مانفريد إيڤل ومنارة العلم والابداع: معهد جوته بالخرطوم
د. محمد بدوي مصطفى
5 July, 2021
5 July, 2021
المحطة الأولى: معهد جوته بالخرطوم:
يا لها من دنيا، كما يُقال (دُنيا دَبَنقَا)، إذ تتلاقى فيها سُبل البشر ومذاهبهم، وقد تتشابك فيها مصائرهم، أو ربما تتباعد سرائرهم من بعد، أو أغلب الظن ينأون عن بعضهم البعض أحيانًا وقد تجمعهم الأقدار أحيانًا أخرى، بيد أن لحظة اللقاء الموعودة حينما تتأتّى، تتعانق ساعتئذ الأرواح في وحي الابداع وصحن الجمال بصفاء الأنفس ونقاء السرائر. أودّ في هذا المقال أن أشير إلى بعض المحطات الخرطومية، التي لها أثر بالغ في إثراء حياتها الإبداعية والثقافية وفي اشتعال حراكها المستمر نحو الداخل والخارج على حد سواء، عبر العمل العلمي المستدام ومن بعد عبر التظاهرات الثرّة، المختلفة والمتباينة فنيًّا وعلميًا والتي تجمع كل أبناء وبنات الوطن في ظل التبادل الثقافي مع شعب ألمانيا وتحت مظلة تعددية هذا البلد المعطاء. وحقيقة تعتبر هذه المحطة (معهد جوته بالخرطوم) هامة جدًا أولًا بالنسبة لشخصي البسيط وثانيًا ودن أدنى شك بالنسبة لشباب وشابات السودان من الذين يطمحون إلى الأفضل متابعين عن كثب كلما يحدث ويجري في فضاءات العلم والفن والابداع في أوروبا وما حولها، ناشدين اللحاق بركب الأمم ومن قبل مجاراة شباب جيلهم فيما وراء المتوسط، أو في بعض المرّات تقديم أنفسهم وأعمالهم في التظاهرات الفنّية المختلفة التي يتيحها لهم المعهد بعلاقاته الواسعة وامكانياته الطيبة، ومنهم من ينشد تطوير عمله سواء في الفن أو التصوير أو الرسم أو حتى في المجال الأكاديمي عبر التلاقح والتماس الثقافي مع هذه الدولة الفتية التي ومنذ أن انبثقت ثورة ديسمبر المجيدة لم تتوقف أبدًا في دعمه وسنده حتى يعبر عقبات الحقب الثلاثة التي وضعها نظام بائد ظالم عسى أن يبقى إلى يوم يبعثون في مزابل التاريخ. وأقول في هذا الصدد أن من يتصدى ويريد أن يوثّق عموما لمسائل الإبداع وتطوير إمكانيات الشباب عبر الورش والمحاضرات العملية والعلمية، فلابد بدّ أن تكون له هاهنا وقفة حقيقة مع وفي معهد جوته الألماني بقلب الخرطوم الذي ثار وذأر في وجه ثلاثنية انقضت من عمره أضاعها من نصبوا أنفسهم حكامًا له. بالرجوع إلى صفحات التي نجد أن هذه المؤسسة الألمانية الهامة قد غابت ومعها العشرات من المؤسسات العلمية والتعلمية العالمية لمدّة بلغت أغلب الظن عشرات السنين، ذلك يرجأ للسياسة الانقاذية البغيضة من جهة وفي نظري أنّه تضمان من قبل هذه المؤسسات ألألمانية وغيرها ونضال مع الشعب السوداني في كفاحه المستميت ضد الظلم والإرهاب الإسلامويّ، ونحمد الله أن معهد جوته ومع المؤسسات التي ذكرناها، قد عادت مرّة أخرى مشرقة، باهرة وخلاقة لكل ما هو ابداع وفكر وفن لتدفع من مسيرة السلام والتنمية في مجال العلم والصداقة المتبادلة بين شعبيّ ألمانيا والسودان في كل مجالات الابداع