ماكس فيبر في الخرطوم: الديمقراطية أم الدولة؟ (1-2)

 


 

 

عبد الله علي إبراهيم
جاءت مينا العريبي رئيسة تحرير مجلة "الناشيونال" بأبوظبي، في لقاء أخير لها مع فريد زكريا بالـ"سي أن أن" بفكرة عن السياسة الأميركية في المنطقة العربية نافعة في تحليل الحرب المشتعلة في السودان. فذكرت مواجهات أميركا الراهنة مع الجماعات المسلحة من غير الدولة (الحوثيين، الحشد الشعبي العراقي، حزب الله) لتقول إن على أميركا أن تقدم في سياساتها الخارجية وجود الدولة-الأمة نفسها على ما سواه. ونفع هذه العبارة للسودان في حربه القائمة عظيم لأنه حتى أكثر المتفائلين يكاد يكون فرغ من أن دولة السودان إلى انهيار قريب.
فليس واضحاً في السياسة الأميركية أنها جعلت من الدولة مركز دائرة سياساتها الخارجية. فبقول الرئيس بايدن إن "السياسة العالمية نزاع بين الديمقراطية الليبرالية والطغيان" وضعت أميركا الديمقراطية في ذلك المركز نجحت في المسعى أم لم تنجح. فاكتفت في التعامل مع هذه الكيانات المسلحة من غير الدولة بالجزرة والعصا. فتسمي الجماعة إرهابية وتفرض مقاطعتها ثم تترك العصا إلى الجزرة في توقيتها المناسب. فكانت فرضت المقاطعة على الحوثيين ثم رجعت عن ذلك في يناير 2017 على عشم استصحابهم في جهود السلام في اليمن.
ولعل أبلغ مظاهر استهانتها بوجود الدولة هو حل جيش دولة البعث بعد غزو العراق في 2003 وتفكيك نظام البعث. ولا يزال النقاش دائراً حول من أمر بتفكيك الجيش لكن من المؤكد أنه لا الجيش الأميركي ولا وكالة الاستخبارات الأميركية. فكانا معاً مع إعادة العسكرية العراقية على جذع الجيش العراقي البعثي. وبجانب بول بريمر الثالث، حاكم العراق بعد احتلاله، فإن أوضح من دعا له هو المعارضة العراقية بقيادة أحمد شلبي شديدة العقيدة في إزالة كل أثر لصدام حسين والبعث. وكان شلبي يريد حل جيش صدام لتأخذ قواته، قوات العراق الحرة، محله. لكن من حل محله حقاً كان جيشاً من صنع المالكي، رئيس الوزراء (2006-2014) وهو جيش قيل عنه إنه مجرد ميليشيات طائفية تتلقى أوامرها من بطانة المالكي.
وهكذا رمى بريمر بـ250 ألف شاب عراقي عاطل وغاضب ومسلح إلى الشارع. وهم من كانوا نواة تنظيم "داعش". فمن 40 قيادياً في التنظيم كان منهم 25 من ضباط جيش صدام. قاوموا الاحتلال لثماني سنوات وقتلوا من العسكريين الأميركيين نحو 4500. ومعلوم اضطرار أميركا أخيراً لمواجهة التنظيم في العراق وسوريا على رأس حلف كان الأضعف فيه دولتي العراق وسوريا. ففي العراق حل الحشد الشعبي مكان الجيش العراقي الذي هزمه "داعش". وكانت حرب الخلافة في سوريا مناسبة لتمكين روسيا نظام بشار الأسد بغض النظر. فاستشرت الأجسام المسلحة من غير الدولة.
فإذا ما كان الدولة ومنزلتها موضوع الحديث فلا مندوحة من الرجوع إلى منظرها الألماني بلا منازع ماكس فيبر ( -1920). ومن الصدف أن استدعى جيمس بفيفنر، أستاذ العلم العسكري بجامعة جيمس ماديسون بأميركا، اسم فيبر وهو ينعي على بريمر فصل ما بين 80 و100 ألف موظف من الخدمة المدنية العراقية. ففيبر هو من نظر للبيروقراطية كأداة للدولة الممركزة. والبيروقراطية عند فيبر نظام عقلاني من موظفين يسيرون أمور الدولة بيسر بعد احتلالها. فلم يكن بريمر يحتاج سوى لإزاحة قادتها في القمة. فالبيروقراطية تظل تعمل لأن خدماتها مما يحتاج إليه الجميع بما فيها الجيش الغازي.
وتفارق السياسة الأميركية فيبر في موضوع الدولة. فالديمقراطية في الدولة مقدمة في هذه السياسة على الدولة، أو هي شرط وجود الدولة. فالتزمت أميركا منذ ثورة السودان في ديسمبر (كانون الأول) 2018 بحماية التحول الديمقراطي بعد إزالة ديكتاتورية دولة الإنقاذ (1989-2019). وجسدت هذا الالتزام في "قانون الانتقال الديمقراطي في السودان، والمساءلة، والشفافية" لعام 2020 مجدداً في عام 2021. وعين القانون القوات المسلحة و"الدعم السريع"، ضمن قوات نظامية أخرى، ممن قاما معاً بانقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 الذي أطاح الحكومة الانتقالية بقيادة عبدالله حمدوك، كخصمين مؤكدين للانتقال الديمقراطي. وخصص القانون باباً مستقلاً للعقوبات التي بوسع رئيس الجمهورية الأميركية فرضها عليهما لكي يشل أيديهما من دون تعويق هذا الانتقال. وتواترت الأخبار من قريب عن عقوبات، سبقتها أخريات، فرضت على الطرفين لحربهما المعدودة تخريباً للتحول الديمقراطي.
بدا باندلاع الحرب بين القوات المسلحة و"الدعم السريع" أنه ربما احتاج الموقف من أميركا إلى شيء من المراجعة. فإننا لن نسلم من الخطأ، والمزلزل، إن واصلنا النظر إليها كحرب بين جنرالين، الفريق أول عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو، سواء في طمعهما في السلطان أو خصومة التحول الديمقراطي. فعظمة النزاع تغيرت. فلم تعد بين الديمقراطية والديكتاتورية التي فيها الجيش و"الدعم السريع" سواء، بل هي عن أن تكون الدولة أو لا تكون.
ونواصل

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء