ليس انقلاباً ولا انقلابين وإنما عدة انقلابات 

 


 

 

لا تمنح النصوص الدستورية وحدها أصحاب القرار السياسي الرشد المطلوب لتنفيذ مطلوبات التحول السياسي، وتحقيق أهداف الانتقال، وإنما تقف كعلامات الطريق التي تساعد على ضبط الأداء وتشير إلى الاتجاه المطلوب، كما أنها لا تقي وحدها من الانحدار إن لم يلتزم السياسيون وأصحاب القرار بالقدر المناسب من الحكمة والقدرة على الرؤية السياسية الواضحة. ولا تزال عدد من الدول تحافظ على مستوى من الأداء السياسي المستنير رغم عدم إقرارها لدستور مدون، ويرجع ذلك بصورة أساسية إلى الحكمة التي يتمتع بها السياسيون ومعرفتهم لمواقع خطاهم. فعلى سبيل المثال فإن المملكة المتحدة رغم الأداء الراشد في ممارستها السياسية فليس لها مدونة موحدة باسم الدستور وإنما يعتمد دستورها على مجموعة من القوانين والسوابق والأعراف التي تحدد هيكل السلطات وطبيعة العلاقة بين الدولة والمواطنين، وعلى أثرها يتم إدارة شؤون الدولة.


بالنظر لمعظم الأداء في الفترة الانتقالية فقد جانبت القوى السياسية الرشد السياسي المطلوب منذ ابتدائها، وبدأ انقلاب ناعم دقت مارشاته مع بدء الفترة الانتقالية، فانتهكت نصوص الوثيقة الدستورية وأسس فيه وضع على خلاف مقتضياتها، وتم الانحراف عن الطريق الذي رسمته لتسيير الفترة الانتقالية لصالح فئات وقوى سياسية محددة. فلم يكن الانقلاب العسكري الأخير الذي دق عطر منشم بين المدنيين والعسكريين ، ولا الانقلاب الذي يسعى المجلس العسكري ومجموعات سياسية كانت بعيدة عن مشهد الثورة لفرضه، هي الانقلابات الوحيدة، وإنما سبقهما انقلاب حقيقي غير عنيف على النظام الذي أسست له الوثيقة الدستورية، وحين تبدأ سلسلة الانتهاكات فإن ذلك يسوغ لكل طرف أن يقود انتهاكاً على طريقته

بدأ انقلاب المجموعات السياسية في قوى الحرية والتغيير بالنكوص عن الالتزام الذي أغلظوا العهد بعدم مشاركة الأحزاب السياسية في السلطة الانتقالية، ونصت عليه الوثيقة الدستورية بأوضح خط على تشكيل مجلس الوزراء من رئيس وعدد من الوزراء لا يتجاوز العشرين من كفاءات وطنية مستقلة يُعينهم رئيس المجلس من قائمة مرشحي قوى إعلان الحرية والتغيير، إلا أن الواضح أن أطراف العملية السياسية لم يلتزموا هذا النهج وإنما فتحوا الباب واسعاً أمام الأحزاب السياسية لتزج بأعضائها في منظومة مجلس الوزراء وفي المناصب المختلفة في السلطة الانتقالية بغض النظر عن الكفاءات والخبرات والقدرات السياسية التي يتمتعون بها. ونجم عن هذا ضعف بين في الأداء التنفيذي للسلطة الانتقالية، رغم النجاحات التي تم تحقيقها في بعض الملفات.


واستتبع هذا الخرق خرق آخر للوثيقة الدستورية وتغيير النمط الذي وضعته بعد (90) يوماً من التوقيع عليها، باستلاب سلطة إصدار التشريعات وإضافتها لمجلسي السيادة والوزراء عوضاً عن تشكيل المجلس التشريعي الذي كان لزاماً دستورياً أن يتم تشكيله خلال هذه الفترة المذكورة، ومن ثم تولى الجهاز التنفيذي والجسم السيادي صلاحية التشريع وسقط أهم ركن لحوكمة إدارة الدولة بأن أصبح المنفذ هو المشرع، كما فقدت الفترة الانتقالية العين الرقيبة التي تحاسب الحكومة على أداء أعمالها وتوجهها للاتجاه الصحيح. فالرقابة البرلمانية أحد الضمانات اللازمة للحكم الرشيد، وآلية لا غنى عنها لضبط الأداء الحكومي ورفع مستوى جودته. فهي بما تمتلكه من صلاحيات للاطلاع على أداء الجهاز الحكومي وسياساته العامة، ومساءلة الوزراء عن إنجازهم لواجباتهم ونتائجها وإخضاعهم للمحاسبة، تمثل القوة الفاعلة في ترشيد العمل الحكومي وتصحيح مساره، باستخدام سلطات تصل إلى سقف سحب الثقة عن مجلس الوزراء أو عن أحد الوزراء.


