب جديدة. بالطبع نحن ندرك حتمية نشوء صراعات متعددة بين جيل الشباب وجيل الآباء، في الإطار السياسي الكبير، حول كيفية إدارة القضايا الساخنة المتعلقة بمستقبل البلاد. لكن صراع المجايلة في حد ذاته لا يسبب انتكاسا، وإنما سوء إدارته هي التي تسبب الانتكاسات. وهو يمكن أن يكون صحيا ومثمرا إذا اتسم بالموضوعية بعيدا عن محاولات خلق الفتنة بين جيل الشباب والأجيال السابقة، وبين الشباب والأحزاب، وألا يكون هم المؤسسات الجديدة وشغلها الشاغل هو الحرب والتناطح مع المؤسسة القديمة، بل التعامل معها بكل احترام الابن الساعي لاكتساب الخبرة من أبيه دون التخلي عن اختلافه مع سياساته.

 

آراء