ليه السودان كان أحلى زمان؟

 


 

 

gush1981@hotmail.com
"كان زمان ندلى
لما كنا صغار
من فريع لي فريع
نطارد الأطيار"
كلما عادت بي الذاكرة إلى أيام الصبا الباكر في تلك القرية الوادعة من قرى شمال كردفان، تراءت لي تلك المرأة فارعة الطول، صارمة القسمات، كريمة الأصل، عمتنا زينب بت جماع، رحمها الله وغفر لها، فقد كانت مثالاً للكرم والأمومة بيد أنها لم تكن لها أطفال. كانت عمتنا زينب تعيش في كنف أخيها محمد ود جماع، الذي كان رجلاً ثرياً لا يبخل عليها بشيء. كان منزلهم في الطرف الشمالي الشرقي لقريتنا دميرة، وهو منزل كبير تحفه أشجار اللالوب والعلق الكبار، ولذلك كنا نلعب حول ذلك المكان، حيث كنا نتسلق تلك الأشجار ونطارد الطيور وعندما يحين منتصف النهار تخرج عمتنا زينب قدحاً مترعا بالطعام الذي يغطيه السمن البقري الصافي وتأمرنا بالأكل ونحن بدورنا لم نكن نعصي لها أمراً فهي إحدى النساء الموقرات في تلك القرية. هذه الصورة أو المثال يوضح كيف كان المجتمع السوداني متراحما، يوقر فيه الصغير الكبير، ويرحم الكبير الصغير بلا منٍ أو أذى.
مرت السنين وحملتنا اللواري إلى العاصمة حيث كان مجموعة من شباب منطقتنا يعلمون في الوظائف العامة ويسكنون في منزل بالحارة التاسعة في حي الثورة بأم ردمان. كان ذلك البيت قبلة لكل قادم من المنطقة بسبب التجارة أو الدراسة أو العلاج. وهذا أمر طبيعي أن يحل الضيوف بتلك "المنزلة" لكن اللافت للنظر أن أهل الحارة التاسعة صاروا يتعاملون معنا كجزء منهم، ففي رمضان كانت ترفع إلينا "الصواني" من فوق الحائط إذا لم تقدم لنا الدعوة لتناول الإفطار مع الجيران. ليس هذا فحسب فعندما تزوج الأخ محمد عبد الرحمن مسلم من إحدى حسناوات ذلك الحي، رقص كل السكان على أيقاع الجراري الذي قدمه عبد الرحمن عبد الله، وطربت الحسان لغناء عبد القادر سالم على إيقاع المردوم، وأستطيع القول إن السودان كله قد اجتمع تلك الليلة.
هذا الشعب فريد في طباعه وكرمه ولكن يبدو أن الأمور آخذة في التغير إلى الأسوأ وقد بدأت تلك الصور الجميلة تختفي من حياتنا بسبب مستجدات لم تكن معروفة في السودان فلم تعد الدار كما كانت ولا الجيران، ولا حتى طبائع الناس. كل شيء في بلادنا كان له مذاق خاص وجميل، كان كل الناس يفرحون معاً ويحزنون معاً، دون تفريق بين بعضهم البعض. بالطبع السبب ليس هو المدنية ولا التطور فكل هذه الأمور لا يعرفها المجتمع السوداني، ولكن دخلت عوامل غيرت نمط حياتنا وعلاقاتنا رأساً على عقب.
رحم الله الناصر قريب الله القائل:
يا ديارا إذا حننت اليها فحنين السجين للترحال
لست انساك والبروق تجاوبن وروح النهار في اضمحلال
وكأن السحاب ضاق به الجو فانخي عليْ بالإقبال
يتنادى كأن كل هزيم صائحا بالمسافرين عجال
ليه السودان كان أحلى زمان؟ هل من سبب أو هل من مجيب؟
///////////////////////////

 

آراء