لهفي على علي عبد القادر

 


 

عوض محمد الحسن
22 September, 2022

 

حزنت أشد الحزن على رحيل أخي عليّ عبد القادر الذي غادرنا يوم الجمعة 17 سبتمبر الجاري، وأشتد حزني لأنه قُبض وقُبر بعيدا عن بلده الذي أحبه وخدمه بعلمه وفكره ووجدانه، بعيدا عن أهله وصحبه وطلابه، وعن شعبه الذي رآه وقد أهلكه طاعون أسود لا رحمة له بالبلاد والعباد، وحقد أعمى، وغِلُ دفين، وجهل لئيم يحاول هذّ المعبد على نفسه وعلى اهله (والحقيقة على أهله فقط). شقّ على عليّ أن يرى البلد الذي أحبّ يُدمر، والشعب الذي حمله في المآقي يُذل، فآثر النفي الاختياري طوال فترة ما يُسمى بنظام الإنقاذ حتى لاقى ربّه وهو في منفاه الاختياري، وفي نفسه حسرة، (لا شك عندي)، لهذا الخيار المر.
كان عليّ، رحمه الله، يُكرر أمام أصحابه وزواره مقولته المشهورة: "صاحب الوِداعة يشيل وِداعته"، وكأنه يستبطئ قيام صاحب الوداعة باسترجاع وداعته. حين رأيته لآخر مرة في داره في الدوحة قبل نحو عشر سنوات، قال لي ضاحكا (وجادا فيما أظن): "الحمد لله أنا حضرت 14 كاس عالم في حياتي، وبعد كده ممكن صاحب الوداعة يشيل وداعته!" وحين هاتفته قبل بضعة سنوات وذكرت له انه شهد دورتين إضافيتين لمنافسات كأس العالم، ردّ بسخريته المعهودة: "أنا كرهت كاس العالم مما البرازيل اتغلبت بي سبعة أقوان في عقر دارها!"
وحين لجأت اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة في أديس أبابا لعلي عبد القادر لتستفيد من علمه وخبرته في اقتصاديات التنمية، وأفريقيا تترنح تحت وطأة الأزمات الاقتصادية العالمية، وجور النظام الاقتصادي والمالي العالمي السائد آنذاك (ولا يزال)، هاتفته، ونصحته ب"طول البال" لعلمي بأن معظم المنظمات الدولية "جمال طين"، ولعلمي بأن علىّ، الأكاديمي الجاد، والمفكر الملتزم بقضايا وطنه وقارته، لا صبر له على "خرمجة" من سيجدهم أمامه في أديس أبابا. وبالفعل، لم يُعمّر عليّ كثيرا في اللجنة الاقتصادية لأفريقيا إذ سرعان ما استقال والتحق بالمعهد العربي للدراسات في قطر. وحين هاتفته لأقول له "ألم أقل لك؟"، ردّ بطريقته المعهودة: "والله حاولت أن أصلح ما أمكن لكن حين رأيت من حولي سعداء بالحال وأنا شقيّ به، قلت لنفسي، الناس ديل مبسوطين، وأنا الوحيد الذي يُعاني. من الأفضل أن أتركهم وألا أنغص عليهم عيشتهم، وأطلب الرزق في مكان آخر يستفيد من علمي"!
كان على "جعليّا" قُحّا (بالمعنى الإيجابي والتجريدي للصفة): كريم النفس واليد، شجاعا مقداما في قول الحق، بارّا بأهله، وفيا لأصدقائه وأصفيائه، ملتزما بقضايا شعبه وبضرورة تسخير ما أفاء الله عليه من علم وتجربة لمصلحة بلاده، زاهدا وراهبا في محراب العلم. وكان، رحمه الله، حلو المعشر، لا تملّ مجالسته وصحبته. كانت داره في القاهرة واحة تستظل بها الطيور المهاجرة والعابرة، الفارّة من جحيم جنون السودان تحت قبضة العسكر والمليشيات والحركات ، والمؤلفة قلوبهم، والطامعين دون حق، و"المستهبلين"، و"المتسلقين" لقطار الثورة"، والمتاجرين بقضية دارفور ومعاناة شعوبها، و"الفلول" الذين (لبدوا) حين هبت عواصف الثورة، و"استجاروا" بتركيا مستظلين بما نهبوا من خيرات السودان، ثم أطلّوا برؤوسهم حين رأوا تقاعس الثوار عن القصاص، وأصحاب المصالح الذين استباحوا موارد البلاد وثرواتها تحت حماية نظام الجراد الذي التهم الأخضر واليابس في "زلعة" عجيبة، ومن يحاولون الآن تزيين عقود الإنقاذ الثلاثة القبيحة بقدر مهول من "قلة الحيا" التي اشتهروا بها.
ما أحزنني أيضا أن علي عبد القادر (على تفرده) لا يُمثل حالة فردية نادرة، بل هو واحد من آلاف السودانيين العلماء والمهنيين والمبدعين الذين أنفقت عليهم الدولة ملايين الدولارات لتأهليهم وتعليمهم في مختلف بلاد العالم، والذين ركلهم نظام الإنقاذ في غِلٍ أعمى، وحاربهم في أرزاقهم وأرزاق ذويهم، مما أضطرهم لمغادرة بلادهم، يبحثون عن الرزق والحرية، ويفيدون البلاد في مشارق الأرض ومغاربها بعلمهم وبخبرتهم، وبأمانتهم العلمية والمهنية، وبعرقهم وجهدهم، وبإخلاصهم الذي حرمهم نظام أعماه الحقد والجهل من خدمة شعبهم. عشرات الآلاف من السودانيين أمثال بروفسور علي عبد القادر، يعيشون في خريف أعمارهم في المهاجر، يتوقون للعودة للبلاد وسداد دينهم، والبلاد تحت حكم التتار لا تريدهم، ولا تريد خدماتهم، ولا خبراتهم، ولا علمهم. يموتون الواحد تلو الآخر في منافيهم، يُوصي بعضهم بدفنه في بلاده التي لفظته حيّا، ويُدفن البعض الآخر حيث "استرد صاحب الوداعة وداعته"، وفي النفس شيء من حتى.
رحم الله علي عبد القادر وجعل البركة في رفيقة عمره هدى، وأبنائه وبناته، ومن تبقى من أهله، وفي زملاء دربه وطلابه وأصدقائه – وفوق كل شيء في العمل الصالح الذي تركه لنا في مساهماته المكتوبة والمسجلة، وفي ذكراه العطرة.

aelhassan@gmail.com

 

آراء