بمرور اليوم الحادي والعشرين من مايو يكون قد مر أربعون يوما على خلع البشير عن الحكم حسب تعبير قائد الجيش وقتذاك. وما يقرب المائة وخمسة وخمسين يوما من بدء انتفاضة الثوار في عطبرة، ورغم مضي كل ذلك الوقت إلا أن الثورة ما زالت تراوح مكانها بين جدل العسكر ولجاج المدنيين.
وقد شبهت في مقال سلف ما يحدث في السودان بكميونة باريس في عنفوانها ومبادرتها. وهي الحكومة الراديكالية التي اقامها العمال على مدى شهرين في باريس من 13 مارس إلى 18 مايو 1871 عقب هزيمة فرنسا من بروسيا والاستسلام المهين لنابليون الثالث للمستشار البروسي اوتو فون بسمارك.
لم تستمر تلك الحكومة لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية وتم قمعها بعنف غير مسبوق من القوى الرجعية الفرنسية المهزومة عسكريا. عليه ينبغي تحذيركم من مصير كميونة باريس.
شباب الثورة الذي قادها بإتقان يفوق الخيال بعيدا عن تدخلات الأحزاب استطاع الحفاظ على وحدته وتماسكه وسرية قراراته وتشبيكه فكسب ثقة الجماهير التي لم تكن تعرف عنه شيئا، لكنها كانت تلبي أوامره متى ما علمت بها. وإن كان للإنقاذ حسنه واحدة فهي تخليق هذا الجيل الباسل الذي فات الكبار والقدره وفعل ما عجز عن فعله كبار القوم من السياسيين.
غير أن من الأخطاء التي وقعوا فيها هي عدم الثقة في قدرتهم على الاستمرار في قيادة البلاد كما قادوا ونظموا ونجحوا في تجمعهم. فاستنجدوا بالعسكر الذين كانوا حتى يومذاك جزءا اصيل من النظام البائد ونالوا رتبهم تلك ليس لكفاءة عرفت عنهم، بل لأنهم كانوا يطيعون الأوامر التي تأتيهم من قائدهم السايكوبات الذي أراد أن يفني نصف الشعب السوداني بفتوى من دواعش السودان الذين يقودون الآن مجموعة نصرة الشريعة ودولة القانون. وقد اتضح أنهم كانوا سائرين في ذات الطريق لولا وقفة رجل لم يمر بما يسمى بمصنع الرجال رفض أن يطيع أوامر السفاح الذي ثبت أنه لا يخاف الله ولا يؤمن بلقائه.
لجوئكم لقيادة الجيش منحهم الإحساس بأنهم شركاء في هذا التغيير وقد زاغ بصرهم عندما طاب لهم المقام في القصر الجمهوري فظنوا أنهم فيه باقون وأن لهم الحق في فرض شروطهم على الثوار الذين ضحوا بحيواتهم وهم في ريعان الشباب وميعة الصبا، في وقت كان العسكر يتيهون في خيلاء الطاووس بدبابيرهم التي وضعها على اكتافهم ذلك السفاح.
نفهم العسكر جيدا وخبرناهم على مدى الستين عاما الماضية من استقلال السودان. لم يأتينا منهم خير قط، فهم لا يتقنون شيئا سوى القتل ومن يمتهن القتل ليس له عطاءا للحياة. قفزوا من المركب الغارق في آخر اللحظات وهاهم الآن يريدون الاستيلاء على السلطة من الباب الخلفي الذي اتحتموه لهم. عاشوا على مدى 30 عاما في كنف ديكتاتور ظل يطحن في اوصال هذا الشعب، وعندما لم يستطيعوا هزيمة الحركات المسلحة التي انتظمت اعمالها سوح الوطن استعاض عنهم قائدهم بكتائب الدعم السريع. رغم ذلك لم تأخذهم الحمية في الحفاظ على عرينهم من ذلك التداخل الغريب في القيادة والإدارة العسكرية، ناهيك عن حماية الوطن.
يحالون الآن تخدير الشعب كل مرة بالقول إنهم حسموا 90% من نقاط الخلاف ونعلم جيدا من خبرتنا في فن التفاوض أن 99% لا تعني قرب الاتفاق، فالمسألة ليست امتحان في مادة الرياضيات، فنسبة واحد في المائة كفيلة بإلغاء كامل ما تم الاتفاق عليه أيا كانت نسبته.
لقد نجحتم في مواجهة الإنقاذ الاصلية وانتصرتم عليها، لكنكم الآن تواجهون الإنقاذ البديلة ومجموعة المصالح التي يقف المجلس العسكري على قمة هرمها. بتلكؤهم في الوصول إلى توافق معكم هم يخدمون آخرين ويحافظون على مصالح جهات خارجية وأخرى داخلية يوفرون لها الحماية والغطاء حتى تتدبر امرها في هدوء واطمئنان.
فهمكم لهذا الامر هو سبيل نجاحكم في استعادة زمام الأمور والمضي بالثورة إلى نهاياته المأمولة.
تأكدوا تماما أن المجلس العسكري لن يصل معكم لاتفاق لا يخدم مصالحه والمصالح التي يعبر عنها وسيصل بكم إلى المرحلة التي يدعي فيه إن الأمور على قدر كبير من السوء "لذا قررنا استلام كل الأمر في أيدينا". هذه المرحلة لا شك قادمة وفي زمن ليس بالبعيد فهم يعملون من أجلها يعاونهم في ذلك من يريدون أن يكون السودان مطية لهم ولعبة بين أيديهم. فلتكن لديكم الخطط البديلة الأولى والثانية والثالثة، نوعوا وسائل مقاومتكم ولا تقتصرونها على منطقة واحدة يسهل استهدافها وتشتيت المعتصمين فيها كما حدث لكميونة باريس، ولا تعتمدوا فقط على الاعتصام امام القيادة العامة فتلك كانت المرحلة الأولى، فهناك وسائل كثيرة للنضال ومقاومة الأنظمة العسكرية وأهم ما حدث للسودان أخيرا بثورتكم هذه هو كسر حاجز الخوف، ووجود مركز توجيه موحد للثورة وهو أمر عجزت عن فعله الأحزاب المعارضة طيلة سنوات الإنقاذ.
استغلوا هذه الميزة وعودوا لثورتكم ووحدتها. كفوا عن التحاور مع المجلس العسكري فذلك خيار صفري، تجاوزوه وابدأوا في تنفيذ الخطة البديلة التي يجب أن تشمل كل السودان الذي توحد خلفكم وسيكون رهن اشارتكم.
فلتكن المرحة الثانية هي العصيان المدني في كل انحاء القطر حتى يعلم العالم من الذي يستطيع تسيير الحياة في السودان ومن له القدرة على وقفها.
هم لا يملكون مثلكم أوراق ضغط وأنتم تمتلكون الشارع الذي آمن بكم وساندكم ووقف خلفكم وسار معكم، عندها تكون شروطكم واضحة تسليم السلطة بالكامل لكم أنتم الذين قدتم هذه الثورة الظافرة، ولا تخشوا من فشل إدارة الدولة، فالطريقة التي ادرتم بها الحراك تنم عن قدرات هائلة في الإدارة تجعلكم مؤهلين لإدارة الدولة بكاملها.
وصية أخيرة، لا تعرضوا السودان للخطر مرة أخرى بالتنازل للأحزاب، فقد فشلت في إدارة البلاد حكما او معارضة على مدى 60 عام من عمر الاستقلال ولن تستطيع أن تديره بعد أن أصاب قادتها التكلس والوهن، وليرجع العسكر إلى سكناتهم فمنها قد أتوا وإليها يرجعون.