الزبير باشا لم يكن نخاساً.. وهو الذي أثنى النور عنقرة عن تجارة الرقيق
دولة الجنوب التي كانت جزءاً منا أقرب إلينا من بريطانيا التي كانت تستعمرنا
ليس صحيحاً ما يزعمه أخي وصديقي وزميلي وابن عمي الشريف أحمد الشريف عثمان بأنَّ موقفي الايجابي الداعي للتواصل مع الجنوب والجنوبيين نابع من إحساسي بالذنب، ومحاولة لتكفير ما فعله جدنا الأمير النور عنقرة في حق بعض الجنوبيين عندما كان يعمل في تجارة الرقيق قبل المهدية. فالأمير كفَّر عن ذلك بنفسه عندما أقلع عنه مبكراً استجابة لدعوة الوطني الثائر الزبير ود رحمة ود منصور «الزبير باشا» الذى شوه المستعمرون صورته فأوهموا الناس بأنه كان نخاساً، ذلك أن الزبير هو أول من قاد ثورة التحرر والتواصل العفيف والايجابي بين الشمال والجنوب.
فالزبير باشا لم يعمل مطلقاً في تجارة الرقيق، والزبير كان يشتري، ولم يبع قط، والذين كان يشتريهم كان يختارهم من بين الاقوياء من المحكومين عليهم بالاعدام لأسباب جنائية .
وكانوا جميعاً تقريباً من قبيلة «النيام نيام» الذين كان لهم سوق لبيع المحكومين بالاعدام، فكان الزبير باشا يشتري من هذا السوق الرجال القادرين على حمل السلاح ويفديهم من الذبح ثم يضمهم الى جيشه الذي كان يحمي به تجارته، وكما قال المرحوم الرائد عصمت حسن زلفو في كتابه «كرري» إن هذا هو سر إخلاص ووفاء جيش الزبير له.
وعلى يد الزبير قامت ونهضت العسكرية السودانية، وقادة جيش الزبير هم الذين قادوا معارك التحرير الوطني الأول للسودان في المهدية، وهم حمدان أبوعنجة والزاكي طمل والنور عنقرة، والزبير باشا هو أول من قاد ثورة إجتماعية في التواصل بين الشمال والجنوب، فعندما ذهب الى بحر الغزال أول ما فعله أنه تزوح من «رانبوة» ابنة السلطان «تكمة» في منطقة «باية» التي تعرف اليوم بـ «ديم الزبير» ولقد حذا قادته ورجاله وأصدقاؤه حذوه، وفي مقدمتهم جدنا الأمير النور عنقرة الذي تزوج أكثر من امرأة من جنوب السودان، ولقد فعل ذات الفعل أشهر أبنائه عمنا «مكي» الذي ارتبط بجنوب السودان مصاهرة وإقامة وتجارة، وكان من أشهر رجال مدينة جوبا، ولقد اشتهر بقتل الأسود والنمور، التي كان يقابلها وجهاً لوجه، وارتبط أبناؤه أيضاً بالجنوب، وكان أكثرهم إرتباطاً «روشان» و«علي» عليهم الرحمة، وكان مثلهم ابن عمنا «خالد عباس النور»، ولقد وجدت مرة في أويل واحداً من أحفاد الأمير يعمل في الشرطة.
فصلتنا الأسرية بالجنوب هي صلتنا بكل أنحاء السودان وقبائله التي ربطنا بها جدنا الامير النور عنقرة عبر زوجاته الخمسة عشر بعد المائة اللاتي شملن كل قبائل السودان المقيمة والوافدة سوى قبيلتين استثناهما، قال إن الأولى لا يثق في أهلها، ويقلل من بشرية الثانية.. وهما وحدهما من بين القبائل السودانية اللاتي لا أجد لي فيهما «ابن عم».
ومما انتهجه الأمير النور عنقرة من سلوك لربط الأسرة بكل أهل السودان أنه كان «يشلخ» أولاده وأحفاده بشلوخ اخوالهم، ولقد فعله معهم جميعاً إلا حفيده ابن عمتنا أحمد الحاج، الذي كان والده من التعايشة، فلما أتوا له به بعد ميلاده، قال لهم إن هذا الولد فارس ويشبهني فشلخوه شايقي، ورغم أن النور عنقرة من البديرية الدهمشية ونحفظ نسبه حتى بدير ولكنه شُلخ شايقي مع أبناء عمومة له في المنطقة، وهو من منطقة «أبكُر» نواحي الدبة من ملوك «الدُفار»، وكان يعز الشايقية ويعتز بهم، ولم يخيب أحمد الحاج ظن جده الأمير، فجاء فارساً، وساعده حجمه على ذلك، وكانت مثله اخته المرحومة «حرم».