المختلفة. فمعهد جوته بالخرطوم لمن لا يعرفه تمًامًا، هو المعهد الثقافي الألماني الذي يعمل ل في كافة أنحاء العالم بدأب ونشاط منقطع النظير ويتبع بطبيعة الحال للحكومة الألمانية. ومن بين نشاطات هذا المعهد أنّه يدعم تعلم اللغة الألمانية كلغة أجنبية خارج الأراضي الألمانية، كما يدعم بنشاط يحسد عليه قيم التعاون والتبادل الثقافي الدولي حيث يقدم صورة شاملة لألمانيا عن طريق معلومات عن الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية فيها ويعكس صورة البلد الذي تأسس به لشعب ألمانيا. وتدعم برامجه الثقافية والتعليمية الحوار بين الثقافات وتتيح إمكانية المشاركة الثقافية بمفهوم ديموقراطي سامي تنادي بمبدأ الرأي والرأي الآخر، كما وتعزز من بناء الهياكل المدنية وتدعم الحراك العالمي. ولنذكر على سبيل المثال لا الحصر مشروع المنح الانتاجية الذي يهدف إلى تشجيع كل المبدعين في السودان ودعم مشاريع الفن والثقافة بتمويل ودعم مالي مقدم ضمن مشروع مساحات جديدة الذي تموّله وزارة الخارجية الألمانية عبر مشاريعها التنموية العديدة كما هي الحال في الخرطوم.
المحطة الثانية: مدير المعهد السابق مانفريد إيڤل:
لقد صارت الدنيا يا سادتي حقيقة كقرية صغيرة، يلتقي فيها الصغير والكبير، البعيد والقريب، ابن الشمال والجنوب، وكم كانت تلك صدفة جميلة أني التقيت في إحدى زيارتي للخرطوم ولمعهد جوته بالذات، بمديره السيد مانفريد إيڤل، هذا الرجل الألماني، مشرق الوجه، بهي الطلّة، كريم الخلق وبشوش ومحب لثقافتنا وحضارتنا. لقد ترعرع أيڤل بنواحي مدينة رافنسبورج التي لا تبعد من مدينتي التي أسكن بها في منطقة الجنوب الألماني إلا بضع عشرات الكيلومترات. لقد أسرّ لي في تلك الزيارة العاجلة والتي كنت فيها بصحبة أسرتي أنه كان يعرف بعض نشاطاتي الأدبية والفنية في منطقة بحيرة كونستانس، مدينة تعرف بدرة الجنوب، وكم سعدت لسماع ذلك وانطلقت كلماتنا تتلاقى في سماء الخرطوم في وحي الفن والابداع. وقد أدهشتني آنذاك أحاديثه ومشاريعه الكثيرة والمميزة بشدّة! وقلت في نفسي، تلك سنة الحياة، فهكذا تلتقي مصائر الناس في هذه الدنيا الدوّارة وتنعرج ثانية لتتلاشى في أرض الله الواسعة وإن أرادت لها الأقدار أن تجتمع فسيكون كذلك. على كل ربطتني منذ تلك اللحظة علاقة طيبة مع هذا الرجل وأودّ من خلال هذا المقال أن أسلط الضوء على بعض ما قام به في فترة إدارته للمعهد. لقد عمل مانفريد أيڤل كمدير سابق لمعهد جوته الألماني في تنزانيا وسوريا والمغرب والسودان. درس أولاً الأدب واللغويات الإنجليزية والألمانية في جامعات في ألمانيا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة، ثم تابع دورات الدراسات العليا في تعليم الكبار ودراسات التنمية. خلال سنوات عمله الأولى في معهد جوته بدمشق في الثمانينيات، درس اللغة العربية، والتي أصبحت مفيدة جدًا لإقامته اللاحقة في الرباط والخرطوم.
