ماذا لو؟ …. قصة قصيرة
طه جعفر الخليفة
4 March, 2024
4 March, 2024
طه جعفر الخليفة
حوله مساحات خضراء. تنتشرُ فيها أشجارٌ لا يعرف أسمائها، لكنها خضراء و عنيدة. أوقف سيارته علي جانب الطريق. نزل ليتمشي كما يفعل الكثيرون في هذه الحقول القريبة من وسط المدينة التي هاجر إليها من جحيم الوطن. مهاجر متزوج من مواطنة، أحبته، جذبَه حبُها له جذباً ،لم يكن عنده من تصوّر للنعيم أبهى من فكرة الحياة معها. كانت الرواء للصحراء التي نشأت معه في صدره منذ الصغر.كانت رايتشل النعومة ، لِين الجانب و حسن المعشر الذي تغني به الشعراء. هي أغنية و خليط من أعراق
نشأ هناك في بيت مكتظ بالإخوة و أبناء العمومة و الخؤولة، نشأ في مدينة لا يطرق الزوار فيها الأبواب عادة. يتشارك فضاء الغرفة مع من هو متاح للأنس من الأخوة و الأهل. درس كغيره في مدرسة الحي الإبتدائية ثمّ المدرسة المتوسطة التي تبعد قليلا عن البيت و بعدها في المدرسة الثانوية التي لا تبعد كثيراً عن مدرسته المتوسطة. لم يكن له موقف محدد من طابور الصباح أو إنشاد نشيد العلم أو مع العقوبة إذا تكلّم لغته. تتبع مع أقرانه خلال المدرسة الثانوية خطو الجميلات من طالبات المدرسة الثانوية عالية الحيطان. يتسبب كغيره بفكرة أن التسالي و الفول أجود عند البائعات في ظلال الإشجار القريبة من حيطان المدرسة الثانوية التي تضم فتيات المدينة مع أحلامه بهن. البائعات من فتيات ونساء الهوسا ، البرنو و أهل كردفان و دارفور. لم يكن يذهب للسباحة في النهر مع من يذهبون من أقراته. كان أن مات عمّه الشاب غرقاً فمنعت الأمهات ،الخالات، العمّات و الجدات في بيتهم السباحة. ممنوعٌ من السباحة، هذا ما يعرفه. إسمه محمد فاضل
خرج من البيت لأنها عطلة نهاية الأسبوع. و لم يرد إزعاج بناته فاطمة و عائشة ، أولاده سامي و نادر و زوجته من نومتهم الصباحية المتطاولة في أيام السبت. لذلك اشتري قهوته و جاء هنا. و السبب الثاني هو ذلك الحُلْم الذي دهمه قبل أن يستيقظ. رآها في منامه، ندية و مزهرة كنبتة يانعة. ضحكت سعيدةً من الفرح بلقائه، ضحكت بصوت فيه حنان دافق، عضّت حلمة أذنه كما فعلت و هما يافعان، في قُبلَتها الطائشة تلك، تذكر دفْعَه لها، و تذكر ملمس نهدها الرخو ذاك، تذكر فوران بطنها عليه، كانت محتشدة بطاقة مرعبة، طاقة ستسوقه للمهالك إن تمادي معها. جاءه طيفها تحفه عطور الذكريات المباغتة. ظلل طيفُها صباحه بالأسئلة. كانت تعرف أنه لا يستطيع سبيلاً إلي مُرادها، كانت تعرف أيضا أنها ستعجز عن مواصلة ما بدأت. كما أخبرته لاحقاَ لكنه جنون اليفاعة و الشهوات التي لا حبال لربطها و لا عزيمة. قال لنفسه إنه الحب في زمن الخصاء المبرر بالعادات و الدين. و بين زفرات حَرّي قال بصوت مسموع" ليتها حصلت ، كانت ستكون تجربة مكتملة، لا يهم أن تكون خاطئة " قالها كالذي يتكلم مع الشجرة التي يتكيء عليها
هذا الحلم جعله يتذكر حوادث أخري مشابهة أمسكته عن الذهاب نحو إتمامها قيّم و إشتراطات كانت في ذلك الزمن أبدية بالنسبة له. قالت له " يمكنني أن أُرِيكَه" و هما يضيفان الأسماء لأجزاء جهاز المرأة التناسلي الخارجي في رسم توضيحي بكتاب العلوم. تذكر كيف أجفلته تلك العبارة عن الكرسي و فرّ تاركا المذاكرة و ناسياً أمر الإمتحان في اليوم التالي، لم يفكر في أنها ربما أرادت أن تُرِيه كيف لا يشبه الرسم عضوها. تذكرها شهِّية و نادِية بحمام مُغرِبها و جلدها الناعم الرقيق. لم ينتبه للدموع التي جلّلت بالحزن خدَيه. أعتذر لطيف رايتشل المارّ أمامه بين الراكضات و الراكضين صباحاَ عن شقاوات اليفاعة و الصبا.