إن مثل صلتنا وتواصلنا بالجنوب، توجد في أكثر الأسر السودانية الأصيلة إن لم يكن كلها، والسودانيون متداخلون مع بعضهم البعض ومتزاوجون ومتصاهرون، وقبائل السودان العربية أتى مؤسسوها الى السودان رجالاً دون نساء، وتزاوجوا مع الذين سبقوهم في هذه الأرض من الزنوج والنوبة والبجا بفروعهم المختلفة، ومكوناتهم العديدة المتعددة، فكان نتاج هذا التزاوج هو التركيب العبقري الذي اسمه السودان، والذي لا يوجد له مثيل في أية بقعة من بقاع الأرض.
وأذكر في واحدة من حواراتي مع أخي الشريف أحمد الشريف قلت له أنت حبوبتك السيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنا جدي العباس بن عبدالمطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل إذا ذهبنا بأشكالنا هذه الى نواحي ديار مولد الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم وقلنا هذا النسب .. فهل سنجد من يصدقنا، فمن يحسن بنا الظن ينسبنا الى سيدنا بلال رضوان الله عليه، ولكن حتماً سيجري علينا ما جرى على الذي ذهب إلى تلك الديار أو قريباً منها فسأله مخدمه عن اسمه فقال له «عبيد» فرد عليه المخدم «أدري أنك عبيد بس ايش اسمك»، وفي رواية أخرى «أدري انك عبيد، بس مين في العبيد»، ولعل هذا هو سر هروب السودانيين من اصولهم الافريقية، فبعضهم يظن أن الزنجي «عبد» ولو كان جده سلطان، وبعضهم لا يعرفون اصولهم الافريقية، ذلك أن أجدادهم لم يفعلوا ما يوثقون به هذا النسب، وبعضهم لم يقم أسراً، وبعض أخذ أبنائه وترك أمهاتهم، أو سرحهم سراحاً غير جميل.
ومن الإدعاءات غير المقبولة أن البعض يزعمون أنهم يعلون من شأن النسب لآبائهم لأنه كما يقولون «الجمل يقاد من الرسن»، ولو عممنا هذا القياس لخسروا خسراناً كبيراً، فالاشراف مثلاً يمتد نسبهم الى الرسول صلى الله عليه وسلم عبر ابنته فاطمة الزهراء، فبمثل هذا القياس لا يصل احد البتة الى النسب النبوي الشريف، أما مجموعتنا الجعلية التي تنتسب الى العباس بن عبدالمطلب رضى الله عنه فإن في سلسلة النسب تدخل أكثر من امرأة لتوصلنا إلى عم الرسول صلى الله وسلم. فلو أخرجناهن وقدنا الجمل من الرسن لتاه بنا النسب. ولذلك فإن انتسابنا لنبي الله الخاتم هو الذي يحقق لنا الشرف العظيم، ونرتقي في النسب كلما ارتقينا في تجويد العمل الصالح «ومن ابطأ به عمله، لن يتقدم به نسبه»، أما عروقنا ودماؤنا الافريقية والنوبية والبجاوية فهي التي تجمعنا، ولا تجمعنا دماء غيرها. فتلك هي المعروفة، وفي السودان يقولون إن الخال يحسم إنتماء ابن أخته اليه، ولا يفعل ذلك العم لابن أخيه، فدماء حبوباتنا هي التي تجمعنا، أما آباء أهل السودان فهم خليط من الملل والنحل، فغير أجداد أخي الشريف احمد المنسوبين للعترة النبوية، وغير أجدادنا العباسيين، فإن هناك بعض الناس جاء أجدادهم الى السودان فارين من ظروف شتى، وجاء بعضهم مرافقين لغزاه استعمروا بلدنا، وجاء آخرون في طريقهم الى الحج فطاب لهم المقام، وجاء آخرون مرشدون وعمال، وبعضهم ضل بهم الطريق، فتكوَّن من كل هذا الخليط المتنافر مزح عبقري اسمه السودان.