عندما كان يدير معهد جوته في الخرطوم من 2014 إلى 2018، أسس المبنى الجديد في شارع النجومي وساعد في زيادة عدد المعلمين والدورات لفصول اللغة الألمانية التي يتهافت عليها الناس بشدة وينسد باب التسجيل فيها مع بداية كل فصل فقط بعد ثلاث ساعات من فتحه. ومن بين الأنشطة الثقافية العديدة للمعهد، قام هو وفريقه بترويج العديد من المشاريع المشتركة للفنانين الألمان والسودانيين. وكان من بينها مهرجان سما للموسيقى منذ عام 2015، وعدد من ورش التصوير والمعارض بعنوان MUGRAN FOTO WEEK ، وعروض أفلام ومحاضرات في علم الآثار أو في الأدب، بالإضافة إلى سلسلة فيديوهات موسيقية ناجحة لأغاني العديد من المبدعين في السودان.
منذ تقاعده من عمله بمعهد جوته، استغل مانفريد إيڤل بعض وقته لإجراء المزيد من الدراسات حول التاريخ الثقافي للسودان. بناءً على هذه الدراسات، كتب لمحات تاريخية حول موضوعات مثل الموسيقى والأدب والتصوير والسينما والهندسة المعمارية والفنون البصرية في السودان ووثقها بصحائف ويكيبيديا الإنجليزية. شارك من خلال هذا التوثيق حتى الآن بأكثر من 40 مقالة عن السودان، ويأمل في نشر المعرفة حول ثقافة السودان بين القراء الناطقين باللغة الإنجليزية، مضيفًا معرفته الشخصية إلى المصادر المتاحة في المواقع أو المجلات أو الكتب. بشكل عام، وجد أن الأدبيات المتوفرة عن السودان باللغة الإنجليزية أو اللغات الأوروبية الأخرى غالبًا ما تتعامل مع الدراسات التاريخية الأثرية أو مع التطورات السياسية المعاصرة في السودان. بقدر أهمية هذه الموضوعات العريضة للمعرفة العامة عن البلاد، فإنه يعتقد أن هناك نقصًا في الدراسات حول الثقافة الشعبية والمعاصرة في السودان. كما كتب أحمد سيكينجا، وهو أكاديمي سوداني في الولايات المتحدة، في مقالته عام 2011 بعنوان "تاريخ قصير للموسيقى الشعبية السودانية: "في أدبيات نهوض السودان الحديث، هناك هيمنة للتحليل السياسي وغياب مقارن للتاريخ الاجتماعي والثقافي. وقد حظيت موضوعات مثل الثقافة الشعبية والموسيقى والرقص والملابس باهتمام ضئيل من المؤرخين. تركت لعالم الأنثروبولوجيا وآخرين ممن كانت أبحاثهم في المناطق الريفية. ومع ذلك، فإن مثل هذه الأنشطة هي مركزية لظهور ثقافة شعبية مشتركة في المراكز الحضرية في البلاد. هذه ثقافة تنبع من حياة المجموعات الهامشية، على سبيل المثال والدلائل تتعلق بفئة العمال والفلاحين والعبيد والنساء، حيث يتبدى اندماج مجموعة كبيرة ومتنوعة من التأثيرات المحلية والخارجية ".
من أجل سد هذه الفجوة بالمعرفة، يرحب أيضًا بجهود مبادرة ويكيبيديا السودانية ومحررين آخرين يكتبون باللغة العربية أو الإنجليزية من منظور سوداني. من مقالاته المفضلة عن الأديبة والفنانة البريطانية السودانية جريسيلدا الطيب، زوجة الباحث البارز عبد الله الطيب، التي لم تكتف فقط بتوضيح الحكايات الشعبية لزوجها بالترجمة الإنجليزية، بل نشرت أيضًا عدة مقالات وكتب عن البيئة والأقليات الإثنية وعن ازياء السودان، ويمكن العثور على هذه المقالة هنا.
