ما بين الشولة والتلال! (ثمة طريق ثالث)
إن إمكانية المعارضة في القيام بدورها الوطني مرهون ببراعتها على التفاوض خارجيا، كما هو مرهون بقدرتها على التعاقد داخليا. وكلما كان الخارج مزهوا بانتصار النموذج البراغماتي --الذي يؤمن بضرورة انتهاز الفرصة لإبرام الصلح بين المنهكين-- كمرحلة أخيرة من مراحل التفاوض المتابع إعلاميا، كلما أعلن الداخل غوايته كمرحلة أولى من مراحل الضياع الأزلي، ولتشتعل حينها الحروب. إن مأزق المعارضة اليوم هو مأزق أخلاقي وجودي وفكري قبل أن يكون مأزقا سياسيا وعسكريا.
يسعنا أن نقول أن المنصة الوطنية في هذه اللحظة قد اختطفت، علي الاقل إعلاميا، من قبل مجموعتين: القوى الطائفية والنخب المركزية التي أحست بخطورة زحف الريف والهامش السوداني على سلطة المركز، جعلها تتحصن بمنظومة القيم القديمة التي ما عادت تواسي مكلوما ولا تنصف مظلوما؛ والمجموعة الثورية من أبناء الريف التي انفعلت بالقضية حينا من الدهر وخاضت رحي الحرب، بيد ان انفعالهم هذا لا يعطيهم حق وراثة الوطن، كما أن قتالهم لا يعني احتكار المواطنين. فكلاهما له ادعاءات يلزم ان نأخذها على علاتها، وإلا فإنها لن تصمد أمام أي اختبار ديمقراطي بسيط. من أين تريدونني أن أبدأ؟ امّن الحركة الشعبية (قطاع الشمال) والتي لم تكتف بإقصاء المؤهلين من أبناء الشمالية، إنما أيضا استبعدت المفكرين المناضلين من أبناء الجبال، أمّن حركات التحرير الدارفورية والتي لم تسعد يوما بوجود المثقفين إنما استعانت ببعض التكنقراط من الدائرية الخشم بيتية للتجمل بهم أمام المجتمع الدولي. إن القدرة على المحاجاة وفضح اشكالات الآخر قد تجعل من القائد "ولد كليم" لكنها مطلقا لا تجعل منه بديلا يرتجى ولا مثالا يحتذى.
لا غرو، فقد أصبحت الخيارات جميعها خيارات مُروعة: ما بين ريف مسلح يفتقر إلي المعرفة والدربة –بل وينفضح متما طلب منه تقديم مجرد كوادر وسيطة او بسيطة، ومركز متخندق انعدم فيه الحس الوطني والأخلاقي، وأصبح يفضل أن يبقى السودان على حاله وإن استشعر الكل خطورة التشظي، حتى لا يخرج من الطوع، علي العمل والسعي لإحداث تحول نوعي يجبر المصلحة الخاصة والعامة.
حتي لا ندخل في متاهة مركز وهامش، فيغيراني المفكران محمد جلال هاشم وابكر ادم إسماعيل بنظرياتهما، اود أن اقول أن التقاطعات جميعا تنتهي هندسيا عند الدولة كمركز تتهافت عليه نخب الريف خاصة للحفاظ علي مصالحها مدعية النضال من اجل البؤساء والمساكين ومستقوية بوقائع الظلم التاريخي والاجتماعي؛ لا سيما أن المركز هنا وظيفي وليس جغرافي. وقد يكون وظيفي جغرافي لأن المُصَدِّرين للمنتجات كافة، مثل المواشي، الكركدي، الصمغ، الي أخره، يأتون من بقع جغرافية لا يوجد فيها ريكة أو مربط للحمير. فكيف بربك حازوا علي هذه الصفات التميزية؟ ربما الصدفة التاريخية.
لقد تحولت نخب الريف إلى قوى مستتبعة لمنظومات الفساد في المركز، همها الرئيس التزلف من أجل المصالح الذاتية، وهي اليوم إذ تحزم أمتعتها للرجوع الي الخرطوم انما تفعل ذلك بدافع الحنين الشخصي فقط الي الحيوات السرية والملذات التي ظلت تستطعمها بمذاق اللذة الاولي، خاصة أنها تعلم أن المعين قد نضب وأنه ليس هناك ثمة زاد يكفي منسوبي العصابة ناهيك عن "الغرابة" وسادتهم من "الجلابة." هؤلاء، اي الغرابة، قاسوا الامرين: فهم لم يحصلوا علي اعتذار من الجلاد ولن ينالوا اعتراف بتضحياتهم الجسام من الضحية.
