ما بعد جوبا … بقلم: د. حسن بشير محمد نور – الخرطوم

 


 

د. حسن بشير
3 October, 2009

 

 

     انتهي مؤتمر جوبا و تفرق المؤتمرون بعد ان أصدروا بيانهم الذي وضعوا فيه خلاصة رؤيتهم عن مستقبل السودان كان مؤتمر جوبا في رأي إجراءا عاديا تقوم به المعارضة في كل مكان و لم يكن يستحق الضجة التي أثيرت حوله. بل ان مؤتمر جوبا لم يكن مؤتمرا للمعارضة بمفهومها التقليدي العادي و انما شاركت فيه جهات تكاد تسجل نصف الحكومة. الأطراف الحكومية التي شاركت هي الحركة الشعبية و فصيل مني اركو مناوي و جبهة الشرق و التجمع الذي يشارك في الحكومة دون ان يعترف بمشاركته. اكبر العيوب التي صاحبت المؤتمر هي المقاطعة الغريبة و غير المبررة من المؤتمر الوطني الذي تمت دعوته و اجل المؤتمر حسب طلبه لمدة اسبوعين. كل ذلك لا يجعل من المؤتمر شيئا سريا او مؤامرة تحاك خيوطها في الظلام. من جانب اخر فان المؤتمر لم يأتي بجديد الي الساحة السودانية و لم يضيف مشكلة لم تكن موجودة و انما و حسب تعبير السيد الصادق المهدي قد " حرك المياه الراكدة".

        كان من الممكن لمشاركة المؤتمر الوطني ان تضيف الكثير لأعمال مؤتمر جوبا خاصة في مسائل شائكة مثل تقرير المصير و النسبة التي يجب ان يجاز بها الانفصال ، إضافة لترسيم الحدود و معالجة مشكلة التعداد السكاني. لم اجد ما يبرر غياب المؤتمر الوطني كما ان مناقشتي لعدد كبير من الأكاديميين العاملين في الشأن السياسي لم تفيد بشيء غير الاعتقاد بان الأشخاص القائمين علي امر الحزب الحاكم في غالبيتهم قد أصبحوا علي قناعة بان حكم السودان قد أصبح حقا لهم ( حلالا بلالا ) لا يجب ان " يضايقهم " فيه او "يناوشهم" حوله احد. و تلك رؤية غريبة حقا ، اذ ان الأحزاب تأتي الي السلطة و تخرج منها و تعود اليها عبر ما يسمي بالتداول السلمي للسلطة عبر العملية الانتخابية في أي نظام ديمقراطي و قد ذهب المؤتمر الوطني الي تلك القناعة بنفسه عندما وقع اتفاقيات السلام الشامل و اعد الدستور الانتقالي للعام 2005 مع شريكه في السلطة ، الحركة الشعبية لتحرير السودان. اما اذا كانت القناعة السائدة لدي الأغلبية النافذة من أعضاء الحزب الحاكم " و بالتأكيد ليس جميعهم كما يعلم كل من يلم بأبجدية الشأن السوداني"، فان ذلك يعتبر بلاءا عظيما و شرا مستطيرا سيعصف بجميع ايجابيات اتفاقيات السلام و التحول الديمقراطي و يعيد السودان الي عهود من الظلام و القسوة و الألم. لن يستطيع أي حزب كان ان يحكم الي الأبد حتي في الصين. هناك جانب ملفت للنظر في مؤتمر جوبا و هو الحرية التي وجدها المعارضين الذين تم التعامل معهم برحابة صدر و احترام كبير و هو ما افتقدناه في الممارسة السياسية في السودان.

     كان المحور الاقتصادي في بيان مؤتمر جوبا هو الأضعف و أجد ذلك أمرا طبيعيا لان المؤتمر لم يكن مستعدا ان يفعل شيئا في الجانب الاقتصادي و لم يكن مسموحا له ان يقفز فوق حاجز قسمة الثروة المثبت في اتفاقيات السلام الشامل. لكن حتي في ذلك الحد كان المؤتمر عاجزا عن قول شيء مفيد في الاقتصاد. في المحور الخامس لإعلان  جوبا للحوار و الإجماع الوطني و الذي حمل عنوان " الوضع الاقتصادي و الاجتماعي " تاه الإعلان بين الأزمة الخانقة التي يعاني منها الاقتصاد السوداني " بعد امد طويل من الحكم الشمولي و سياسات التحرير الاقتصادي العشوائي و الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد منذ الاستقلال" ، أجراس الحرية ، العدد 482، 1 أكتوبر ، 2009م ، و بين " ضغط و تقليص الانفاق الحكومي و إلغاء الجبايات و الضرائب علي المستوي القومي و الولائي إلغاءا فعليا " و صولا الي " تقليص حجم مؤسسات الحكم علي كافة المستويات و ان تكون التنمية برضا و قبول المواطن و لمصلحته لا سيما في مناطق بناء السدود" المصدر نفسه. لعمري أجد تلك الرؤية مضطربة و غير واضحة من الناحية الاقتصادية و غير متماسكة و غارقة في التسيس حتي الإذنين .