السيد مانفرد إيڤل مثقف وأديب يحب السودان حبًّا جمًّا، ويكنّ لأهله كل احترام ومحبة ولقد عمل في معهد جوته بالخرطوم من أجل رفعته ورقيّه ولا يزال دأبه ونشاطه متواصل حتى الآن لا سيما في فترة تقاعده، ويمكن أن نلخص عمله الدؤوب بالآتي: أنّه باحث وموثق لجغرافية واسلوب حياة الناس في جميع مناطق السودان ومتخصص في عمل القصص التصويرية، وهذه لمحة عابرة عن لم وثقافة الرجل، وما خفي أعظم.
المحطة الثالثة: جوته جوهرة بالعاصمة المثلّثة:
نعم معهد جوته، وحدث ولا حرج، هو جوهرة بديعة في سماء الخرطوم، إذ يقوم منذ تأسيسه بتنظيم دورات لغة ألمانية ويعقد امتحانات دوريّة حيث يقوم بتقديم تأهيل مستمر وبشكل منتظم لمدرسات ومدرسي اللغة الألمانية كلغة أجنبية. وكما يقوم بتنظيم ودعم طيف واسع من الفعاليات الثقافية بغية منح المواطن السوداني فرصة للتعرف على الثقافة الألمانية، كما ويعمل على تفعيل التبادل بين الثقافات. ولا تقتصر فعالياته على العاصمة وحسب، بل تتعداها إلى مناطق السودان المختلفة وجميع أنحاء العاصمة المثلثة. ومن أهم الجوانب به وجود المكتبة الرائعة في صحنه والتي توفر للطلاب والباحثين مادة غزيرة من العلم والمعرفة، وفيها تتوفر معلومات تتعلق بالجوانب الحاضرة للحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية في ألمانيا، إن لم يكن في كل أنحاء أوروبا. وتحتضن رفوفها كتباً ومجلات ودوريات وأفلام وموسيقى للكبار والصغار باللغة العربية والألمانية. كما يمكن استخدام أدوات التواصل الاجتماعي الحديثة وحواسيب. وليس بخافٍ على أحد أن المركز الثقافي الألماني وعلى خلفية نشاطه المستمر والتشاركي قد أصبح أحد اللاعبين المهمين في مجالي الثقافة والتربية والتعليم في المشهد السوداني. ويعزز من دوره هذا صلاته الوطيدة بمؤسسات سودانية شريكة. ويجدر بنا القول هنا أن معهد جوته يدعم ويعزز التعددية الثقافية داخل وخارج الاتحاد الأوروبي ويدفع قدماً بالحوار والتبادل الثقافي بشكل دؤوب، مستمر ومستدام في كل أنحاء أفريقيا والوطن العربي وهذا شيء يعتز به الكل.
خاتمة:
كان ولا يزال رجوع المعهد بقرار سياسي من الحكومة الألمانية إلى عاصمة السودان الخرطوم من أهم القرارات التي انعكست إيجابيا على حياة الناس بالسودان وأحيت بدون أدنى شك جوانبا عديدة في مجال الفن والابداع والعلم وعمل المعهد منذ رجعته على تكثيف التبادل الثقافي وتسهيل منح المنح الدراسية لأكاديميّ السودان من أطباء ومهندسين وفنانين في كل أنحاء ألمانيا. فتح المعهد أبوابه وقلبه للشعب السوداني ليفصح له أن العالم لم ينسهم وأن ألمانيا كانت سباقة دومًا في دعم مسيرة النهضة والتعمير بالسودان ولا تزال من أوائل البلدان التي شاركت من أول وهلة في التخطيط للإعمار منذ اندلاع الثورة، حيث زارت السودان وفود رفيعة المستوى لإشعال نار الأخوة والصداقة والمحبة بين الشعبين. شكرًا جوته شكرًا ألمانيا!