وأنا اتابع احتفالية التوقيع احسست بغبطة هؤلاء الغرابة وهو يلتقطون صورا تذكارية مع الكهنوت --الوكيل الرسمي والمعتمد لدي المركز عبر التاريخ لتطويع الهامش السوداني، وقد نسوا أنه توطأ هو واسلافه مع الانظمة كآفة لقتل ذراريهم، سرقة مدخراتهم الروحية والمادية، واستثمار محن الشعوب السودانية بشتي مناحيها. إن امثال هؤلاء يستشعرون دونية لا تنفع معها المدافعة السياسية والعسكرية انما التربية الروحية والتعليم اللذان يبسطان لهم حقائق التاريخ مجردة. ليس هو صاحب الفضل علينا، بل نحن اصحاب الفضل عليه فقد ظل عاطلا وهو اسرته زهاء القرن يسترزقون من جهد اهلنا البسطاء (الجزيرة أبا: همس التاريخ، تأليف الكاتب د. الطيب أحمد هارون، مكتبة مروي 2014)، وما زالوا. خرج هذا الدعي وحاشيته من المنبهرين الولهين يبشرون الناس ب "عرس السودان" (ما الذي احوجهم لعقد نكاح من هذه العزبة التي تسمي السودان -- والتي ظنوا أن المستعمر قد اورثهم إياها -- فما فتئوا يمارسون معها السفاح حتي استذاقوا طعمها فوجدوها الف مرة أحلي وأبرك؟).
إن الفقر الذي يعانيه اهلنا في الريف وفي الغرب خاصة نشط من خلال عملية تاريخية من التطور الرأسمالي الذي ازدهر تحت القفاز المخملي للغش والقبضة الحديدية لفائض القيمية. واذا اقتصرت السيطرة الدينية لدائرة المهدي على الجزيرة ابا ونواحيها، فإن سيطرة الانقاذ قد شملت القطر كله. الأولى خلقت طبقة سلطوية وشيدت هرمية عرقية من خلال التقنين لنظام سخره هو أشبه بالعبودية، الثانية شيدت عوائق هيكلية أمام تقدم كآفة الفئات وخلفت فوضى ثقافية ترسخت بسبب التخلف التعليمي وعدم المساواة الاكاديمية. بيد إن هنالك فرق اساسي بين الطائفتين؛ فالأنصار صبروا رغم تبرم بعضهم معليين المصلحة العامة، والانقاذيون تصبروا مغلبين مصلحتهم الخاصة. طهرانية الأنصار وتجردهم تقابلها في هذه الحالة خسة الإنقاذين وشدة تكاليهم على الدينا. فالأنصاري كما يقول بابكر بدري "متجرد، معطا، ومقدام." وما يقابلها من صفات يتوشح بها الإنقاذي اينما حل ومن اي شعبة تدلي.
السؤال: لماذا لم يعول الكهنوت على طائفته وفضل التعويل على الإنقاذيين منذ اليوم الأول لولوجه عالم السياسية؟ إن أي التزام بالضوابط الاخلاقية للدين، حتى بالفهم التقليدي للكملة، يتطلب التعاطف مع الطبقات الفقيرة والعاملة. وهو وزبانيته من الإنقاذيين لا يريدون ان يتعاطفوا مع الفقراء بل إن هذا الموضوع يسبب لهم اكتئابا، ولذا فهم يرسمون حدود صارمة تحول دون التناول الحيوي للتدين، فيتخذون ضوابطا إعلامية ترسخ الوضع القائم بعد أن اعتلوا القمة. لك ان تلاحظ كيف يرَّوِيج للجوكية (من يستثمرون اموال المؤتمر الوطني) علي أنهم نماذج نجاح اقتصادي، فسرعان ما يصبحوا نجوم في مجتمعات تعاني من تسطيح ثقافي واضمحلال مجتمعي.