ترك ذلك الخيط من الذكريات بغضب. أكمل آخر الرشفات من كوب قهوته الورقي. إتجه نحو السوبراستوور.
في هذا المساء كما أخبره ولده الكبير، ستزورهم صديقته آلينا، صديقته من المرحلة الثانوية و التي تدرس معه الآن في الجامعة. إحتفت بنتاه و ولده الأصغر بمقدم صديقة أخوهم. و طلبت منه زوجته الطبخ للعشاء في أمسية السبت و شراء النبيذ. قرر أن ينضج لهم اللحم مُحمّراً. و أن يطبخ سمكاً في الفُرْن و يجهّز السلطات البيضاء و الخضراء. و أن يقول لرايتشل أن تجهز لهم تحْلِية.
بيتهم كبير، و فيه غرفتان بالطابق السفلي و أربعة غرف في الطابق العلوي. لم تكن هنالك مشكلة في المكان لضيف زائر.
تذكر كيف كلمّه إبنه عن حبيبته و كيف هي كريمة الخصال و جميلة. كان يعرفها فهي من بنات الناحية، أصولها من أسبانيا و في طول ابنه.
تذكر الأخبار التي جعلته يطفيء كمبيوتره المحمول:
"تعيش قرى وبلدات ولاية الجزيرة وسط السودان حالة من الهلع والخوف منذ ان سيطرت قوات الدعم السريع عليها قبل ثلاثة أشهر، وخصوصا بعد انقطاع الاتصالات عنها منذ شهر"
جبرة الشيخ: 1مارس 2024:راديو دبنقا
قتل الطفل عمر حسين بلة اغيبش ( 7سنوات) و جرح خمسة من أفراد أسرته و آخرين بجروح متفاوتة، جميعهم نساء و أطفال، جراء غارات جوية نفذها الطيران الحربي التابع للجيش على منطقة جبرة الشيخ في شمال كردفان مساء الخميس
نعيمة : 2 مارس 2024: (راديو دبنقا )
قتل مواطن مدني وجرح اخرين في قصف جوي بالطيران التابع للجيش على مدينة نعيمة بمحلية القطينة شمال ولاية النيل الأبيض صباح السبت 2 مارس . وادت الغارة الجوية بالبراميل المتفجرة لتدمير كامل لعدد من المنازل والمحال بمدينة نعيمة وقال حزب الامة القومي في بيان يوم السبت إن منطقة نعيمة التي استهدفها الطيران لا تتواجد فيها أي مظاهر عسكرية لقوات الدعم السريع حاليا بحسب إفادة المواطنين بالمحلية .
تذكر الأخبار و هو يدفع عربة التسوق نحو المحاسب.
إلتفت نحوه إمرأةٌ في عمر أمّه مبتسمةً و قالت " هل الأمور علي ما يرام"
إنتبه لأنه قال بصوت مسموعٍ ربما نوع من الكلام الحزين. رد عليها بصدق " تذكرت شيئاً" انصرفت عنه المرأة بعد أن كسته بنظرة تعاطف كادت أن تجعله يبكي.
قبل أيام قالت له رايتشل في كل يوم تزداد صمتاً، توقفت عن عزف الجيتار و لم تعد تقرأ، و لم نعد نسمع معك الأغنيات ،أعتقد أنه من الأفضل أن نذهب لطبيب الأسرة. طلب منها قبل ذلك ألا تقول للأولاد شيئاً عن الحرب في السودان و فظاعاتها. لم توافق و لكنها قبلت بإقتراحه علي مضض.