(٭ نقلًا عن المدائن بوست دوت كوم)
Mohamed@Badawi.de
//////////////////
يا لها من دنيا، كما يُقال (دُنيا دَبَنقَا)، إذ تتلاقى فيها سُبل البشر ومذاهبهم، وقد تتشابك فيها مصائرهم، أو ربما تتباعد سرائرهم من بعد، أو أغلب الظن ينأون عن بعضهم البعض أحيانًا وقد تجمعهم الأقدار أحيانًا أخرى، بيد أن لحظة اللقاء الموعودة حينما تتأتّى، تتعانق ساعتئذ الأرواح في وحي الابداع وصحن الجمال بصفاء الأنفس ونقاء السرائر. أودّ في هذا المقال أن أشير إلى بعض المحطات الخرطومية، التي لها أثر بالغ في إثراء حياتها الإبداعية والثقافية وفي اشتعال حراكها المستمر نحو الداخل والخارج على حد سواء، عبر العمل العلمي المستدام ومن بعد عبر التظاهرات الثرّة، المختلفة والمتباينة فنيًّا وعلميًا والتي تجمع كل أبناء وبنات الوطن في ظل التبادل الثقافي مع شعب ألمانيا وتحت مظلة تعددية هذا البلد المعطاء. وحقيقة تعتبر هذه المحطة (معهد جوته بالخرطوم) هامة جدًا أولًا بالنسبة لشخصي البسيط وثانيًا ودن أدنى شك بالنسبة لشباب وشابات السودان من الذين يطمحون إلى الأفضل متابعين عن كثب كلما يحدث ويجري في فضاءات العلم والفن والابداع في أوروبا وما حولها، ناشدين اللحاق بركب الأمم ومن قبل مجاراة شباب جيلهم فيما وراء المتوسط، أو في بعض المرّات تقديم أنفسهم وأعمالهم في التظاهرات الفنّية المختلفة التي يتيحها لهم المعهد بعلاقاته الواسعة وامكانياته الطيبة، ومنهم من ينشد تطوير عمله سواء في الفن أو التصوير أو الرسم أو حتى في المجال الأكاديمي عبر التلاقح والتماس الثقافي مع هذه الدولة الفتية التي ومنذ أن انبثقت ثورة ديسمبر المجيدة لم تتوقف أبدًا في دعمه وسنده حتى يعبر عقبات الحقب الثلاثة التي وضعها نظام بائد ظالم عسى أن يبقى إلى يوم يبعثون في مزابل التاريخ. وأقول في هذا الصدد أن من يتصدى ويريد أن يوثّق عموما لمسائل الإبداع وتطوير إمكانيات الشباب عبر الورش والمحاضرات العملية والعلمية، فلابد بدّ أن تكون له هاهنا وقفة حقيقة مع وفي معهد جوته الألماني بقلب الخرطوم الذي ثار وذأر في وجه ثلاثنية انقضت من عمره أضاعها من نصبوا أنفسهم حكامًا له. بالرجوع إلى صفحات التي نجد أن هذه المؤسسة الألمانية الهامة قد غابت ومعها العشرات من المؤسسات العلمية والتعلمية العالمية لمدّة بلغت أغلب الظن عشرات السنين، ذلك يرجأ للسياسة الانقاذية البغيضة من جهة وفي نظري أنّه تضمان من قبل هذه المؤسسات ألألمانية وغيرها ونضال مع الشعب السوداني في كفاحه المستميت ضد الظلم والإرهاب الإسلامويّ، ونحمد الله أن معهد جوته ومع المؤسسات التي ذكرناها، قد عادت مرّة أخرى مشرقة، باهرة وخلاقة لكل ما هو ابداع وفكر وفن لتدفع من مسيرة السلام والتنمية في مجال العلم والصداقة المتبادلة بين شعبيّ ألمانيا والسودان في كل مجالات الابداع المختلفة. فمعهد جوته بالخرطوم لمن