في الوقت الذي يقول فيه المناضلون أن خارطة الطريق ليس اتفاقا سياسيا، إنما خارطة لوقف العدائيات وقعتها الالية مع المؤتمر الوطني دون إضافة شولة، إنما مجرد وعد بتضمين ملحق. إن المؤتمر الوطني خبرهم في الفترة التي أعقبت (نيفاشا) ويعرف هشاشتهم وإمكانية توريطهم في الفساد المالي والاخلاقي دون ادني رهق. هؤلاء اناس منبتين اتخذوا من الثورية (او الدين) غطاء اخلاقي لدرأ عللهم التي تعمقت جراء التكوين الطبقي واشرأب مداها بسبب العقد التي علقت في شراك الاستقطاب الايديولوجي. من هنا يجب أن نفهم كيف عجزت هذه المعارضة بمكوناتها التقليدية ذات التاريخ الشائه والحداثوية ذات المسلك المرتاب عن "حشد نقاط الدعم الضرورية" لها من أجل الاطاحة بالنظام القائم. وإن كنت لا أظن أن هذا هدفا لهم. فيما يتشدق الكهنوت معلنا "أن النظام قد ادرك ورطته" فأنه ينسي أو يتناسى أنه لا يوجد نظام إنما دولة فاشلة فيها بعض جيوب الفساد التي ينسرب الي داخلها بعض الافراد دون أدني تأهيل (إنما مجرد المحاصصة الاثنية او العرقية أو القبلية التي ومن عجب لم تندبهم، لكنهم تسلقوا معتمدين علي اوزانها)، إنما إمكانيته لإتيان الفعل المعيب. لقد كانت "دولة الجلابة" أفضل في هذا الصدد، لأن أهلها كانوا يحصلون علي التمييز الايجابي تأهيليا وليس تمييزيا –علي الاقل، حتي عام 1989.
بالقدر الذي يريد فيه المرجفون إيهامنا بأن "نداء السودان" يمثل تشكلا لائتلاف من القوي التقدمية التي وضعت صوب أعينها المطالب الاصلاحية الانتقالية فإن الخارطة تمثل إطارا لا يمكن ان تعمل من خلاله علي مراجعة السياسات ذات التأثير الاكبر والاكثر قدرة علي تحويل النظام السائد في السودان باتجاه تعددية سياسية تتيح تداول السلطة بين النخب المنبثقة من شرائح اجتماعية، فتية، مثقفة ومعاصرة. اذا افترضنا أنها تسعى لخلق مجتمع اقتصادي مدني يعمل على اساس التعاون المشترك بين الشعوب، فهي لا تملك سلطة هيكلية حقيقية تؤهلها لاجتثاث الهيمنة والعلاقات الاقتصادية المستقلة للفقراء، ناهيك عن إيقاف الشبهات التي تتطلب بالضرورة وضع ضوابط إدارية للإتاوات.
إن الظروف الموضوعية التي دعت بعض الجماعات للاستقواء بالسلاح والانتقال من تل الي أخر تحملهم عربات الدفع الرباعي في صحراء الشمال والشرق والغرب لدعم حججها الوطنية والسياسية الملحة لم تنتف، بيد أن الاستقطاب الإيديولوجي قد سهل للمركز في فترة ما التلاعب بمقومات الهوية السودانية والعبث بمكوناتها الأساسية نتيجة لتمدد "الكمسنجية" في الفضاء العمومي (علي مستوي "البقعة" والتخوم) واستحواذهم الكبير علي الموارد المعنوية والمادية التي وظفوها لتزوير إرادة الجماهير وتجييرها صوب مصالحهم الخاصة. في محاولة لصرف النظر، مثلا، عن قضايا محورية تم إثارتها في الولاية الشرقية (دارفور) أثناء تقاطر الوفود لأداء واجب العزاء في وفاة الناظر سعيد مادبو أعلنت الرئاسة عن تبنيها لإنشاء مركز ديني في الضعين باسم الناظر. كتاب الله جاكم، هل دارفور في حوجه لدين وأي دين، ذاك الذي تسترق به العوام ام ذاك الذي تستثار به حميتهم لنصرة المظلوم والانتصاف من الظالم؟ يبدو أن ترياقا لزياد بن أبيه ما زال يغذي المشاريع الاستيطانية في العالم الاسلامي كآفة.
