ما بين الواقع والخيال… حمدوك بروموثيس السياسة السودانية

 


 

 

في خلوة تأملية ألجأ اليها عادة عندما يصطرع بدواخلي صوت العقل مع إنفعالات العاطفة. وجدتني في بادئ الأمر أميل بحس العقل للإتفاق مع منطق حمدوك بأن "حقن الدماء" الذي برر به موقفه على توقيع الإتفاق مع عساكر الانقلاب موقف يتسق والفطرة السليمة التي يقرها العقل ويدعمها المنطق. أغمضت عيني متخيلاً إنفصام عُرى هذا الإتفاق لسبب ما من رعونة أو عنجهية أو قابيلة لإستفزاز مستكنة في خلايا العسكر، لا أحد يستطيع أن يقطع بإستحالة وقوعها. كدت أن ألمح الحيرة تترسم على وجه حمدوك وقتها وقد إصطدمت آماله بصخرة عناد حرون ما رَعت للعهودِ وعود، والدماء مسفوحة بين جنبات الطريق في الخرطوم ومدني والأبيض ونيالا وكوستي بورتسودان ودنقلا وسائر مدن السودان الكبرى... فتذكرت قصة بروموثيس في الميثولوجيا الإغريقية. فقد كان بروموثيس المنحدر من سلالة الآلهة الأقوياء والذي يعني إسمه فيما يعني (بعيد النظر) محبٌ لبني البشر، ميالٌ لمساعدتهم، ومؤمنٌ بقدراتهم. غير أنه ولفرط حبه لهم تجرأ على سرقة شعلة من النار التي كانت مِلكاً لكبير الآلهة زيوس، وأعطاها لهم عسى أن يكون بمقدورهم تطويع عناصر الطبيعة ، وطهي الطعام. فما كان من زيوس بعد أن إكتشف السرقة، إلا أن عاقبه بأن قيده بسلاسل فولاذية وسلّط عليه نسر ضخم ينهش كبده كل صباح جزاء على فعلته.
فجأةً ترددت في ذاكرتي كلمات البرهان في ختام حديثه بعد التوقيع وهو يجزل شكراً خاصاً لعبد الرحيم حمدان على "سهره لإنجاح الإتفاق".
غُصتُ في أعماق نفسي، أرخيت جسمي لحالة تأمل صوفي حتى ذهلت عن الوجود. وبينما كانت مروحة الهواء في سقف الغرفة تصدر صوتاً يتردد "برثم" ثابت، أصغيت للصوت المنبعث من المروحة ملياً فأدركت أنها تردد شيئاً أشبه بنغمة ألفتها مسامعي كثيراً في الآونة الأخيرة (الشعب أقوى أقوى والردة مستحيلة).
قلت لنفسي وكأني قد عدت من مكان بعيد بأنفاس متقطعة :( صوت الشعب أضحت تردده حتى الجمادات فهل يُلقي السمع "بعيد النظر"؟!)
د.محمد عبد الحميد

 

آراء