لا يعرفه تمًامًا، هو المعهد الثقافي الألماني الذي يعمل ل في كافة أنحاء العالم بدأب ونشاط منقطع النظير ويتبع بطبيعة الحال للحكومة الألمانية. ومن بين نشاطات هذا المعهد أنّه يدعم تعلم اللغة الألمانية كلغة أجنبية خارج الأراضي الألمانية، كما يدعم بنشاط يحسد عليه قيم التعاون والتبادل الثقافي الدولي حيث يقدم صورة شاملة لألمانيا عن طريق معلومات عن الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية فيها ويعكس صورة البلد الذي تأسس به لشعب ألمانيا. وتدعم برامجه الثقافية والتعليمية الحوار بين الثقافات وتتيح إمكانية المشاركة الثقافية بمفهوم ديموقراطي سامي تنادي بمبدأ الرأي والرأي الآخر، كما وتعزز من بناء الهياكل المدنية وتدعم الحراك العالمي. ولنذكر على سبيل المثال لا الحصر مشروع المنح الانتاجية الذي يهدف إلى تشجيع كل المبدعين في السودان ودعم مشاريع الفن والثقافة بتمويل ودعم مالي مقدم ضمن مشروع مساحات جديدة الذي تموّله وزارة الخارجية الألمانية عبر مشاريعها التنموية العديدة كما هي الحال في الخرطوم.
المحطة الثانية: مدير المعهد السابق مانفريد إيڤل:
لقد صارت الدنيا يا سادتي حقيقة كقرية صغيرة، يلتقي فيها الصغير والكبير، البعيد والقريب، ابن الشمال والجنوب، وكم كانت تلك صدفة جميلة أني التقيت في إحدى زيارتي للخرطوم ولمعهد جوته بالذات، بمديره السيد مانفريد إيڤل، هذا الرجل الألماني، مشرق الوجه، بهي الطلّة، كريم الخلق وبشوش ومحب لثقافتنا وحضارتنا. لقد ترعرع أيڤل بنواحي مدينة رافنسبورج التي لا تبعد من مدينتي التي أسكن بها في منطقة الجنوب الألماني إلا بضع عشرات الكيلومترات. لقد أسرّ لي في تلك الزيارة العاجلة والتي كنت فيها بصحبة أسرتي أنه كان يعرف بعض نشاطاتي الأدبية والفنية في منطقة بحيرة كونستانس، مدينة تعرف بدرة الجنوب، وكم سعدت لسماع ذلك وانطلقت كلماتنا تتلاقى في سماء الخرطوم في وحي الفن والابداع. وقد أدهشتني آنذاك أحاديثه ومشاريعه الكثيرة والمميزة بشدّة! وقلت في نفسي، تلك سنة الحياة، فهكذا تلتقي مصائر الناس في هذه الدنيا الدوّارة وتنعرج ثانية لتتلاشى في أرض الله الواسعة وإن أرادت لها الأقدار أن تجتمع فسيكون كذلك. على كل ربطتني منذ تلك اللحظة علاقة طيبة مع هذا الرجل وأودّ من خلال هذا المقال أن أسلط الضوء على بعض ما قام به في فترة إدارته للمعهد. لقد عمل مانفريد أيڤل كمدير سابق لمعهد جوته الألماني في تنزانيا وسوريا والمغرب والسودان. درس أولاً الأدب واللغويات الإنجليزية والألمانية في جامعات في ألمانيا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة، ثم تابع دورات الدراسات العليا في تعليم الكبار ودراسات التنمية. خلال سنوات عمله الأولى في معهد جوته بدمشق في الثمانينيات، درس اللغة العربية، والتي أصبحت مفيدة جدًا لإقامته اللاحقة في الرباط والخرطوم.