بقدر ما أخل السقوط في إنشاء المجلس التشريعي بالوزنة التي صنعتها الوثيقة الدستورية، فقد أضاف لمجلس السيادة صلاحيات ضخمت من ذاته وجعلته يتمدد في فضاء يفوق سقف ما وضع له وجعل من أعضائه سواء كانوا عسكريين أو مدنيين مشرعين وأصحاب قرار نافذ، في حين أن المقاس الذي وضعتهم فيه الوثيقة الدستورية لا يعدو أن يكون إطاراً رمزياً. وبذلك أصبح مجلس السيادة دون داع مصدراً لأزمة. وقد استمعت للقاء الذي تم مع عضو مجلس السيادة السيد محمد الفكي سليمان على قناة السودان الفضائية والذي أوضح فيه ضيق الطريق الخانق الذي يمر عبره عمل مجلس السيادة وعدم قدرة المكون العسكري والمدني داخل المجلس على الوصول لأي اتفاق حول الموضوعات المطروحة، وضرب مثلاً بعدم قدرة المجلس على الاتفاق على رئيس للقضاء. وهذا المثال وحده يوضح مقدار الاستلاب الذي ظل يمارسه مجلس السيادة بشقيه المدني والعسكري، حيث أن صلاحية تعيين رئيس القضاء هي من اختصاص مجلس القضاء العالي واستلابها بواسطة المجلس السيادي هو أحد وجوه الانقلاب الناعم الممتد.


ثم سدر القوم في الانقلاب الناعم خلال العامين من عمر الفترة الانتقالية، بتغييب أي سلطة يمكن أن تقول (لا) أو تسحب الصلاحيات من النخبة الحاكمة. فغيبوا مجلس القضاء العالي صاحب الصلاحية في تعيين رئيس القضاء ونوابه ومالك السلطة في تسمية رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية. ومن ثم غدت كل المدة المنصرمة من عمر الانتقالية دون رقيب يملك حق الفصل الناجع في صحة الإجراءات والتشريعات التي يتخذها مجلس الوزراء أو مجلس السيادة.


كان يمكن أن تلعب المحكمة الدستورية دوراً حاسماً في حل النزاعات الدستورية التي تنشب بين فرقاء السلطة الحاكمة وتقلل من حالة الاحتقان الناشئ، بتوجيه بوصلة السلطة نحو الاتجاه الذي يتوافق مع ما تم الاتفاق عليه، باعتبارها الملاذ الآمن لاحتواء النزاع ووضع الكلمة الأقوى فيه. فهي صاحبة الاختصاص الأصيل في الفصل في المنازعات التي يحكمها الدستور، والنظر في دستورية القوانين، وقد ساهم تغييبها في زيادة القلق من تطاول الأزمة لعدم وجود جهة الفصل.


لا يمكن حل الأزمة الراهنة من خلال انتخابات مبكرة، فهذه تتطلب إعداداً قد يستغرق جزءاً من عمر الفترة الانتقالية المتبقية، ومن الأفضل الرجوع إلى منصة التأسيس وهي الوثيقة الدستورية وذلك بتشكيل مجلس وزراء من قدرات وكفاءات حقيقية غير حزبية، وتوسيع دائرة المشاركة في السلطة الانتقالية من خلال مجلس تشريعي موسع ويستوعب قطاعاً واسعاً من جماعات قوى الثورة، فيزيد من إسهام القوى السياسية في مسؤولية تولي شؤون الفترة الانتقالية ويعمل على إعادة ضبط دائرة السلطات، إضافة إلى إكمال البناء المؤسسي بما في ذلك مفوضية الانتخابات ومفوضية مكافحة الفساد ومفوضية الإصلاح القانوني ومفوضية العدالة الانتقالية وبقية المفوضيات الأخرى التي نصت عليها الوثيقة الدستورية، والمسارعة في إصدار قانون مجلس القضاء العالي رأس الرمح في إصلاح ميزان العدالة الذي يقوم عليه تشكيل المحكمة الدستورية.


وبالطبع فإن الأمر قبل ذلك يتطلب الحكمة التي تمنع من انزلاق البلاد إلى منحدر يصعب الخروج منه إلا بثمن وتكلفة باهظة


abuzerbashir@gmail.com

 

آراء