ما الفرق بين ذهاب العسكر للثكنات – وانسحاب الجيش من الحكم المدني؟

 


 

وجدي كامل
28 January, 2023

 

فروق عميقة تقوم بين غاية ومبتغى ما يطالب به الثوار او الشارع الثوري بعودة المؤسسة العسكرية الى الثكنات، الى القواعد السكنية والوظيفية للمؤسسة وافرادها ومجتمعها، وانسحابها من الحياة السياسية وفقا لاتفاق اطارى، او لوثيقة تالية مكتملة البناء من حيث الصلاحيات والمضامين وحدود الفاعلية في التفاصيل من توصيف قانوني وكل ما بمقدوره الافصاح عن الادوار والحقل الوظيفي الخاص بالمؤسسة.
نفهم من المطالبة الثورية المحمولة على هتاف ذائع الصيت ومتكرر بكافة التظاهرات والمواكب التي تلت انقلاب الخامس والعشرين من اكتوبر ان العودة الى الثكنات تعني وفي الطلب الكامن في جملتها ان تحد وتحكم الجيش باقامة معلومة محددة ذات الحاح يجعله يعكف حصريا على القيام بوظائفه من توفير الامن، وحماية الحدود والبلاد بما يعزز ويؤيد استقرار الحياة السياسية الديمقراطية، وبالا تشغل او تشتغل المؤسسة العسكرية فضلا على ذلك باي مهام اخرى كالسياسة والاقتصاد.
وبالتحليل ومراجعة متن وفحوى المطالبة نجد ان طلب عودة الجيش الى الثكنات لا يخلو من فخاخ بدلالات مربكة نسبيا.
فالمطلب هذا العادل المشروع، و بما يبدو عليه ظاهريا يحتاج الى تامل واعادة نظر وتفكير. فالعودة الفيزيائية الميكانيكية للجيش الى الثكنات غالبا ما تكون عودة ناقصة وغير منتجة بعدم تحقيقها للاهداف الاستراتيجية القاضية بابعاد المؤسسة العسكرية عن السياسة، خاصة اذا ما اقتصر الأمر على الرحيل اللوجيستي او الجغرافي وابقى على جوهر العلة التي نالت من الحياة السياسية بالسودان باخذها ثلثى حياته السياسية لما بعد الاستقلال كان فيها نصيب الاسد للانقلابات العسكرية المنحازة او (المصنوعة حزبيا او مدنيا).
فالعودة الى الثكنات تعني رحيل الاجساد بالاغراض والمعدات من موقع الى اخر بدون الالتزام بالتخلص من اهم المستحقات الرمزية لذلك الرحيل والمتمثلة بعودة الوعى المدني للجيش كافراد وقيادات كونهم مواطنين سودانيين عاديين بالاساس وليس شريحة لها وصاية او وضعية استثنائية تميزها عن المدنيين سوى حيازة السلاح، وان تحل خلافاتهم مع السلطات المدنية وفقا لمبدأ الشراكة في الوطن والمصلحة العامة.
ذلك يستدعي اعادة هيكلة الثقافة العسكرية بالدرجة الاولى وترتيب مفاهيم بيتها بنقد المناهج الاعدادية والتي تبدا ايضا من مرحلة (القفل) والتي يتم فيها اعادة صياغة الفرد العسكري بتخليصه من اثار ثقافة وسلوكيات المدنيين وتستمر عادة حوالي الاربعين يوما يكتسب فيها الفرد العسكري ثقافة مضادة للمدني تغير نظرته له وللاشياء بواسطة مدربين عتاة وموغلين في الصرامة العسكرية والانحياز لكل ما هو عسكري. بعدها يخرج المتدرب بموقف متكامل من الملكيين الذين وبعد قليل وعندما يريد الامعان في الإساءة لهم يسميهم بالملكية (الكهنة) وهو موقف لفظي يلخص حالة العداء المكتسب المضاد للمواطن العادي. وللعسكريين الجدد تبذل التعليمات والاوامر وتعليم الجلالات ذات المحتويات التاريخية البالية القديمة والتي تحتاج دوما للتحديث ومواكبتها لقيم تتبع العقيدة العسكرية الجديدة ذات الارتباط بالحكم الديمقراطي المراد. كل تلك المفاهيم التربوية نجد ان مؤسسة الجيش تعمل على ترسيخها بذهنية افرادها واعضائها وفي مقدمة ذلك مفهوم ان العسكريين النظاميين لهم علو كعب