لقد جاء الدين لخدمة الانسان ولم يأتي الانسان لخدمة الدين. يظل التكافل رغم أنف المغرضين هو القيمة المحورية لهذا الدين الحنيف وليس التمكين. نحن في حوجة لبنية تحتية -- معنوية ومادية -- لن تتحقق إلا باستئصال العصابة العنصرية ومن قبلها الكمسنجية الذين نضب عرق الرجال في وجوههم وأمسوا يشبهون مومس سبعينية تشتهي الجماع من عبدها وهي علي فراش الموت. لا هي تأمل في توبة تمحو بها الإثم ويبدل الله بها سيئاتها حسنات ولا هو يطمع في وطرها لبؤسها ويباس عظمها. هكذا حال الكمسنجية مع الإنقاذ. فقد انتهي دورهم. لا هم يملكون شعبية يدعمون بها الافك ولا هي تملك مالا تسترضيهم به.
إن صعوبة إيجاد قنوات لممارسة الحق السياسي ديمقراطياً، أي الحصول علي التفويض الشعبي طوعياً وليست قسرياً، قد اعطى هؤلاء اوزانا غير طبيعية واسندهم مهاما يعتقدون زورا انها دستورية. اذكر أنَّ مسؤولا انقاذيا -- يبغضه كل الناس واستلطفه انا لصراحته، واذا شئت بلادته لأنه بمثل هذه التصرفات يبطل مفعول الهيمنة التي تعتمد أول ما تعتمد علي التستر وراء لافتات -- جمع هيئة نواب دار فور بالبرلمان يوما ووبخهم بجلافته المعهودة لمجرد مطالبتهم الحكومة بإنجاز بعض المشاريع التي وعدت بإنجازها وقال لهم بالحرف الواحد: انتم مفتكرين انو الجماهير جابتكم، انا بجبتكم وإذا شئت جبت غيركم. يا الله انصرفوا (باللهجة السعودية: هي انقلعوا)!
وإذ افتقرت الممارسة السياسية في المركز لموجه فكري وانعدمت الرؤي المستقبلية التي تتعامل بموضوعية مع واقع التفاوت الاقتصادي وحقائق الاحتقان السياسي والاجتماعي، فإن الثقة تظل مفتقدة --بل إن الهوة قد تعمقت-- بين النخب والقواعد الشعبية. كما إن عجز نخب الريف والهامش في تفعيل مجتمعاتها قاعدياً من خلال التعامل المباشر مع المواطنين في مدنهم وقراهم وعبر ممثليهم في محليات الأقاليم المختلفة قد حرمهم من الانخراط في عملية الخلاص الوطني عبر ممثليهم الحقيقين كي يتفادوا الآثار الاقتصادية السالبة للإقصاء الاجتماعي والسياسي، وأحياناً غير المتعمد. إن كتلا اجتماعية كبيرة جدا قد تم تجييرها لصالح مشروع إجرامي تحول فيه الضحية تدريجيا الي جلاد.
ان حقا تناله النخب ديمقراطيا من الشعب، فإنها لن تناله قسريا من المفوضات. وها هي الحركة الشعبية قد دفعت بورقة مبادئ تطالب فيها بإعادة هيكلة الجيش السوداني بشكل مهني وغير مسيس يعكس "تركيبة الشعب السوداني." الهيكلة تعني بالضرورة استعادة الهرم لوضعه المقلوب والذي يحتل الضباط قمته العريضة ويبقي الجند في إطار المعادلة الصفرية التي تتطلب بالضرورة أضعاف فصيل علي حساب الآخر. وهي إذ تطالب بتسريح كل المليشيات وعلي راسها قوات الدعم السريع فإن الحركة تعد بأن تصبح قوات الجيش الشعبي رصيدا لمطالب للشعب السوداني. هذا أمر غير مبدئي غير واقعي في ظل استقواء كل أثنية بسلاحها. من الناحية المبدئية، يجب التفكير في كيفية تفكيك كل الجيوش العرقية والحزبية لصالح وطن للجميع كما يقول الاستاذ/ محمد حسن التعايشي (الرئيس السابق لاتحاد الطلاب السودانيين بجامعة الخرطوم)، اللهم الا اذا كان الامين العام/الاستاذ ياسر عرمان ما زال يفكر في استعادة حلمه القديم والقاضي بدمج المشروع الحضاري مع مشروع السودان الجديد لحكم السودان كما ورد في لقاءه مع علاء الدين بلال.