خلال زواجهما زارت معه دُنقلا و أحبتها. لا تتوقف عن جعل زائريها يشاهدون معها صور مدينة دُنقلا. السوق، البيوت و ضفة النيل ، مراكب الصيد، المواقع الآثارية القريبة و الحقول. كانت فخورة بالسودان و أهله. أحبت السودانيين أكثر أيام إعتصام القيادة و أيام منازلة السلطة العسكرية. غضبت من الحرب و كرهت المجرمين الذين أرتكبوا الفظاعات التي هزّت ضمير الإنسانية.
قرّر و هو في طريقه للبيت أن يتكلم مع رايتشل عمّا يحسّه حقيقة و كيف يري هذه الحرب. إستتفه الفكرة عندما تذكر الزائرة و فرح بناته بزيارتها. قرر أن يفعل ذلك في وقت آخر. قرّر ألا يفسد عطلة نهاية الأسبوع. أثناء الطبخ تناول كأسات من من الويسكي الذي يتخلل مكعبات الثلج و يلوّنها ببريق الذهب. جهّز القهوة و وجبة الصباح، غسل الصحون و شرع في تجهيز طعام العشاء.البنتان و الولدان يصحون في أوقات مختلفة و تنتشر في المكان عبارات
Good morning dad.
Did you have a good sleep?
Any plans for the weekend?
بادلهم تحيات الصباح الناعسة.
ثم عصقت برأسه الذكريات من جديد.
لم يكن والده يوقظهم لصلاة الصبح كبقية الآباء. لم يكن يضيّق عليهم. لكنه كان كغيره من الآباء في إكتراء الخدم المنزلي، عدم الإهتمام بالنازحين من دارفور و جنوب كردفان و الجنوبيين. لم يكن أيضاً يعترض علي النكات العنصرية التي تقال في أي مجلس لا يهم عزاءَ كا ن أو كرامة حج أو لمة فرح.
نشط أبوه في تنظيم حزب الأمة. كان مسؤلاً في مكتب الحزب بالمدينة. لم يكن أنصارياً بالرغم من حضوره لإحتفالاتهم و مناسباتهم. في أسرته شيوعيون، جمهورين و مستقلون و ليس بينهم أخ مسلم.
إبستم لذكري والده و هو يُحمسّهم لقراءة تاريخ الحركة الوطنية. ترّحم عليه و إفتقده. تذكر أخته زينب و أصرارها علي محو أمّية أمّهم لتستمع بقراءة مجلات صباح الخير، الإذاعة و التلفزيون و المسرح و الجرائد و مجلات المصوّر و آخر ساعة و روز اليوسف. لم يكن والدهم يحب المجلات المصرية ولا مصر، لكن لم يكن غيرها في السوق ليقرأه. تذكر حرصه علي شراء مجلات ميكي و سمير و الألغاز و مجلتي الكواكب و سّمْر.
سأل نفسه. ماذا فَعَلْت من أجل بلد الحقوق المتساوية و التنمية المتوازنة و الحرّيات؟
لم يكن منتبها لما يدور حوله، إنتبه فقط للضجيج الذي أعلن قدوم الزائرة. تتبع رايتشل ألي الباب ليستقبلا آلينا صديقة ابنهم سامي. قبّلت سامي و وزعت عطر أحضانها علي الجميع.
نزل الأولاد للطابق السفلي يتصايحون. قالت رايتشل مبتسمة كيف حالك اليوم؟ هل من أخبار؟
قال: أنا بخير، لكن الأخبارأسوأ من الأمس
قالت: لا جديد بعد زياراتهم لليبيا و مصر، زفرت زفرة حسرة
قال: أعتقد أنها زيارات من أجل شراء الأسلحة
قالت: أراك قد بدأت الشرب مبكرا.
ابتسم و قال : إنها عطلة نهاية الأسبوع.
أندفعت في تلك اللحظة موجات معربدة و باحثة عن الدفء.
كان المكان هاديء و خلواً من الأولاد. قبّلها، أطفأ الطابخة و الفرْن. أمسك بيدها وصعدا الدرج إلي غرفتهما. أحتشدت في جسده رغبة عارمة و لهفة للإرواء.
و هما ممدان بعد ذلك قال: لن أذهب لطبيب الأسرة لكنني سأقول لك كل شيء عن الحرب و أشرح لك كيف كنت مسؤلاً عنها و كيف عجز جيلنا و الأجيال قبلي و بعدي في منع قيامها.