وافضلية على الاخرين (الملكيين الكهنة) والذين لا يستحقون الثقة والاحترام بل النظرة الدونية. ان العسكريين وهم ينخرطون في مهمة طبيعية واجبة حسب مبدا تقسيم العمل عند البشر عليهم تصحيح. ان مفهوم كاكية وملكية مفهوم قمين بالنقد في محمولاته السالبة بما يضع من مكانة تصغيرية للمدنيين. ان افراد المؤسسة وبهذا التقسيم الجائر ينظرون الى الاخر المواطن كقوة مضادة صانعة للفوضى ببعدها عن الضبط والربط العسكري المتخذ للقوة لغة للتصدى للمشكلات وحلها.
وقد تتبدى صناعة الفوضى المزعومة تلك في عدم العناية الكافية بتوفير الحماية الاقتصادية لافراد الجيش وتحسين العناية المعيشية والحربية اهم على السواء .
ونستطيع القول ان ثقافة ومفاهيما قد شكلت مدخلا لغزو المؤسسة العسكرية لدار السياسة في عدة مرات بالتدخل السافر في شؤون الحكم المدني فكانت اخر مظاهره في سردية دواعي ومسببات ومبررات انقلابات عديدة منها انقلاب الثلاثين من يونيو نفسه عام ١٩٨٩.
فالمؤسسة العسكرية التى اتبعت سياسات اقتصادية تمييزية منذ النصف الثاني من حكم المشير جعفر محمد نميري ببحث الرئيس الأسبق عن رشى بيضاء اراد لها ان تبدو حميدة بتاسيس نوافذ تجارية تحت مسميات عديدة اختصت بالخدمات الاقتصادية المستقلة لصالح الأمن الغذائي للعسكريين واسرهم. وكان ان قننت وشرعت اعطاء الجيش اذنا قويا بالتدخل في العملية الاقتصادية والتاثير عليها.
وليس بغريب ان تستغل السلطة الاقتصادية المتنامية انذاك للاخوان المسلمين ما بعد (المصالحة الوطنية) وتبدا علانية في الكشف عن نوايا دعمها غير البريء للمؤسسة خاصة في الديمقراطية الثالثة ما بعد انتفاضة ١٩٨٥ والتقرب اليها بالحملات واشكال الاعانة كلما اصابها تضييقا من القوى السياسية الاخري متزامنا ذلك مع تمدد الاذرع الفكرية والاكاديمية المساعدة على اهمية تدين الموسسة العسكرية وافرادها في ظل حكم ديكتاتوري مستبد ومطلق اعطى لزعيمه امارة الخلافة الاسلامية باخذ مسمى امير المؤمنين ودفعه لتاليف كتاب ( يشك في التاليف الشخصي له من الرئيس الاسبق) بعنوان ( النهج الاسلامي لماذا؟).
لقد مثلت منظمة الدعوة الاسلامية وجامعة افريقيا والاكاديميات العسكرية والامنية المتخصصة كحواضن تدريبية لنزعة تدين افراد وجماعات المؤسسة العسكرية مدعومة بالسياسات والسلطة الاقتصادية للاخوان المسلمين والمنتظمة والمنظمة عبر الببنوك واستثمارات لعب فيها البترودولار الدور الابرز في فضاء اسلمة الاقتصاد تزامنا مع اطلاق نسختها المشينة الممثلة في قوانين سبتمبر ١٩٨٣. ادى الاهتمام السياسي الأشد وضوحا باقتصاد الجيش من قبل الاخوان المسلمين الى كوارث جمة تصدرتها كارثة مأساة انقلابهم نفسه.
ولا غرو ان حيثيات انقلاب يونيو ١٩٨٩ قد استثمرت في تخفيض الاوضاع العسكرية بنيل الهزائم في سوح وساحات الحرب مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في ابان الحكومة المدنية برئاسة الصادق المهدي. بل ان الترتيبات العملية للانقلاب (الذي تم التمهيد التنظيمي بشكل نشط ما بعد المصالحة الوطنية باواخر السبعينيات) قد امعنت في توظيف الهزائم العسكرية كمبرر لعدم قدرة المدنيين على ادارة المرحلة الديمقراطية وعلى توفير الحماية والتغذية الاقتصادية المطلوبة للجيش. ونتذكر جميعا ممن عاصروا تلك المرحلة وتابعوا الاحداث البيان الاول للمخلوع عمر حسن احمد البشير واشاراته المبعثرة بمتن الخطاب القائلة بتدهور الامداد اللوجيستي الحكومي للمؤسسة العسكرية والاشارة الى تدني وتدهور الاداء العسكري نتيجة ذلك بميادين القتال بقصور صنعته السلطة المدنية من حيث عدم توفير التسليح واللبس والتموين اللازم المطلوب.