من الناحية العملية، يجب أن نفكر جميعا في مناقشة الظروف الموضوعية التي دفعت هذه المجموعات لحمل السلاح وان لا نكتف بالنظرة الفوقية التي لن تساعد الا في انتشار الحرب واشتداد اوارها، خاصة إذا احست الكتل الاجتماعية قاطبة علي مستوي الحزام -- حزام التجانس/التماس -- بانها المستهدفة وليس فقط فصيلا بعينه. لا سيما أن الكيان بأكمله ظل متوجسا من نوايا الحركة الشعبية قطاع (شمال السودان)، وحق له أن يفعل خاصة بعد أن رأي تصرف قرينتها في الجنوب. اذا كان هذا ما فعلوه بأهلهم، ما الذي سيفعلونه بأهلنا؟ هذا السؤال يتبادر الي ذهن العامي اولا واخيرا. لماذا تأتي إذن المطالبة من الامين العام وهي تصب في مصلحة النظام الذي لم يستطع حتي الان أن يخلق علاقة عضوية مع هذه الكيانات بالرغم عما يصطنعه من روابط تاريخية بين سائر الكيانات العربية ومحاولته، ترويجه لنظرية الهلال العربي الاسلامين واستثارته لها ضد الزرقة (التورا بورا في الخطاب غير الرسمي للعرب)؟ إن الجنجويد في الخطاب غير الرسمي للحركات هم القبائل العربية بدارفور علما بأنهم لم يأتوا عبر القبيلة ولا يمثلون سلطتها الاخلاقية أو التاريخية. لكنهم قد يكونوا اسعد الناس بهذا التصنيف إذ هم في إطار الحمية يجنون المكاسب الشخصية. إن اولي خطوات الحل هو فك الارتباط بين الكيانات الراسخة والملتزمة وكآفات المجموعات التي استجابت لمسعي شيطاني بذلته الانقاذ في كآفة الاتجاهات وهو قد آتي اكله في بقعة ما لظروف يعلمها الجميع.
إن نزع السلاح يجب ان تسبقه محاولة قاعدية لنزع فتيل العداوة، وذلك بالتعويل علي الثقافة التي تعطي الناس فكراً بدلاً من الأسلحة القاتلة، وبهذا تنشأ جماعات متعافية وثقافات تعتمد على الفكر المستنير الذي يهدف الي رفع قيم "العقلانية الجماعية" من جراء التثوير للإرث السوداني الضخم والذي ظل طويلاً في حالة من الجمود. ومن ثم تحرير الفرد – رجلا او امرأة – والذي ظل لعدة قرون رهناً لقساوة السلطوية و"التبجح المركزي العقيم." إن البرامج التنموية العازمة علي إنهاء تهميش الحكومة للأطراف لا تقل أهمية. فقد ظل الرعاة لمدة طويلة من الزمان يتعايشون مع السكان المحليين في دارفور وكردفان ولكنهم كانوا غير متكاملين مع الدورة الاقتصادية ومعزولين من المنابر السياسية والثقافية وكانوا يواجهون التهميش، الأمر الذي يساعد على تفشي الغبن والأحقاد الشخصية، مما كان له تأثيراً سالباً على الحياة الاجتماعية وقد يعيق أي تسويات سلمية. يجب تأكيد دور الكيان العربي كجزء متكامل في الوعي الاجتماعي والمشورة. وأن لا نكتفي بتجييرهم لصالح النظام او اعتبارهم غير موجودين. فهم من اليوم وصاعدين موجودين وإن كانوا غير فاعلين إلا في دائرة الحرب –شأنهم شأن غيرهم. هذا هو الطريق للسلام الشامل في السودان واي حديث غير هذا فهو مجرد هراء. على الناشطين تجنب الشطط المتمثل في الأفكار الجامدة او البليدة وأن يعملوا مباشرة وسط الرعاة من خلال محيطهم بدون أي سمسرة اجتماعية.
ختاما، إن الفراغ السياسي قد خلف إحباطاً عاماً وتوجساً جعل من الصعب على الجميع، التنسيق، التنظيم، والتواصل بين كآفة المجموعات السياسية والمدنية. بيد أننا يجب أن ننظر الي ما بعد الملهاة (واذا شئت المأساة) ونتوق الي استشراف رؤية مستقبلية، تترجم الي خطة تنموية تدعمها مقدرات مؤسسية ربما تسهم في تحقيق النهضة القومية والكرامة الانسانية. إن الاعلام المزدوج والذي ظل يروج لفترة طويلة لثنائية معارضة/حكومة قد الهي السودانيين عن الطريق الثالث والوحيد المتمثل في أهمية استنطاق الأغلبية الصامتة من خلال السعي الدؤوب لكسر حلقة الانعزال الفكري، الطبقي والمكاني. صدق الاستاذ/علي محمود حسنين في مناشدته إذ يقول "إن قوي المقاومة لاتمثل حزبا ولا كيانا ولكنها تضم بين حناياها كل الكيانات الوطنية الجادة وكل المواطنين الشرفاء وتعبر عن معاناة الوطن والمواطن" (سودانيل، 8/8/2016).