      اذا كان ما ورد في الإعلان حسب المصدر الذي اعتمدت عليه صحيحا فعلي جميع الأحزاب السودانية المشاركة في المؤتمر و هي أهم الأحزاب و أكثرها تأثيرا في الساحة السودانية ، حسب راي ، عليها إعادة النظر في موقفها الاقتصادي و في كادرها المعتمدة عليه في وضع السياسات الاقتصادية ، خاصة اذا كانت تسعي جديا للمنافسة علي حكم البلاد. يبدو ان من اعدوا تلك الرؤية قد أحسوا بارتباك موقفهم فما كان منهم الا الاستدراك بالدعوة " لمؤتمر اقتصادي قومي ينظر في مسببات و جذور الأزمة و الحلول اللازمة للخروج منها " ، المصدر ذاته. يعني ذلك الاستنتاج ان مؤتمر جوبا لم يفعل ذلك ، أي انه لم ينظر في الأسباب و الجذور و الحلول الخاصة بالأزمة الاقتصادية.

  الرأي اعلاه في المحور الاقتصادي و الاجتماعي في إعلان مؤتمر جوبا سببه عدم وضوح المنهجية المتبعة في التحليل الاقتصادي و إبداء بعض المقترحات غير العملية. مثلا في نهاية الفقرة الاولي الخاصة بالشمولية  و العشوائية و الاختلالات و ردت عبارة " منذ الاستقلال" ثم عاد البيان مباشرة ليقول "يعاني الاقتصاد السوداني اليوم ..." و بذلك اختلط الماضي بالحاضر و بعد ان تم تحميل المسئولية لجميع الحكومات منذ الاستقلال عاد البيان الي مشكلة الاعتماد علي النفط و انهيار أسعاره و بذلك غاب عليه ان الجنوب يعتمد علي النفط نفسه بنسبة لا تقل عن 100% بكثير. من جانب آخر اقترح الإعلان " تقليص الإنفاق الحكومي و إلغاء الجبايات و الضرائب علي المستوي القومي و الولائي إلغاءا فعليا" هل هذا ممكن او منطقي؟ من قال ان تقليص الإنفاق الحكومي هو الحل للازمة الاقتصادية؟ الم يكن من الأفضل القول بضرورة تصحيح قنوات الانفاق و التوجه نحو الانفاق التنموي و الاهتمام بالبنيات التحتية و الخدمات الأساسية المنهارة في البلاد شمالها و جنوبها. ثم أي جنة تلك التي يريد لنا معدو الإعلان ان نعيش فيها ، تلك الجنة التي تلغي فعليا الضرائب علي المستوي القومي و الولائي. لم يذكر الإعلان رأيه حول المستوي المحلي هل تلغي فيه الضرائب ام لا ؟ اما الجبايات فهي ليست شيئا يفرض بقانون او توضع له لوائح و هياكل و انما هي تحصيل للضرائب و الرسوم المفروضة سواء بشكل قانوني او غير قانوني. علي اية حال الضعف الاقتصادي ليس شيئا غريبا علي المؤتمرات و المحافل السياسية السودانية، اذ لم تخلوا منه لا نيفاشا و لا ابوجا و لا البرامج الانتخابية بل و برامج و دساتير الأحزاب السودانية ، يبدو ان الصمت  كان هو الأفضل.