لقد ذكرت ما سبق حتى ابين ان المطلب الصادر من هتاف ذائع للثوار بعودة الجيش للثكنات ليس بكاف ما لم يقترن باجراءات اعادة هيكلة للمفاهيم العسكرية نفسها في علاقتها بالممارسة السياسية والتي تبدا اولا بالغاء ثنائية عسكري (رسمي) ومدني (ملكي) كتميز يخول للاولي ممارسة الاضطهاد المسلح والاعتداء عليهم باستدراج العنف الوظيفي في الممارسة السياسية للجيش.
ويجدر التنبيه هنا الى ان مفاهيما ضارة كتلك لا يستقيم معها او يتناسق بحكم المؤكد بذل التنوير العسكري من اعلى مراتب القيادة للجنود باتباع استقامة اخلاقية ما في علاقتهم بالدولة المدنية وبالمدنيين او بالحياة السياسية المدنية، بقدر ما هو اجراء شكلي عابر ويمكن ان يكون مؤقتا. وهو كاجراء يستدعي سن قوانين فاصلة ومناطق محرمة بين الحياة العسكرية والمدنية تستهدف عودة الوعى كما اشرت سابقا ولكن بازالة الثقافة الموحشة والقاتلة التى تزرعها المؤسسة في عقول منتسبيها ومنها تعريف المواطنة على اساس الدين وهوى السلطان، بل الغاء ومحو كل ما يصور ان (الملكي) في ذمة العسكري كون ان الملكيين بشرا خطاؤون في ادارتهم المدنية ويحتاجون الى التصحيح المستمر والتنبيه الدائم بقوة السلاح.
والمفارقة الكبرى والمعلومة للعسكريين والمدنيين على السواء ان حروب ومعارك الجيش جميعها منذ الاستقلال حتى هذا اليوم هي حروب ومعارك سياسية داخلية بالدرجة الاولى حيث تؤكد حيثياتها المتنوعة والمتعددة على انحياز الجيش لخيارات سياسية بذاتها هي غالبا ما تعبر عن مصلحة القوة السياسية الحاكمة خاصة بعد ان شهدت المؤسسة العسكرية ما بعد انقلاب الاسلامويين او الجبهة القومية الاسلامية افظع ظواهر التسييس واوسع حالات التطهير السياسي على اساس العقيدة السياسية ما بعد انقلاب يونيو ١٩٨٩ وبصفة اشد ما بعد محاولة انقلاب الثامن والعشرين من رمضان عام ١٩٩٠.
اذن ووفقا لتلك الثقافة العسكرية النافذة في مفاهيمها العدائية للحياة السياسية المدنية الديمقراطية سوف تحمل عودة العسكر الى الثكنات اسباب عودتها مرة اخرى وبشكل اشد بؤسا وتحرشا بالحياة السياسية المدنية اذا لم تتبعها جملة من المهام التاسيسية الفارضة لعلاقة جديدة بين العسكريين والمدنيين وبين الحياة السياسية والحياة العسكرية.
وبذات مقصد القراءة واذا نظرنا الى ما حمله الاتفاق الاطاري من مفهوم (لانسحاب الجيش من العملية السياسية) يمكن وصف ان (الانسحاب )وما تستخدم من مفردة مقلقة كهذه تطير صباح مساء هذه الايام من اضابير مشمولات الاتفاق الاطاري وكذلك من افواه افراد مركزية الحرية والتغيير بانها لا تعني الانسحاب النهائي ابدا بقدر ما ترجح نوعا اخرا منه وهو الانسحاب التاكتيكي.
والاخير وكما هو معلوم ضرب من الانسحاب يتم تحت وجراء ضغوط وظروف استثنائية تقتضيه. وغني عن القول ان هذه الضغوط صارت ايضا مكشوفة ولم تعد سرا بما يطلبه التحالف الدولي والاقليمي بخروج الجيش من المشهد السياسي وهو تحالف له كل العذر في عدم الاحاطة بنيويا ب ( ظاهرة الجيش السوداني). وعدم الاحاطة هذه من المؤكد انها ستلد قصر نظر حتمي لمطلوبات ما بعد الانسحاب او الخروج والتي هي مفاهيمية وثقافية من الطراز الاول والخاص، وهو ما اشرت له بضرورة اعادة هيكلة متعلقات وعلاقات المؤسسة العسكرية بالسياسة والمدنيين.