إن السعي لتشييد وطن مستوعب للجميع في سلام مع ذاته، ومع محيطه الإقليمي، وبقية دول العالم يتطلب استجماع طاقات السودانيين ودفعهم إلى الاستثمار الحيوي في مواردهم الروحية الغنية والمادية المتدفقة وذلك من خلال العمل التدريجي والدؤوب اللازم لتطوير الوعي الجمعي للنخب ولكافة المواطنين بهدف الوصول إلي رؤي مشتركة، ليست فقط نظرياً إنما أيضاً تفاعلياً. لا سيما، تفعيل القيادات الشبابية/الطلابية، الكوادر النقابية، والفاعليات التنظيمية ثقافياً وفكرياً واستنهاضها حتي تقوم بدورها الطليعي واللائق في تحقيق التحول المنشود نحو الحرية، السلام والاستقرار.
إن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وكل الاجندة التفتيتية التي ما فتئت تبثها الامبريالية بعد الحرب الباردة ويرددها الناشطون والسياسيون العاطلين مهمة بالقدر الذي تتحقق بها للإنسان كفايته. فالجماهير التي نزلت للدفاع عن الديمقراطية في تركيا (بكل ما لدينا من تحفظات على الديمقراطية الاردغانية) كانت لها مصلحة حيوية واقتصادية ومعيشية للدفاع على النظام الذي زاد حجم استقطابه للاستثمار الأجنبي من 50 بليون إلى 150 بليون دولار في أقل من حقبة من الزمان. لم يعد مقبولا التفكير في المبادئ كأشياء مطلقة، بل لا بد من إطار مقيد. مثلا، عندما يفكر الخبير أو السياسي الجدير في الحرية فهو يعتنى بها كقيمة إنسانية لا يمكن ان تزدهر إلا في إطار تنموي. ماذا تعني الحرية بالنسبة لنساء افريقيا اللاتي يفلحن 60% من الارض إذا كن يملكن أقل من 4% منها؟ هذا في حد ذاته ليس التحدي إنما النتيجة.
بالرجوع إلى اصول عدم المساواة يلزم رجل السياسات ان يفكر في إزالة العوائق الهيكلية التي تقف عائقا أمام تقدم المرأة اجتماعيا وإقتصاديا (مانينغ مارابل، 2015). إن رجل السياسات لا يمكن ان يفكر سياسويا، لكن السياسي يلزمه ان يفكر غائييا. ما الذي يسعى لتحقيقه المعارضون من السياسة غير البيت، والعربة والفيلا الرئاسية؟ إذا أحست المواطنة أو المواطن بصدقيتكم ورجاحة منهجيتكم فإنها ستلهمكم عبقرية التغيير. في هذه اللحظة، يحس الشعب أنكم تريدون فقط استعادة ما فقدتهم من امتيازات. وإلا فكيف عجزتم عن مخاطبته واكتفيتم فقط بمناشدته؟ الأولى فيها وقار وندية، والثانية فيها كبر وعنجهية. كي يتفاعل الشعب مع رؤاكم فلا بد له ان يحس بفارق بينكم وبين الانقاذ في المنطلقات والمالات. إن القيادة النوعية ذات القدرات التحولية -- حتما ليس التطبيعية -- هي التي تستنهض همة الشعب وتعطه الأمل في ان يكون وينتصر. تعلمت درسا في الوطنية من احدى النازحات، سيدة ستينية، اجرينا معها حواراً انا وبعض الرفاق، فقالت لنا بصوت راسخ ونبرة رزينة "يا عيالي ترانا صابرين امشوا نجضو شغلتكم وتعالوا لينا بنصر مبين". ايقنت حينها ان اي حل يقف دون تحقيق التسوية الوطنية الشاملة فهو خيانة عظمي لشعب قدم كل هذه التضحيات. واذا شيئت فأقرا "قصيدة الشعب" لشاعرنا الجليل حميد.
auwaab@gmail.com