عندما كان يدير معهد جوته في الخرطوم من 2014 إلى 2018، أسس المبنى الجديد في شارع النجومي وساعد في زيادة عدد المعلمين والدورات لفصول اللغة الألمانية التي يتهافت عليها الناس بشدة وينسد باب التسجيل فيها مع بداية كل فصل فقط بعد ثلاث ساعات من فتحه. ومن بين الأنشطة الثقافية العديدة للمعهد، قام هو وفريقه بترويج العديد من المشاريع المشتركة للفنانين الألمان والسودانيين. وكان من بينها مهرجان سما للموسيقى منذ عام 2015، وعدد من ورش التصوير والمعارض بعنوان MUGRAN FOTO WEEK ، وعروض أفلام ومحاضرات في علم الآثار أو في الأدب، بالإضافة إلى سلسلة فيديوهات موسيقية ناجحة لأغاني العديد من المبدعين في السودان.
منذ تقاعده من عمله بمعهد جوته، استغل مانفريد إيڤل بعض وقته لإجراء المزيد من الدراسات حول التاريخ الثقافي للسودان. بناءً على هذه الدراسات، كتب لمحات تاريخية حول موضوعات مثل الموسيقى والأدب والتصوير والسينما والهندسة المعمارية والفنون البصرية في السودان ووثقها بصحائف ويكيبيديا الإنجليزية. شارك من خلال هذا التوثيق حتى الآن بأكثر من 40 مقالة عن السودان، ويأمل في نشر المعرفة حول ثقافة السودان بين القراء الناطقين باللغة الإنجليزية، مضيفًا معرفته الشخصية إلى المصادر المتاحة في المواقع أو المجلات أو الكتب. بشكل عام، وجد أن الأدبيات المتوفرة عن السودان باللغة الإنجليزية أو اللغات الأوروبية الأخرى غالبًا ما تتعامل مع الدراسات التاريخية الأثرية أو مع التطورات السياسية المعاصرة في السودان. بقدر أهمية هذه الموضوعات العريضة للمعرفة العامة عن البلاد، فإنه يعتقد أن هناك نقصًا في الدراسات حول الثقافة الشعبية والمعاصرة في السودان. كما كتب أحمد سيكينجا، وهو أكاديمي سوداني في الولايات المتحدة، في مقالته عام 2011 بعنوان "تاريخ قصير للموسيقى الشعبية السودانية: "في أدبيات نهوض السودان الحديث، هناك هيمنة للتحليل السياسي وغياب مقارن للتاريخ الاجتماعي والثقافي. وقد حظيت موضوعات مثل الثقافة الشعبية والموسيقى والرقص والملابس باهتمام ضئيل من المؤرخين. تركت لعالم الأنثروبولوجيا وآخرين ممن كانت أبحاثهم في المناطق الريفية. ومع ذلك، فإن مثل هذه الأنشطة هي مركزية لظهور ثقافة شعبية مشتركة في المراكز الحضرية في البلاد. هذه ثقافة تنبع من حياة المجموعات الهامشية، على سبيل المثال والدلائل تتعلق بفئة العمال والفلاحين والعبيد والنساء، حيث يتبدى اندماج مجموعة كبيرة ومتنوعة من التأثيرات المحلية والخارجية ".
من أجل سد هذه الفجوة بالمعرفة، يرحب أيضًا بجهود مبادرة ويكيبيديا السودانية ومحررين آخرين يكتبون باللغة العربية أو الإنجليزية من منظور سوداني. من مقالاته المفضلة عن الأديبة والفنانة البريطانية السودانية جريسيلدا الطيب، زوجة الباحث البارز عبد الله الطيب، التي لم تكتف فقط بتوضيح الحكايات الشعبية لزوجها بالترجمة الإنجليزية، بل نشرت أيضًا عدة مقالات وكتب عن البيئة والأقليات الإثنية وعن ازياء السودان، ويمكن العثور على هذه المقالة هنا.