قالت: هذا النوع من التفكير هو ما يجعلني مصرّة علي الذهاب لطبيب الأسرة و طلب التحويل لإختصاصي نفسي، فقط من أجل أعطائك فرصة ً للكلام بحرّية. ما اعرفه أنك لست مسؤلا عن هذه الحرب. قالت ذلك بحزن
ساد صمت بعد ذلك.
قالت: الأولاد يعرفون عن كل شيء. طلب مني نادر أن أقول لك أنهم يريدون زيارة أهلك في القاهرة.
قال: حتي فاطمة و عائشة تعرفان؟
قالت نعم: سامي يعرف كيف يوضح لهن الأخبار التي تصادفهما في الأنترنت. طَلبْتُ منهم ألا يتكلموا معك عنها لأنك حزين جدا و متألم.
إنشغال الأولاد في الطابق السفلي وفّر لهم فرصة.
قال: أحتاج أن أتكلم. أحسّ بأنني أحتاج أن أتكلم لفترة طويلة و أقول كلاماً كثيراَ.
قالت: سأسمعك.
إتفقا علي السفر في عطلة الأسبوع القادمة. و اتفقا علي مقابلة مستشار نفسي عربي و يا حبذا لو كان سودانياً.
لم يمرّ الأسبوع سريعا علي محمد فاضل. يقرأ الأخبار كل يوم من الراكوبة، راديو دبنقا ، مداميك، التغيير و سودانيزاونلاين. الأخبار لا تسر و الحرب مستمرة. لا إحتجاجات في الشوراع. السوشيال ممتلئة بالكذابين من الطرفين. الإحساس بالعجز زائد. التشكك في جدوي أي شيء ماثل. لم يعد محمد فاضل يستمع للأغنيات كما في السابق. تشكلت حفرة في داخله في المكان الذي كان يشغله حب البلد و الناس و الشوق لتفاصيله. يزداد إنفصاله عن ماضيه يوما بعد يوم.
في أحد الأيام تذكر تعلقه ببنت النوير نياكيم. كانت تبيع العرقي في واحدة من بنايات وسط الخرطوم . يسافر إلي دُنقلا و يعود بعد أشهر. مات زوجها في الحرب و ترك لها أبناء لتربيهم كنازحة. تبيع العرقي عندما تهدأ أمور شرطة النظام العام و هي عاملة نظافة في وزارة الرّي. إشتاق لها و هو في دُنقلا و إشتهاها. لم تكن هنالك وسيلة للإتصال بها ليُفَرّج عن نفسه كُرْبة الشوق لها. جاء بعد الإجازة. المشوار لمكانها من داخلية تهراقا ليس بعيداّ. وصلها بعد المغرب بقليل. سدد ديونه و أعطاها سعر ما يريده اليوم و سألها عن أحوالها و أحوال الأولاد و العمل. يسلم عليها في كل مرة و يقول لها و الله مشتاقين يا نياكيم كرر ذلك كثير. تفاجأ عندما قالت له: انت بدل مشتاقين مشتاقين دا ما تجي ترقد جمبي هنا. تذكر حلاوة عناقها و رائحة عرقها بالمجيد ذاك. لم تكن متعطرة بغير أريج الصابون و قليل من المسك. كانت تظلل سريرهم المتهتك سحبُ الحرّية الجمال. طفرت من عينيه دمعات بكي بهن الجنوب و نياكيم.
تذكر إغلاق الجامعة المتكرر أيام دراسته. تذكر عنف الإتجاه الإسلامي ضد الطلاب من التنظيمات الأخري. تذكر قوانين الشريعة. تذكر عندما تم جلده بالقسم الأوسط جراء شُرْب العرقي. تذكر حرب الجنوب. تذكر مآسي دارفور. و قرر ألا يزعج هدوء رايتشل بالنقاش و يمضي نحو خطتها لمقابلة الإستشاري النفسي.
قررأن يستمتع برفقتها في عطلة نهاية الأسبوع. و يتناسي أمر الحرب و يترك الوطن في تلك الحُفرة التي تشكلت في داخله، علّه يتعفن هناك ويموت و ينبت في مكانه نبت مختلف.
