للسودان تقدير يستحقّه من أشقائه
13 مايو 2021
(1)
في سبعينيات القرن الماضي، قال شيخ من شيوخ بلدان الخليج حديثة الاستقلال، لصديقه رئيس السودان، جعفر نميري، إن يتكرّم السودان بتزويد بلاده بإداريين ومهندسين سودانيين، يمكن أن يحيلوا عاصمة بلاده لتكون في نظافة الخرطوم عاصمة السودان وجمالها.
تلك ليست مُلحة عابرة، بل هي واقعة حقيقية، فقد كانت الخرطوم عاصمة دولةٍ استقلت منذ أواسط خمسينيات القرن العشرين، ولها اقتصاد متماسك، وفي البلاد مشروعات تنموية ذات عائد ورفاه بائن، ولها وزن سياسي معتبر. وكانت للسودان قيادة وقفت في مقدمة القيادات العربية، دعما وسندا لقضية العرب يتذكر من شهدوا سنوات الستينيات، كيف استضافت عاصمة السودان القمة العربية الاستثنائية التي أعادت الكرامة العربية بعد هزيمة حزيران 1967. لم تكن لاءات الخرطوم كلّ ما أنجز، بل سلاح البترول الذي توافقت الدول العربية على استغلاله كان أهمّ تلك المنجزات. من حسنات تلك القمة في الخرطوم أن تحققت مصالحة العرب الكبرى بين ملك السعودية، فيصل بن عبد العزيز، والرئيس المصري، جمال عبد الناصر، بيد رئيس وزراء السودان محمد أحمد محجوب. حين أجمعت الزعامات العربية على تقديم دعم مادي سخي لمحو آثار الهزيمة وتبرّعوا بالملايين، أصرّ بعض القادة على أن يُضمّ السودان إلى قائمة البلدان التي تستحق الدعم المادي، رد السودان، بحسمٍ وبإباء، بأنه ليس في حاجة لدولار واحد، والدعم ينبغي أن يقدّم لبلدان المواجهة.
(2)
دولة السودان التي لحقت بجامعة الدول العربية عضوا فاعلا، فور نيلها الاستقلال في عام 1956، من الدول الثماني الأولى التي سعت وشاركت في تعزيز دور الجامعة لتحقيق تطلع الأمة نحو التضامن، لنصرة قضايا الوحدة العربية. لم يُضمر السودان في كل مساعيه منّاً أو أذى، على إخوته في إقليم "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا". سترى على الساحة الأفريقية دورا للسودان تعاظم بانتمائه الأفريقي، هو الشريك الفاعل، صاحب السهم العالي في صياغة ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية في مايو/ أيار 1963، والتي تحول اسمها إلى "الاتحاد الأفريقي" في مقره في أديس أبابا.
تمكّن السودان، وبجهد زعاماته وزعامات محترمة في القارة الأفريقية، من احتواء نزاعاته الداخلية، وتحقق السلام في ربوعه طيلة سنوات السبعينيات. لم تكن ثمّة حاجة لتدخل من أي طرف في المجتمع الدولي، ولا كانت نزاعات السودان الداخلية شأناً تنشغل به هيئة الأمم المتحدة. على عكس ما يستدعي أن يعرفه المجتمع الدولى، فإن دبلوماسيته الفاعلة عبرت إلى بلدان عربية وأفريقية عديدة في العراق والكويت ولبنان والكونغو وأوغندا، في سنوات الستينيات والسبعينيات، فشاركت في إطفاء نيران الخلافات والنزاعات في تلكم البلدان .. لم ينل السودان في تلك السنوات سوى التقدير والاحترام.