   من اكبر السلبيات التي خرج بها مؤتمر جوبا في رأي هي موافقة الأحزاب الشمالية الكبري علي ان يتم اعتماد نتائج الاستفتاء حول الانفصال بالأغلبية البسيطة. بالرغم من ان الممارسة العالمية عن الاستفتاء هي اعتماده بنسبة " 50%  + 1 " الا انه و لتعقيد الامور في السودان كان من الممكن العمل من اجل رفع نسبة الموافقة علي الانفصال بنسبة تصل علي الأقل الي 67% ،مع إمكانية النص علي معاودة الاستفتاء مرة اخري بعد فترة زمنية يتفق عليها. تلك الممارسة موجودة ايضا كما يحدث في إقليم كيبيك في كندا و الذي تمثل فيه نسبة السكان الفرانكفونيين حوالي 80% من السكان  . وضع السودان يختلف عن معظم الدول التي شهدت التفتت لعدة دول . لقد جعلت تلك الموافقة الانفصال اقرب من أي وقت مضي. في هذه الحالة من الضروري العمل علي ان يتم الانفصال في حالة حدوثه بشكل سلمي حتي لا يكبر حجم الخسارة و يؤدي الي حروب طاحنة ( حروب و ليس حربا واحدة ) ، بذلك الشكل سيخرج السودان باقل الخسائر الممكنة مع ان الانفصال سيشكل خسارة للسودان في جميع أنحائه و ليس كما يذهب البعض في تحليلات ، كل حسب ليلاه بان الجنوب او الشمال هو الخاسر الأكبر، مع الاحترام لوجهات نظررهم.

      يجب وضع السيناريوهات اللازمة للانفصال و التحسب للعواقب السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الأمنية. من الضروري حسم موضوع الحدود و تقديم الحوافز لما يعرف بالمناطق الثلاث. ستشكل تلك المناطق بؤرا حقيقية للنزاع العنيف لعدد كبير من الأسباب لا يمكن الخوض فيها في هذا المقام. اما عن النزاعات داخل الجنوب نفسه و عدم الاستقرار في الدولة الفتية المحتملة فذلك في نهاية الأمر موضوع يخص سكان الجنوب و عليهم تحمل نتائج قراراتهم أي كانت. من جانب اخر من الذي قال ان الانفصال سيكون سببا لمزيد من النزاعات؟ الا توجد نزاعات و معارك دامية الان في ظل الوحدة؟ ثم هل يعيش شمال السودان بعيدا عن الحروب الأهلية و النزاعات الدامية ؟ انظروا فقط نحو الغرب و الشرق و ستجدون الإجابة.

     بخصوص دعوة بعض الأحزاب السودانية للوحدة " بعد الانفصال " فان ذلك موضوع محير فاي دولة تلك التي تعلن استقلالها عن دولة اخري ثم تعود و تدعو برلمانها السعيد بالاستقلال ليعقد جلسة مع برلمان الدولة التي تم الانفصال عنها للاتفاق حول كونفدرالية فورية معها؟ تلك دعوة محيرة تشبه الملهاة.

 سيشكل عاملا الحدود و النفط الجوانب الأبرز في النزاع لذلك من الضروري الاتفاق حولهما قبل الاستفتاء. شكل النفط عاملا للاستقرار و من اكبر عوامل الدفع نحو اتفاقيات السلام الشامل. لكن و في حالة اندلاع حروب خاصة في جنوب كردفان و النيل الازرق او علي الحدود بين الشمال و الجنوب فان انتاج البترول سيتوقف. اصلا في حالة الانفصال فان الشمال سيفقد نصيبه من النفط المنتج في الجنوب تماما، اما بالنسبة للجنوب فان الانفصال لن يتم الا بموافقة الدول الغربية. في تلك الحالة يمكن تعويض الجنوب عن فاقد النفط الي ان يتم تغيير وجهة التصدير في اتجاه اخر لا يمر عبر ما تبقي من أراض سودانية و هذا امر ممكن خاصة و ان عدد المستفيدين من ذلك كثر بينما الخاسر الوحيد هو السودان الشمالي.

   علي المستوي الشخصي فاني من دعاة الوحدة و أري أنها في مصلحة جميع السودانيين غض النظر عن كل المظالم و التجاوزات التي حدثت و ستستمر لحين من الدهر ، مع ان المظالم وقعت علي عدد كبير من السودانيين في الشمال و الجنوب و لكن تتفاوت حدتها و الإحساس بها بين منطقة و اخري. مع ذلك يجب ان نكون واقعيين و ان نعد العدة لمختلف سيناريوهات الانفصال المتوقع و ان نعمل علي وضع الخطط و البدائل التي تمكننا شمالا و جنوبا من مواجهة الخسائر المتوقعة و التقليل منها قدر الإمكان ، مع ضرورة إرساء قواعد متينة للعلاقات المتبادلة و المصالح المشتركة في حالة الانفصال. و اذا لم نستطع ان نجعل من الوحدة جاذبة فلنجعل من الانفصال سلميا و ان يكون سببا للتقارب الاخوي المتين بين دولتين جارتين لشعب واحد بدلا عن شعب يقاتل بعضه بعضا في حرب أهلية لا نهاية لها. 

 

 

Dr.Hassan.

 

hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]

 

آراء