طه جعفر الخليفة
اونتاريو – كندا
3 مارس 2024م
taha.e.taha@gmail.com
///////////////////
حوله مساحات خضراء. تنتشرُ فيها أشجارٌ لا يعرف أسمائها، لكنها خضراء و عنيدة. أوقف سيارته علي جانب الطريق. نزل ليتمشي كما يفعل الكثيرون في هذه الحقول القريبة من وسط المدينة التي هاجر إليها من جحيم الوطن. مهاجر متزوج من مواطنة، أحبته، جذبَه حبُها له جذباً ،لم يكن عنده من تصوّر للنعيم أبهى من فكرة الحياة معها. كانت الرواء للصحراء التي نشأت معه في صدره منذ الصغر.كانت رايتشل النعومة ، لِين الجانب و حسن المعشر الذي تغني به الشعراء. هي أغنية و خليط من أعراق
نشأ هناك في بيت مكتظ بالإخوة و أبناء العمومة و الخؤولة، نشأ في مدينة لا يطرق الزوار فيها الأبواب عادة. يتشارك فضاء الغرفة مع من هو متاح للأنس من الأخوة و الأهل. درس كغيره في مدرسة الحي الإبتدائية ثمّ المدرسة المتوسطة التي تبعد قليلا عن البيت و بعدها في المدرسة الثانوية التي لا تبعد كثيراً عن مدرسته المتوسطة. لم يكن له موقف محدد من طابور الصباح أو إنشاد نشيد العلم أو مع العقوبة إذا تكلّم لغته. تتبع مع أقرانه خلال المدرسة الثانوية خطو الجميلات من طالبات المدرسة الثانوية عالية الحيطان. يتسبب كغيره بفكرة أن التسالي و الفول أجود عند البائعات في ظلال الإشجار القريبة من حيطان المدرسة الثانوية التي تضم فتيات المدينة مع أحلامه بهن. البائعات من فتيات ونساء الهوسا ، البرنو و أهل كردفان و دارفور. لم يكن يذهب للسباحة في النهر مع من يذهبون من أقراته. كان أن مات عمّه الشاب غرقاً فمنعت الأمهات ،الخالات، العمّات و الجدات في بيتهم السباحة. ممنوعٌ من السباحة، هذا ما يعرفه. إسمه محمد فاضل
خرج من البيت لأنها عطلة نهاية الأسبوع. و لم يرد إزعاج بناته فاطمة و عائشة ، أولاده سامي و نادر و زوجته من نومتهم الصباحية المتطاولة في أيام السبت. لذلك اشتري قهوته و جاء هنا. و السبب الثاني هو ذلك الحُلْم الذي دهمه قبل أن يستيقظ. رآها في منامه، ندية و مزهرة كنبتة يانعة. ضحكت سعيدةً من الفرح بلقائه، ضحكت بصوت فيه حنان دافق، عضّت حلمة أذنه كما فعلت و هما يافعان، في قُبلَتها الطائشة تلك، تذكر دفْعَه لها، و تذكر ملمس نهدها الرخو ذاك، تذكر فوران بطنها عليه، كانت محتشدة بطاقة مرعبة، طاقة ستسوقه للمهالك إن تمادي معها. جاءه طيفها تحفه عطور الذكريات المباغتة. ظلل طيفُها صباحه بالأسئلة. كانت تعرف أنه لا يستطيع سبيلاً إلي مُرادها، كانت تعرف أيضا أنها ستعجز عن مواصلة ما بدأت. كما أخبرته لاحقاَ لكنه جنون اليفاعة و الشهوات التي لا حبال لربطها و لا عزيمة. قال لنفسه إنه الحب في زمن الخصاء المبرر بالعادات و الدين. و بين زفرات حَرّي قال بصوت مسموع" ليتها حصلت ، كانت ستكون تجربة مكتملة، لا يهم أن تكون خاطئة " قالها كالذي يتكلم مع الشجرة التي يتكيء عليها
هذا الحلم جعله يتذكر حوادث أخري مشابهة أمسكته عن الذهاب نحو إتمامها قيّم و إشتراطات كانت في ذلك الزمن أبدية بالنسبة له. قالت له " يمكنني أن أُرِيكَه" و هما يضيفان الأسماء لأجزاء جهاز المرأة التناسلي الخارجي في رسم توضيحي بكتاب العلوم. تذكر كيف أجفلته تلك العبارة عن الكرسي و فرّ تاركا المذاكرة و ناسياً أمر الإمتحان في اليوم التالي، لم يفكر في أنها ربما أرادت أن تُرِيه كيف لا يشبه الرسم عضوها. تذكرها شهِّية و نادِية بحمام مُغرِبها و جلدها الناعم الرقيق. لم ينتبه للدموع التي جلّلت بالحزن خدَيه. أعتذر لطيف رايتشل المارّ أمامه بين الراكضات و الراكضين صباحاَ عن شقاوات اليفاعة و الصبا.