(3)
أما العقود الثلاثة الأخيرة في السودان، بين عامي 1989 و2018، فقد شهدتْ إمساك تيار إسلاموي بزمام الأمور في البلاد، على حين غرّة وبانقلاب عسكري تآمري، فسيطر على أقدار السودان وقاده إلى محرقة، عزلته عن المجتمع الدولي، فسقطت البلاد فريسةً لعصبةٍ من الفاسدين أساءت الإدارة والحكم، وأغرقت مجتمعاته في صراعاتٍ وأزمات، ما وضعت أوزارها إلا بعد ثورةٍ شعبيةٍ أسقطتها. قاد ذلك النظام المباد إلى تراجع تقدير أشقاء السودان قياداته، وتراجع احترامها، بسبب سلوكيات قياداته المخزية. أزكم شيوع الفساد المادي والمعنوي، ليس أنوف السودانيين وحدهم، بل أنوف القيادات العربية والأفريقية الشقيقة التي حفظتْ للسودان تاريخه وإرثه القديم في رشاد الحكم وفي الفعالية وحسن سياساته وسداد دبلوماسيته، لكنه صار في سنوات حكم "الإنقاذ" كلباً أجرب، يتجنّبه العقلاء في المجتمع الدولي، ويتحاشاه الأقربون في الإقليم الذي ينتمي إليه.
حين انعقدتْ القمَّة الأفريقية في الخرطوم عام 2006، جاءت القيادات الأفريقية إليها على مضضٍ وتردّد، بل أحجم عددٌ منهم عن المشاركة، غيرَ أنّ أكثر ما تأذّتْ منه كرامة السودانيين إقدام القيادات الأفريقية في تلك القمّة على حجب رئاستها عن رئيس انعقدت تلك الاجتماعات في عاصمة بلاده. لم يمنح الرؤساء والملوك الأفارقة عمر البشير ذلك التمييز المراسمي، وأجلسته القمة معزولا في عاصمته.
(4)
ها هي نفوس السودانيين وقد استعادت كبرها وكرامتها وعنفوانها، إثر ثورة ديسمبر 2018، بعد أن أضاعها نظام الطاغية الأخرق، ومرّغ سمعة بلاده، هو وأزلامه، برذائل النخاسة وتراكم الفساد ، فانكسرت كبرياء السودان على يدٍ سفلى تستجدي قياداتها إحسان أمراء الخليج، بلا حياء. يوم سقوط الطاغية، عثروا على ملايين من العملات الأجنبية في حقائب غرفة نومه. ليت الرجل هرب مثلما هرب التونسي، بن علي، ليختفي عن الأعين فلا يلحقه إذلال، إلا أنه يقف الآن وراء القضبان، ليحاكمه شعبه في رابعة النهار، وتحت عدسات القنوات.
(5)
السودان الذي عركته وقائع ستينيات القرن الماضي وسبعينياته كان إطفائي النزاعات، بدبلوماسية التفاوض في حين، وبدبلوماسيته العسكرية الأصيلة، في أحايين أخرى. في حرب لبنان الأهلية، وقف فيلق ضمن القوات العربية التي حظيت بثقة اللبنانيين فأمنوا الخط الفاصل بين بيروت الشرقية والغربية. من إرث السودان مشاركته في بسط السلام في الكونغو، كما كان سند الثوار الإريتريين الذين غادروا من ملاذهم الآمن في الخرطوم ليدخلوا أسمرا حكاما لذلك البلد. من إرث السودان، قيام رئيسه نميري بما كلفته به جامعة الدول العربية لإخراج القيادة الفلسطينية من عمّان، إبّان القتال الذي وقع عام 1970.
(6)
على الرغم من كلّ الذي جاءت هذه السطور على ذكره عن إرث السودان في السطور السابقة، لافت ما قد يفسّر كشيءٍ من الاستخفاف المراسمي بقيادات السودان في هذه الفترة الانتقالية، في زياراتهم دولا عربية، فلا يتفضّل لاستقبال قيادات السودان الأولى الرصيفُ المناسب بروتوكوليا، بل يبعث بعضهم أخفّ الوزراء مسؤولية ليستقبل رئيسا سودانيا زائرا.
إن كانت اليد السفلى على أيام البشير قد أضاعت احترام الآخرين البلد، فالأجدر والمناسب أن تجد قيادات الحكومة الانتقالية، تلك التي جاءت بها الثورة، دفئا أكثر في التعامل بندّية وتقدير، ولو على الصعيد المراسمي. ليس في هذه المناشدة عتاب، بل محض تذكير بتقدير يستحقه الشعب السوداني الذي شهد له العالم بنبل ثورته وعظمها.
نقلا عن العربي الجديد