لحن جنائزي أم مارش انتصار؟ … بقلم: محمد المكي إبراهيم

 


 

 

 

أشعر بحزنٍ ثقيلٍ وأنا أكتب هذه الكلمات عن الشاعر عبد الإله زمراوي وديوانه الجديد (طبلُ الهَوى)، وهو مجموعة أشعار متنوعة المقاصد، ولكن  أعلى الأصواتُ فيها هو صوت الوطنية والانحياز إلى جماهير الوطن والمطالبة لها بالحرية والديمقراطية. إلا أن هذه اللحظة العصيبة من تاريخ السودان تُنذر الوطنيين من شاكلة زمراوي بأن الوطن سيتفتت كالنجوم العتيقة ويخر ساقطاً عبر  السماء كالشهاب فلا تبقى منه سوى إشاراتٍ كونية تقول للمراصد الفلكية أن بلداً بذلك الإسم كان يشغل ذلك الحيز من خريطة الكرة الأرضية.

 

لقد أحببناه بكل قلوبنا وتغنى به شعراؤنا وفنانونا واحتل مكانة سامقة في قلوبنا  بفضل زمراوي وأضرابه من المبدعين السودانيين وذلك على عهدين: عهدُ  العيش فيه وعهد البعد عنه. وأول العهدين هو الزمن الممتد من الطفولة إلى سنوات النضج الفكري والعاطفي فقد نعمت الأجيال التي نشأت فيه بكل ما تقدم الأوطان لبنيها، خاصة تلك الحياة الاجتماعية القائمة على الحرية والمحبة واحترام ذات الإنسان. ثم جاء هذا الزمن الضيق الكئيب فطرد ألوفا مؤلفة من السودانيين من مواقعهم في الخدمة العامة وقذف بهم في ارض الله الواسعة خارج الحدود. وفي المنافي النائية ظل السودانيون يتذكرون ويحلمون بالجنة التي طردوا منها فيحنون إليها ويمعنون في حبها وتذكر مفرداتها الصغيرة من مناظر ومآثر وصداقات وعلاقات بادت كلها للأسف وطواها النسيان. وقد سطر المغتربون السودانيون الجزء الأكبر من كتاب الذكريات كما هو واضح في كتابات الأساتذة شوقي بدري وزاهر هلال الساداتي وصاحب المسادير الأستاذ منصور المفتاح وذلك في محاولة باسلة لانتزاع  حياتنا القديمة من براثن النسيان وحفظها لنا في كتاباتهم على أبهى صورة من الصور.

 

أما الشاعر وبطبيعة فرشاته العريضة فانه يقدم الاحناء الداخلية للشعور ويعطي تعبير حبه وتعلقه بالوطن وأزمانه وأحداثه، وذلك ما عكف عليه هذا الشاعر الموهوب منذ ديوانه الأول وشطرا معتبرا من ديوانه الحالي.

 

إلا ان طوارق الزمان تكالبت على الوطن وصورته في الأذهان وصارت تتهدد وجوده نفسه وهي مصائب متراكبة برع في تصويرها أهل السياسة من السودانيين فإذا نحن إزاء وطن يتخلع ويتفكك ويتناثر إلى أجزاء ويفقد الكثير من عناصر تكوينه وعناصر جماله. ولا يدري احد إلى أين  ستذهب غابة النخيل وغابة الطلح وغابة الخيزران وادواح التبلدي وبحر القلزم وجباله المحيطة وهضبة جبل مرة التي هددنا الراحل الفنّان خليل إسماعيل أن من يراها ولو لمرة سيلازمه الحنين طوال السنين*.

 

الى من ستئولُ ملاعب صبانا ومسارح لهونا وعذابات حبنا للوطن وصباياه أو عذاباتنا الشخصية على أيدي جلاوزته والملاحقات التي تعرضنا لها على أيدي مستبديه؟ وما مصير الغناء الحلو الذي كتبه  الشاعر عبد الإله زمراوي ورصفاؤه من مبدعي البلاد؟ وأين مستقر الحناجر التي صدحت والكمنجات التي تأوهت والقماري التي نثرت شجوها في ليالي القمر؟

قال فينا أديبنا** عالي المقام "أرضُ اليأس والشعر ولا أحد يغني" ومهما يكن شكل المأساة القادمة فان فينا شاعراً يحمل "طبل الهوى" ويغني. إنه زامر الحي الذي نطرب له أكثر من سواه وعلى رأي الإفرنج لا بد من الغناء في ساعة الميلاد كما في ساعة اللّحد وفي حال التعبد للخالق كما في وداع الأحباب الراحلين.

 

والآن وعلى أنغامه العذبة نشدُ الحزام على جراحِنا وأحلامِنا فإن تكن الغلبةُ للأولى فان ألحانه الجنائزية تصاحبنا ساعة الرحيل وتذهب عنا وحشتها الباهظة وإن تكن الأخرى فإنَّ أنغامه ستكون نشيد انتصارنا والمارش البروسي الذي نمضي على إيقاعِه إلى  سماءِ الحريةِ اللا محدود.

 

*من مقدمة ديوان (طبلُ الهوى)

 * من قوله : لو شفت مرة /جبل مرة/يلازمك حنين/ طول السنين والغناء للفنَان خليل إسماعيل.

** الطيب صالح في موسم الهجرة ، واصفا الطريق الصحراوي ما بين دنقلا وأمدرمان.

 

آراء