ترك ذلك الخيط من الذكريات بغضب. أكمل آخر الرشفات من كوب قهوته الورقي. إتجه نحو السوبراستوور.
في هذا المساء كما أخبره ولده الكبير، ستزورهم صديقته آلينا، صديقته من المرحلة الثانوية و التي تدرس معه الآن في الجامعة. إحتفت بنتاه و ولده الأصغر بمقدم صديقة أخوهم. و طلبت منه زوجته الطبخ للعشاء في أمسية السبت و شراء النبيذ. قرر أن ينضج لهم اللحم مُحمّراً. و أن يطبخ سمكاً في الفُرْن و يجهّز السلطات البيضاء و الخضراء. و أن يقول لرايتشل أن تجهز لهم تحْلِية.
بيتهم كبير، و فيه غرفتان بالطابق السفلي و أربعة غرف في الطابق العلوي. لم تكن هنالك مشكلة في المكان لضيف زائر.
تذكر كيف كلمّه إبنه عن حبيبته و كيف هي كريمة الخصال و جميلة. كان يعرفها فهي من بنات الناحية، أصولها من أسبانيا و في طول ابنه.
تذكر الأخبار التي جعلته يطفيء كمبيوتره المحمول:
"تعيش قرى وبلدات ولاية الجزيرة وسط السودان حالة من الهلع والخوف منذ ان سيطرت قوات الدعم السريع عليها قبل ثلاثة أشهر، وخصوصا بعد انقطاع الاتصالات عنها منذ شهر"
جبرة الشيخ: 1مارس 2024:راديو دبنقا
قتل الطفل عمر حسين بلة اغيبش ( 7سنوات) و جرح خمسة من أفراد أسرته و آخرين بجروح متفاوتة، جميعهم نساء و أطفال، جراء غارات جوية نفذها الطيران الحربي التابع للجيش على منطقة جبرة الشيخ في شمال كردفان مساء الخميس
نعيمة : 2 مارس 2024: (راديو دبنقا )
قتل مواطن مدني وجرح اخرين في قصف جوي بالطيران التابع للجيش على مدينة نعيمة بمحلية القطينة شمال ولاية النيل الأبيض صباح السبت 2 مارس . وادت الغارة الجوية بالبراميل المتفجرة لتدمير كامل لعدد من المنازل والمحال بمدينة نعيمة وقال حزب الامة القومي في بيان يوم السبت إن منطقة نعيمة التي استهدفها الطيران لا تتواجد فيها أي مظاهر عسكرية لقوات الدعم السريع حاليا بحسب إفادة المواطنين بالمحلية .
تذكر الأخبار و هو يدفع عربة التسوق نحو المحاسب.
إلتفت نحوه إمرأةٌ في عمر أمّه مبتسمةً و قالت " هل الأمور علي ما يرام"
إنتبه لأنه قال بصوت مسموعٍ ربما نوع من الكلام الحزين. رد عليها بصدق " تذكرت شيئاً" انصرفت عنه المرأة بعد أن كسته بنظرة تعاطف كادت أن تجعله يبكي.
قبل أيام قالت له رايتشل في كل يوم تزداد صمتاً، توقفت عن عزف الجيتار و لم تعد تقرأ، و لم نعد نسمع معك الأغنيات ،أعتقد أنه من الأفضل أن نذهب لطبيب الأسرة. طلب منها قبل ذلك ألا تقول للأولاد شيئاً عن الحرب في السودان و فظاعاتها. لم توافق و لكنها قبلت بإقتراحه علي مضض.