وكثير مما يكتب هذه الأيام ويتخذ من قرارات واجراءات تجاه الجنوب والجنوبيين، مبعثه احساس بالغبن، لأن أهل الجنوب اتخذوا قراراً بشبه اجماع للانفصال بأرضهم لتكوين دولة خاصة بهم، رغم ما فعلنا من أجل أن يظل السودان وطناً واحداً موحداً أرضاً وشعباً، وبرغم أن الذي جرى كان قاسياً، وما كنا نريد له أن يكون، وبرغم أن الذين قادوا الجنوبيين لاتخاذ هذا الموقف قد ظلموا ظلماً كبيراً يستحق كل الغضب، ولكن قول الله تعالى في ذلك واضح وصريح «ولا يجرمنكم شنآن قوم على الا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى»، ثم أننا لا يمكن أن نأخذ البرئ بجريرة المذنب «ولا تزر وازرة وزر أخرى»، فما ذنب الجنوبيين الذين انقطعت جذورهم بالجنوب وتواصلت في الشمال، أن تنزع منهم جنسياتهم، ولقد فجعت الاسبوع الماضي بخطاب إنهاء الخدمة الذي وصل إلى الأخت مها جادين من وزارة الثقافة في مدينة الابيض، والفاجعة الاكبر من الخطاب حفل الوداع الذي اقامه لها زملاؤها في العمل، وكأنهم اقتنعوا أن مها ليست سودانية، وهي ووالدها مولودان في مدينة الابيض، وجدها المولود هو واجداده في مدينة أم درمان جاءوا إلى عروس الرمال قبل نحو مائة عام، فمن من الذين اقاموا حفل الوداع يمتلك حقاً في المدينة أكثر من مها جادين، وآل جادين يسكنون في أعز أحياء الابيض في «الربع الثاني» وهم الاقرب الى سوق المحصول، وسوق ابوجهل، ومدرسة الابيض الأميرية، وهم الذين بنوا المديرية وبيت الوالي وكل البيوت الحكومية، وهم الذين أسسوا فريق «الاهلي» صاحب أول فكرة لمدينة رياضية بالسودان، فمن يمتلك حق نزع الجنسية من هؤلاء، ولقد عجبت من اللجنة التي تكونت لمعالجة هذا الأمر من اعيان المدينة بقيادة ابن عمنا الأمير الزين ميرغني حسين زاكي الدين امير البديرية وشقيق الوالي معتصم الاكبر، وصاحب الكلمة عليه وعلى أهل المدينة، عجبت لأمر هذه اللجنة التي عجزت عن فعل شيء، ولقد التزمت بقرارهم بعدم الكتابة حتى يحلوا الأمر بهدوء، ولكن بعد أن وقع اهل الابيض في الفخ، فبدلاً من أن يتضامنوا من «مها» اقاموا لها حفل وداع، فبعد هذا «كلام ود راجل واحد بنسمعه مافي»، ولن نسكت حتى يحق الله الحق، ولنهلك دون أن يهلك السودان الذي يعمل البعض على تمزيق نسيجه الإجتماعي بمثل تلك القرارات والاجراءات غير المسؤولة.
واتفق في هذه المرحلة مع الذين يرفضون تعميم الجنسية المزدوجة لينالها كل الجنوبيين، ذلك ما دام أن الجنوبيين اختاروا بشبه اجماع الانفصال، وأسسوا دولتهم الجديدة، فلابد من مرحلة لتمام قيام الدولة وبيان معالمها، لتقوم بعض العلاقات على بينة، ولكنني لا اتفق مع القول بأن كل من يحوز جنسية الدولة الجديدة تنزع منه جنسية السودان، فبعض السودانيين اصولهم جنوبية ولكنهم لا يربطهم بالجنوب شيء سوى تلك الاصول، فإذا منحت الدولة الجديدة هؤلاء الجنسية، يجب ألا يكون ذلك سبباً لنزع جنسيتهم السودانية، وبعض آخر من الشمال ولكن تربطهم بالجنوب اقامة او مصالح، فلو أن هذه الروابط منحتهم جنسية الجنوب يجب ألا يؤثر ذلك على جنسيتهم السودانية أيضاً ..
وقانون السودان لا ينزع الجنسية السودانية من الذي حاز غيرها لأي أسباب، ولا أقول يوجد الآن عشرات الآلاف من السودانيين يحملون جنسيات دول أخرى ويحتفظون بجنسياتهم السودانية، ولكنني أقول يوجد نحو عشرة من الدستوريين والوزراء في حكومتنا الموقرة يحملون جنسيات دول أخرى، ولقد سبق للسفير البريطاني أن أعلن اعتزازه بوجود عدد مقدر من منسوبي دولتهم العظمى في مجلس وزراء حكومة السودان، فأيهم أقرب إلينا، منسوبو دولة الجنوب التي كانت حتى أيام قلائل جزءاً من دولتنا، أم رعايا بريطانيا التي كانت تستعمرنا، فمالكم كيف تحكمون؟؟!.
Gamal Angara [gamalangara@hotmail.com]