وهنا وبدلا عن (المضايقة) او الضغط على العسكريين بمطلب اعادة هيكلة المؤسسة على رؤية القومية بواسطة مدنيين بالغاء التمكين الانقاذي او الاسلاموي ومظاهره بداخلها فان المؤسسة العسكرية بحاجة ماسة وقصوى لاعداد استراتيجية وطنية من قبل باحثين عسكريين قدامى بالاشتراك مع كفاءات بحثية مدنية عن وضعيات جديدة لا تفرق في مبادئها بين عسكري ( رسمي) و(ملكي) وان تدرس المناهج النظرية والتطبيقية للتنوع الثقافي وحقوق الانسان و المواطنة على وجه الحصر وان تعطى التنويرات وراء التنويرات للديمقراطية السياسية واهميتها وفائدتها للمؤسسة العسكرية اولا قبل ان تكون للمؤسسة المدنية وما سيتبعه ذلك من خير واستقرار على الحياة كلها ومنفعة للطرفين، وما يفتح المجال للنمو الاقتصادي القائم على اسس التنمية الوطنية المتوازنة.
ان القيام بمهمة وطنية جليلة كتلك يحتاج وقبل كل شي لتوفير اجواء الثقة بين المكونين حتى ينعكس امر توافقهما على كامل الحياة بالبلاد.
ولكن فان ما يستحق لفت النظر اليه راهنا هو ان الاطراف المنخرطة في ادارة امر الجيش والسياسة حاليا لا تساعد على احراز اهداف إستراتيجية كتلك لاسباب معلومة تتصل بغياب الثقة بينهما كما اصابتها بشكل مزمن بوباء النظر السياسي المحدود للحلول وتفضيلها كحلول سياسية.
لقد ازف الوقت للتحرر من اسر التفكير السياسي القديم الرامي الى صناعة الحلول السياسية الموقتة- فالحلول السياسية المؤقتة مثلها مثل الادعاء بان النظافة لمرة واحدة ستجعل الطريق وتحيله الى نظافة دائمة، فلا ترى في اعادة الكرة والنظافة اليومية المتكررة فائدة من ذلك. من نظافة وتنظيف المرة الواحدة ستجعل الطريق سالكا لا شك لقدر زمني سيكون محدودا وسرعان ما تنتهي فعاليتها وتنفذ طاقتها بعودة القاذورات والنفايات مرة اخرى بسبب عدم التخلص اصلا من ثقافة ومفاهيم الاتساخ والتوسيخ والتي اذا ما لم تصبح لاغية بتوفر الثقافة الاخرى المضادة فان ميدان السياسة وسوقها سوف يظل حاضنا للخطأ، جاذبا للذباب السياسي البشرى الذي هو آفة مجتمع السياسة ببلدنا السودان.
لكل ذلك اظن اننا بحاجة ولتصحيح العلاقة، والى الابد ان يتم تخليق طرف جديد في الحياة السياسية يضطلع بدور تخفيف توحش السياسة وانسنة الدولة والمجتمع بعد كل الذي اصابها من دوار وانهيار بعدم لعب مجتمع هذا اللاعب الغائب المؤمل تكوينه من باحثين ومثقفين عضويين وعلماء وفقهاء وطنيين مستقيمين بان يؤدوا دورهم السياسي الوطني بالانخراط داخل موسسة سياسية واحدة تضمهم جميعا ولا تذهب او يذهبون بمركبتها تجاه الاهداف السياسية المريضة بحب السلطة والسلطان بل بالسعي لخدمة الدولة بترقية محتواها على ثقافة نقد الماضي السياسي واخذ ما هو ايجابي منه والتخلص من سلبياته. لقد اذن الظرف حاليا واصبح ناضجا لتشكيل ذلك الحزب الحميد النوايا غير المتحرش بالدولة والمناصب كغنائم حرب بل كوسائل لخدمة الناس والوطن. واعتقد اعتقادا جازما اننا واذا ما انجزنا مهمة هذا التاسيس فسوف نفلح في اقامة الجمهورية السودانية الجديدة باخلاق وقيم جديدة مستمدة من خدمة اخلاقية باذخة وفرتها لنا ثورة ديسمبر المجيدة بعنفوانها وتضحياتها ورغبة الاجيال الجديدة لبناء سودان جمهورية جديدة.

wagdik@yahoo.com
///////////////////////////

 

آراء