خلال زواجهما زارت معه دُنقلا و أحبتها. لا تتوقف عن جعل زائريها يشاهدون معها صور مدينة دُنقلا. السوق، البيوت و ضفة النيل ، مراكب الصيد، المواقع الآثارية القريبة و الحقول. كانت فخورة بالسودان و أهله. أحبت السودانيين أكثر أيام إعتصام القيادة و أيام منازلة السلطة العسكرية. غضبت من الحرب و كرهت المجرمين الذين أرتكبوا الفظاعات التي هزّت ضمير الإنسانية.
قرّر و هو في طريقه للبيت أن يتكلم مع رايتشل عمّا يحسّه حقيقة و كيف يري هذه الحرب. إستتفه الفكرة عندما تذكر الزائرة و فرح بناته بزيارتها. قرر أن يفعل ذلك في وقت آخر. قرّر ألا يفسد عطلة نهاية الأسبوع. أثناء الطبخ تناول كأسات من من الويسكي الذي يتخلل مكعبات الثلج و يلوّنها ببريق الذهب. جهّز القهوة و وجبة الصباح، غسل الصحون و شرع في تجهيز طعام العشاء.البنتان و الولدان يصحون في أوقات مختلفة و تنتشر في المكان عبارات
Good morning dad.
Did you have a good sleep?
Any plans for the weekend?
بادلهم تحيات الصباح الناعسة.
ثم عصقت برأسه الذكريات من جديد.
لم يكن والده يوقظهم لصلاة الصبح كبقية الآباء. لم يكن يضيّق عليهم. لكنه كان كغيره من الآباء في إكتراء الخدم المنزلي، عدم الإهتمام بالنازحين من دارفور و جنوب كردفان و الجنوبيين. لم يكن أيضاً يعترض علي النكات العنصرية التي تقال في أي مجلس لا يهم عزاءَ كا ن أو كرامة حج أو لمة فرح.
نشط أبوه في تنظيم حزب الأمة. كان مسؤلاً في مكتب الحزب بالمدينة. لم يكن أنصارياً بالرغم من حضوره لإحتفالاتهم و مناسباتهم. في أسرته شيوعيون، جمهورين و مستقلون و ليس بينهم أخ مسلم.
إبستم لذكري والده و هو يُحمسّهم لقراءة تاريخ الحركة الوطنية. ترّحم عليه و إفتقده. تذكر أخته زينب و أصرارها علي محو أمّية أمّهم لتستمع بقراءة مجلات صباح الخير، الإذاعة و التلفزيون و المسرح و الجرائد و مجلات المصوّر و آخر ساعة و روز اليوسف. لم يكن والدهم يحب المجلات المصرية ولا مصر، لكن لم يكن غيرها في السوق ليقرأه. تذكر حرصه علي شراء مجلات ميكي و سمير و الألغاز و مجلتي الكواكب و سّمْر.
سأل نفسه. ماذا فَعَلْت من أجل بلد الحقوق المتساوية و التنمية المتوازنة و الحرّيات؟
لم يكن منتبها لما يدور حوله، إنتبه فقط للضجيج الذي أعلن قدوم الزائرة. تتبع رايتشل ألي الباب ليستقبلا آلينا صديقة ابنهم سامي. قبّلت سامي و وزعت عطر أحضانها علي الجميع.
نزل الأولاد للطابق السفلي يتصايحون. قالت رايتشل مبتسمة كيف حالك اليوم؟ هل من أخبار؟
قال: أنا بخير، لكن الأخبارأسوأ من الأمس
قالت: لا جديد بعد زياراتهم لليبيا و مصر، زفرت زفرة حسرة
قال: أعتقد أنها زيارات من أجل شراء الأسلحة
قالت: أراك قد بدأت الشرب مبكرا.
ابتسم و قال : إنها عطلة نهاية الأسبوع.
أندفعت في تلك اللحظة موجات معربدة و باحثة عن الدفء.
كان المكان هاديء و خلواً من الأولاد. قبّلها، أطفأ الطابخة و الفرْن. أمسك بيدها وصعدا الدرج إلي غرفتهما. أحتشدت في جسده رغبة عارمة و لهفة للإرواء.
و هما ممدان بعد ذلك قال: لن أذهب لطبيب الأسرة لكنني سأقول لك كل شيء عن الحرب و أشرح لك كيف كنت مسؤلاً عنها و كيف عجز جيلنا و الأجيال قبلي و بعدي في منع قيامها.
