لماذا أعارض حكم المجلس العسكري الانتقالي (وأي مجلس عسكري آخر!)

 


 

 

 

 

 

مرة أخرى، رحم الله الدكتور عبدالله حسن إسحق. حين لاحظ كثرة برامج المنوعات والمسابقات الخفيفة في التلفزيون الفرنسي، قال بحكمته المعهودة وحسه الفكاهي الرفيع: "هلّا هلّا! الخواجات حلُّوا مشكلة العطش والسلم التعليمي وقعدوا يلعبوا!"

حكمنا (أو بالأصح "عكمنا") عمر البشير والحركة الإسلامية بمختلف المسميات، مسنودا بمعظم قيادات القوات المسلحة والشرطة وجهاز الأمن والمليشيات الحزبية المتنوعة، في الظل وفي وضح النهار، وأخيرا بما سمّي بقوات الدعم السريع، ثلاثة عقود حسوما، وفي يده مفاتيح خزائن الأرض، ومليارات الدولارات من مداخيل النفط والذهب، ومليارات الدولارات من القروض المجحفة الشروط، والمنح والهبات التي أراقت ماء وجه البلاد، وترليونات الجنيهات من إيرادات الضرائب والزكاة المفروضة على غير المنتمين للحركة والحزب، وجميع أموال المودعين في النظام المصرفي، وكل ما تنتجه مطابع العملة، وما زلنا لم نحل مشكلة العطش والسلم التعليمي! ما زال أطفال السودان، وقد توغل العالم في القرن الحادي والعشرين، يفتقدون المدارس، والمُعلم المُدرّب، والكتاب، وحتى المراحيض؛ وما زالت أحياء العاصمة القومية الطرفية والشعبية والراقية تشكو العطش معظم شهور السنة ولا تجد الماء (النظيف أو المخلوط بمياه الصرف الصحي) وهي تقع بين نهرين عظيمين، ناهيك عن مناطق السودان المختلفة المهملة. وتحت بصر وعلم (ومشاركة) دهاقنة الحركة الذين آذوا أسماعنا بالحديث عن "المشروع الحضاري"، وبعلم ومشاركة الجنرالات الذين يُحاضروننا اليوم عن "الأمن القومي" و"الفوضى"، أنفق نظام البشير ثروات السودان (أو ما تبقى منها بعد سرقة جُلِّها) إنفاقا فيه الكثير من السفه على الصروح الممردة والقصور المُذهبة والأندية الفاخرة، والسيارات المُصفحة، وعلى المنظمات الوهمية والمؤتمرات التي لا تنتهي إلا لتبدأ، وقبل ذلك، على أسلحة وأدوات القمع و"ثاتشرات" الدعم السريع، وعلى البروباقاندا ومكاتب العلاقات العامة الأجنبية، وشعب السودان لا يجد أبسط مقومات الرعاية الصحية في المستشفيات العامة، وفشلت حكوماته، على كافة المستويات، حتى في تصريف مياه الأمطار وجمع النفايات واالتخلص منها. أليس من المخجل أن يظل طريق مدني – الخرطوم منذ بنائه في بداية الستينات من القلرن الماضي "مصرانا" ضيقا لا يُمكن وضعه ضمن "الطرق السريعة" بأي حال من الأحوال (رغم مليارات النفط مجهولة المكان)
ومرة أخرى، رحم الله أخي إبراهيم (ناروس). حين سُئل عمّا إذا كان أحد أخواله مشلخا "سلِّم" أم "مطارق"، قال ببديهته الحاضرة أبدا: " هو أدّاني فرصة أشوف وشو؟ كلّما يشوفني، يرسلني مشوار!"

هذا حال شعب السودان مع الحكم الديموقراطي الذي بدونه لا تستقيم أحوال الأمم. حرمه العسكر من فرصة ممارسة الحكم الديوقراطي وتنميته والنمو فيه. انقضوا على النظام الديموقراطي الوليد بعد عامين ونيف من الإستقلال، وحكموا ستة أعوام. ثم انقضوا عليه بعد خمس سنوات من استعادة الديموقراطية بعد ثورة 1964، وحكموا 16 عاما. ثم انقضوا عليه بعد 4 أعوام أخرى من استعادة الحكم الديموقراطي بعد ثورة أبريل 1985 وحكموه ثلاث عقود حكما مجنونا نقض غزل البلاد، وشرد كوادرها، ,وأضعف قواتها المسلحة، وأهدر مقدراتها، وأضعف اقتصادها وعملتها، ورهنها للدائنين والطامعين. ويريدون الآن مواصلة الحكم بنفس الروح والوسائل من القصر المُذهّب الجديد، والكراسي التي تدل على فساد الذوق وفساد الفهم. لم تُتح لشعب السودان الصابر العظيم فرصة الممارسة الديموقراطية التي تُجنبه حكم الفرد، وحكم العسكر، وحكم النفوس المريضة التي لا تريد له الخير، لذلك خرج بالملايين يُطالب بحقوقه رغم البطش والقهر والتعذيب والسحل القتل.

أنا لا أرفض حكم العسكر (المحترفين والهواة) فقط لما ذكرته أعلاه، ولا ليقيني بأن سجلهم في حكم السودان، وفي حكم البلدان من حولنا، لا يترك لي ذرة شك في بطلانه وضيق أفقه وآثاره المُدمرة، بل أرفضه لأن العسكر، عموما، يؤمنون بأن في القوة الغاشمة والقهر الحل الشافي لكل المشاكل مهما بلغ تعقيدها. أنظر فقط في ما فعلوه في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق (وقبل ذلك في جنوب السودان). ولا شك عندي أن ربع ما صُرف من موارد على السلاح وتجييش المليشيات وشراء الذمم كان يكفي لتسوية هذه المشاكل التي قام بعضها على مطالب عادلة وأساسية تتعلق بالمشاركة في السلطة والثروة والخدمات الأساسية. وانظر الآن إلى استخدامهم للقوة الغاشمة والعنف الأعمى واللؤم في فض اعتصام جماهير شعب السودان المسالم المطالب بأبسط الحقوق أمام القيادة العامة ل"قوات الشعب"!

ومرة أخيرة، رحم الله خير الدين التونسي الذي كتب قبل ما يُقارب القرنين يقول: "لا تستقيم أحوال الممالك (البلدان) إلا بحسن الإمارة (الحكم الرشيد)، المتولد عنه الأمن، المتولد عنه الأمل، المتولد عنه اتّقان العمل"!

ولا صلة للعسكر ب"حسن الإمارة" وإن كانوا قد استمرأوا عيشة الملوك!

aelhassan@gmail.com

 

آراء