السيد مانفرد إيڤل مثقف وأديب يحب السودان حبًّا جمًّا، ويكنّ لأهله كل احترام ومحبة ولقد عمل في معهد جوته بالخرطوم من أجل رفعته ورقيّه ولا يزال دأبه ونشاطه متواصل حتى الآن لا سيما في فترة تقاعده، ويمكن أن نلخص عمله الدؤوب بالآتي: أنّه باحث وموثق لجغرافية واسلوب حياة الناس في جميع مناطق السودان ومتخصص في عمل القصص التصويرية، وهذه لمحة عابرة عن لم وثقافة الرجل، وما خفي أعظم.
المحطة الثالثة: جوته جوهرة بالعاصمة المثلّثة:
نعم معهد جوته، وحدث ولا حرج، هو جوهرة بديعة في سماء الخرطوم، إذ يقوم منذ تأسيسه بتنظيم دورات لغة ألمانية ويعقد امتحانات دوريّة حيث يقوم بتقديم تأهيل مستمر وبشكل منتظم لمدرسات ومدرسي اللغة الألمانية كلغة أجنبية. وكما يقوم بتنظيم ودعم طيف واسع من الفعاليات الثقافية بغية منح المواطن السوداني فرصة للتعرف على الثقافة الألمانية، كما ويعمل على تفعيل التبادل بين الثقافات. ولا تقتصر فعالياته على العاصمة وحسب، بل تتعداها إلى مناطق السودان المختلفة وجميع أنحاء العاصمة المثلثة. ومن أهم الجوانب به وجود المكتبة الرائعة في صحنه والتي توفر للطلاب والباحثين مادة غزيرة من العلم والمعرفة، وفيها تتوفر معلومات تتعلق بالجوانب الحاضرة للحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية في ألمانيا، إن لم يكن في كل أنحاء أوروبا. وتحتضن رفوفها كتباً ومجلات ودوريات وأفلام وموسيقى للكبار والصغار باللغة العربية والألمانية. كما يمكن استخدام أدوات التواصل الاجتماعي الحديثة وحواسيب. وليس بخافٍ على أحد أن المركز الثقافي الألماني وعلى خلفية نشاطه المستمر والتشاركي قد أصبح أحد اللاعبين المهمين في مجالي الثقافة والتربية والتعليم في المشهد السوداني. ويعزز من دوره هذا صلاته الوطيدة بمؤسسات سودانية شريكة. ويجدر بنا القول هنا أن معهد جوته يدعم ويعزز التعددية الثقافية داخل وخارج الاتحاد الأوروبي ويدفع قدماً بالحوار والتبادل الثقافي بشكل دؤوب، مستمر ومستدام في كل أنحاء أفريقيا والوطن العربي وهذا شيء يعتز به الكل.
خاتمة:
كان ولا يزال رجوع المعهد بقرار سياسي من الحكومة الألمانية إلى عاصمة السودان الخرطوم من أهم القرارات التي انعكست إيجابيا على حياة الناس بالسودان وأحيت بدون أدنى شك جوانبا عديدة في مجال الفن والابداع والعلم وعمل المعهد منذ رجعته على تكثيف التبادل الثقافي وتسهيل منح المنح الدراسية لأكاديميّ السودان من أطباء ومهندسين وفنانين في كل أنحاء ألمانيا. فتح المعهد أبوابه وقلبه للشعب السوداني ليفصح له أن العالم لم ينسهم وأن ألمانيا كانت سباقة دومًا في دعم مسيرة النهضة والتعمير بالسودان ولا تزال من أوائل البلدان التي شاركت من أول وهلة في التخطيط للإعمار منذ اندلاع الثورة، حيث زارت السودان وفود رفيعة المستوى لإشعال نار الأخوة والصداقة والمحبة بين الشعبين. شكرًا جوته شكرًا ألمانيا!
(٭ نقلًا عن المدائن بوست دوت كوم)
Mohamed@Badawi.de
//////////////////