قالت: هذا النوع من التفكير هو ما يجعلني مصرّة علي الذهاب لطبيب الأسرة و طلب التحويل لإختصاصي نفسي، فقط من أجل أعطائك فرصة ً للكلام بحرّية. ما اعرفه أنك لست مسؤلا عن هذه الحرب. قالت ذلك بحزن
ساد صمت بعد ذلك.
قالت: الأولاد يعرفون عن كل شيء. طلب مني نادر أن أقول لك أنهم يريدون زيارة أهلك في القاهرة.
قال: حتي فاطمة و عائشة تعرفان؟
قالت نعم: سامي يعرف كيف يوضح لهن الأخبار التي تصادفهما في الأنترنت. طَلبْتُ منهم ألا يتكلموا معك عنها لأنك حزين جدا و متألم.
إنشغال الأولاد في الطابق السفلي وفّر لهم فرصة.
قال: أحتاج أن أتكلم. أحسّ بأنني أحتاج أن أتكلم لفترة طويلة و أقول كلاماً كثيراَ.
قالت: سأسمعك.
إتفقا علي السفر في عطلة الأسبوع القادمة. و اتفقا علي مقابلة مستشار نفسي عربي و يا حبذا لو كان سودانياً.
لم يمرّ الأسبوع سريعا علي محمد فاضل. يقرأ الأخبار كل يوم من الراكوبة، راديو دبنقا ، مداميك، التغيير و سودانيزاونلاين. الأخبار لا تسر و الحرب مستمرة. لا إحتجاجات في الشوراع. السوشيال ممتلئة بالكذابين من الطرفين. الإحساس بالعجز زائد. التشكك في جدوي أي شيء ماثل. لم يعد محمد فاضل يستمع للأغنيات كما في السابق. تشكلت حفرة في داخله في المكان الذي كان يشغله حب البلد و الناس و الشوق لتفاصيله. يزداد إنفصاله عن ماضيه يوما بعد يوم.
في أحد الأيام تذكر تعلقه ببنت النوير نياكيم. كانت تبيع العرقي في واحدة من بنايات وسط الخرطوم . يسافر إلي دُنقلا و يعود بعد أشهر. مات زوجها في الحرب و ترك لها أبناء لتربيهم كنازحة. تبيع العرقي عندما تهدأ أمور شرطة النظام العام و هي عاملة نظافة في وزارة الرّي. إشتاق لها و هو في دُنقلا و إشتهاها. لم تكن هنالك وسيلة للإتصال بها ليُفَرّج عن نفسه كُرْبة الشوق لها. جاء بعد الإجازة. المشوار لمكانها من داخلية تهراقا ليس بعيداّ. وصلها بعد المغرب بقليل. سدد ديونه و أعطاها سعر ما يريده اليوم و سألها عن أحوالها و أحوال الأولاد و العمل. يسلم عليها في كل مرة و يقول لها و الله مشتاقين يا نياكيم كرر ذلك كثير. تفاجأ عندما قالت له: انت بدل مشتاقين مشتاقين دا ما تجي ترقد جمبي هنا. تذكر حلاوة عناقها و رائحة عرقها بالمجيد ذاك. لم تكن متعطرة بغير أريج الصابون و قليل من المسك. كانت تظلل سريرهم المتهتك سحبُ الحرّية الجمال. طفرت من عينيه دمعات بكي بهن الجنوب و نياكيم.
تذكر إغلاق الجامعة المتكرر أيام دراسته. تذكر عنف الإتجاه الإسلامي ضد الطلاب من التنظيمات الأخري. تذكر قوانين الشريعة. تذكر عندما تم جلده بالقسم الأوسط جراء شُرْب العرقي. تذكر حرب الجنوب. تذكر مآسي دارفور. و قرر ألا يزعج هدوء رايتشل بالنقاش و يمضي نحو خطتها لمقابلة الإستشاري النفسي.
قررأن يستمتع برفقتها في عطلة نهاية الأسبوع. و يتناسي أمر الحرب و يترك الوطن في تلك الحُفرة التي تشكلت في داخله، علّه يتعفن هناك ويموت و ينبت في مكانه نبت مختلف.
طه جعفر الخليفة
اونتاريو – كندا
3 مارس 2024م
taha.e.taha@gmail.com
///////////////////