لغة المواكب

 


 

فضيلي جماع
24 October, 2021

 

لم يكن الخميس 21 أكتوبر من العام الجاري يوماً عادياً. فما إن حانت الساعة الواحدة بتوقيت الثورة - والتي صارت ميقاتاً جديداً في قاموسنا السياسي السوداني - حتى اكتظت الشوارع بالرجال والنساء من كل حدبٍ وصوب. تحركت المواكب في كل مدن وقرى السودان دون استثناء. سعيد من أسعفه الحظ ، فشارك ساعياً في زحام الشارع وسط الآلاف. يتصبب منه العرق ، منشداً أو مردداً مع الملايين هتافاً قد تختلف عبارته هنا أو هناك. لكنه دار ويدور حول مطلب حددته عبقرية شعب السودان المعلّم: (مدنية خيار الشعب!!) هذا الهتاف الذي لم يخفت صداه منذ اشتعلت جذوة الثورة في ديسمبر 2019م. هتافات من كل مدن وقرى السودان حملت وتحمل الأشواق المشروعة لإنسان هذا العصر: حرية، سلام وعدالة!
سعيد من أسعفه الحظ مشاركاً في مواكب الجمعة من يوم الحادي والعشرين من أكتوبر هذا العام.. وقليل الحظ مثلي من حال به ظرف دون السعي مشاركاً في زحام الشارع السلمي مردداً مع الملايين : (حرية سلام وعدالة – مدنية خيار الشعب)! إلا إننا نحمد لأدوات نقل الصورة والصوت والمتاحة تقريبًا للكثرة من الناس، بحيث تابعنا حركة الشارع وقرأنا لغة المواكب من الجنينة إلى بورتسودان ومن حلفا دغيم إلى كاودا الصمود بوضوح تام ونحن جلوس أمام شاشات التلفزة. بل إن البعض اكتفى بهاتفه الذكي ناقلا إليه الحدث صورة وصوتاً. ولغة المواكب في كل مكان وزمان لا تكذب. يمكنك وأنت جالس في مقعدك أو مشاركاً في زحام الشارع أن تعرف دقائق ما تصبو إليه الملايين عبر هتاف الحناجر ، أو من خلال التلويح بالزنود و ما تشي به شارات الأوجه من تجهم أو ابتسام.
إنّ لغة المواكب لا تكذب. عرفنا وعرف العالم أجمع أشواق شعوب السودان وتطلعاتهم المشروعة من لغة المواكب. لم تكن المسألة بحاجة إلى ذكاء خارق لنعرف أن شعبنا ينادي بمطالب مشروعة دفع دونها الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين في واحدة من أميز ثورات الشعوب في القرن الواحد والعشرين.
هل ما يزال ثمة من يرى بعد مواكب الجمعة 21 أكتوبر أن عسكرياً مغامراً يمكنه أن يقف نافخاً أوداجه ليذيع على الناس بياناً يعيد فيه اسطوانة أن البلاد على حافة الهاوية وأن تردي الأوضاع الإقتصادية وانفلات الأمن يعطي الجيش الذريعة ليقوم باستلام الحكم بحجة أن يعيدها لاحقاً للمدنيين؟ هل بين الناس ثمة من يؤمن أن انقلابا عسكرياً سيحدث في السودان بشتى الحيل ومختلف السبل؟ أمعنت النظر في الأيام السابقة في النسخة التقليد – النسخة البائسة لاعتصام القصر. وعجبت لمن يرفع عقيرته مطالباً بحكم العسكر ! بيد أنّ الثلاثين العجاف من أعوام الرمادة جاءتنا بكل الغرائب. ومن بين الغرائب من يصفون الحرية بالفوضى، وييصفون الدكتاتورية بالإنضباط.
إن وعي الشعوب يصنعه الكم الهائل من تضحياتها. والوعي الذي ساد حركة الشارع السوداني ، والذي امتاز به بين شعوب المنطقة لم يأت بين يوم وليلة. بل حدث جرّاء تراكم نوعي منذ مطلع القرن العشرين حتى اليوم. نادى مؤتمر الخريجين عام 1938 بما تنادي به شعوب اليوم لحل مشكلاتها عبر الحوار. عرف شعبنا الموائد المستديرة وحوار الخصوم السياسيين وهم جلوس إلى الطاولة مهما اختلفت الرؤى. كانت الإنقلابات العسكرية وحكم المستبد في بلادنا عبر تاريخها الحديث جملة اعتراضية فارغة المحتوى، أبطأت حركة التقدم لكنها بالطبع لم ولن توقف دولاب حركة التاريخ.
قرأنا بالأمس لغة المواكب .. سمعنا هتافات الملايين من شعوب السودان وهي تطالب بإكمال المرحلة الإنتقالية وإقامة الدولة المدنية الديموقراطية. ولغة المواكب لا تكذب. أما الحالمون بخنق مرحلة الإنتقال لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء فعليهم أن يعيدوا قراءة المشهد. تابعنا الملايين من الرجال والنساء والصبية والصبايا وهم يتدافعون بالمناكب. وقد اختفى إسفلت ورمل الشارع ، وبقيت الوجوه السمراء ، والأسنان الفضة تبرق في النهار القائظ.. ومكبرات الصوت تصدح عبرها حنجرة وردي العظيم ، شاحنة الموكب بشعر محجوب شريف، والآلاف يردّدون:
يا شعباً لهبك ثوريتك ** تلقى مرادك والفي نيتك
وعمق إحساسك في حريتك ** يبقى ملامح لي ذريتك
=========================
فضيلي جماع - الخرطوم
23 اكتوبر 2021

 

آراء