مجلس السيادة فرقة متعددة الرؤوس ومهام شكلية وسلطات تم استلابها

 


 

 

لم يخرج السودان في تجربته السياسية خلال العهد الوطني في فترات الانتقال من الأنظمة العسكرية إلى محاولة تأسيس نظام مدني، من نموذج مجلس السيادة ذي الرؤوس المتعددة، بدلاً عن رئيس واحد وذلك خلافاً لما يقوم عليه نموذج النظام البرلماني الذي يعتمد على رأس واحد، وهو النموذج الذي ظل يستهدي به السودان في هيكل الحكم، بما في ذلك ما تم التواطؤ عليه في الوثيقة الدستورية في فترة الانتقال الحالية.
تعود فكرة مجلس السيادة متعدد الرؤوس، إلى ظروف تاريخية صرفة لازمت التحول من النظام الاستعماري إلى الاستقلال. فقد اختمر هدف عام باشراك السودانيين في مجلس الحاكم العام لتأهيل طيف واسع من القطاعات السياسية السودانية للحكم الذاتي ويعاون الحاكم العام، ومن ثم فإن اتفاقية تصفية الإدارة الثنائية عام 1953 ضمنت وجود تمثيل سياسي متعدد يعاون الحاكم العام خلال فترة تقرير المصير، فنصت على أن يمارس الحاكم العام إبان فترة الانتقال السلطة الدستورية العليا داخل السودان بمعاونة لجنة خماسية. ثم صدر في العام 1954 قرار تكوين لجنة الحاكم العام والتي ضمت خمسة أعضاء يمثلون تيارات سياسية مختلفة. وقد أصبحت هذه الفكرة بعد الاستقلال أمراً لازماً في الهيكل المؤسسي وضمنت في الدساتير المختلفة التي نظمت أعمال فترات الانتقال بعد أعوام 1956 و1964 و1986 وأخيراً بعد انتصار ثورة ديسمبر في 2019. فهذه الفكرة ليست أكثر من فكرة تاريخية لم تستند إلى واقع حقيقي لممارسة السلطة في البلاد ولا على دراسة جدوى حول فائدتها للأداء السياسي والتنفيذي. كما أنها فقدت بريقها بعد التخلي عن الرئاسة المتداولة لأعضاء مجلس السيادة في فترة مبكرة من تاريخ السودان.
ومن الواضح أن الفكرة قد وجدت قبولاً لدى القوى السياسية، حيث أنها قد أشبعت شغفاً لممارسة السلطة ما كان يمكن أن يبل لولاً فكرة تعدد رؤوس المجلس السيادي وزيادة المناصب التي يمكن توزيعها. وقد بدأ الإحساس بضعف فكرة تعدد رؤوس مجلس السيادة منذ بدايات الاستقلال فقد حكى السيد الدرديري محمد عثمان تجربته في مجلس السيادة الأول الذي تم تشكيله عقب الاستقلال واشتكى مر الشكوى من عدم وجود صلاحيات لمجلس السيادة، وأنها اقتصرت فقط على محض النصح، فأورد في مذكراته (عندما شغلنا مناصبنا كأعضاء في مجلس السيادة نحن الخمسة أحمد محمد صالح وأحمد محمد يسن وعبد الفتاح المغربي وسرسيو ايرو وشخصي، كنا تعتقد أن لدينا ما نصنعه، غير أننا وجدنا بالممارسة أن الدستور سلبنا كل شيء. استغفر الله بل كان لنا شيء هو أن ننصح كانت لنا النصيحة ولم يكن لنا سلطة النقض أو الفيتو).
بالنظر لمجلس السيادة الحالي الذي تم الاتفاق على صيغته وحددته الوثيقة الدستورية بعدد أحد عشر عضواً منهم خمسة مدنيين تختارهم قوى إعلان الحرية والتغيير وخمسة يختارهم المجلس العسكري وعضو مدني يتم التوافق عليه بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير. ثم تمت زيادة الأعضاء بإدخال ثلاثة أعضاء آخرين بعد اتفاقية سلام جوبا. فالقاسم المشترك في تحديد هذه الأعداد هو توزيع المناصب الرفيعة على أكبر قطاع ممكن من الطيف السياسي الحاكم وإيجاد موطئ قدم لهم في مركب السلطة، وعلى التحقيق لم يكن كثرة المهام الملقاة على عاتق أعضاء المجلس ولا خطورتها تمثل أدنى اهتمام عند الموافقة على عدد أعضاء مجلس السيادة في الوثيقة الدستورية.
السؤال الكبير الذي يمكن أن يطرح نفسه عن الدور الذي قامت وتقوم به كل هذه الرؤوس والمهام التي تضطلع بها. فالثابت أن الصلاحيات التي حددتها الوثيقة الدستورية لمجلس السيادة لا تخرج عن صلاحيات اعتماد، بمعنى أن يتم اتخاذ القرار من جهة أخرى سواء كانت تشريعية أو تنفيذية ويقتصر دور مجلس السيادة على التوقيع على ما تم اتخاذه مسبقاً. وقد حددت الوثيقة الدستورية هذا المفهوم بتعريفها لمعنى الاعتماد فذكرت أنه (التوقيع اللازم شكلاً لنفاذ القرار). ويظهر هذا بوضوح في سلطة مجلس السيادة في اعتماد التشريعات على سبيل المثال، حيث منحت الوثيقة الدستورية المجلس التشريعي صلاحيات واختصاصات سن التشريعات، وأعطت مجلس السيادة صلاحية التوقيع على التشريعات التي يتم سنها، إلا أن سلطة مجلس السيادة في إبداء وجهة نظر على التشريعات التي يصدرها مجلس التشريعي سلطة ضعيفة، ففي حالة مرور أكثر من (15) يوم على التشريع دون أن يوقع مجلس السيادة على التشريع ويبدي أسباباً لذلك فإن التشريع يعد سارياً ولا عبرة باعتراض مجلس السيادة. وحتى في حالة ابداء أسباب على عدم التوقيع على التشريع فللمجلس التشريعي أن يمضي في إنفاذ التشريع دون اعتبار لرأي مجلس السيادة.
أثبتت التجربة العملية خلال الفترة المنصرمة من عمر الفترة الانتقالية أنه لا توجد حاجة حقيقية لكل هذا الفرقة من أعضاء مجلس السيادة بمخصصاتها المالية وامتيازاتها الرفيعة، بل أكثر من ذلك فإنها في سبيل تدعيم وجودها بمكونيها المدني والعسكري فقد وقفت حجر عثرة في سبيل إنشاء المؤسسات الدستورية صاحبة الصلاحيات الأصيلة، ومن ذلك المجلس التشريعي الذي يقع على المكون العسكري على الأقل مهمة المشاركة في اختيار أعضائه وفقاً للوثيقة الدستورية، وبالطبع فإن مجلس السيادة غلب مصلحته الخاصة باستلاب صلاحيات التشريع وممارسة سلطات تشريعية حقيقية على المصلحة العامة بتشكيل المجلس التشريعي.
كما أن مجلس السيادة بحكم ممارسته لسلطة الأمر الواقع في إصدار التشريعات فقد ساهم في الفشل المزري في تشكيل مؤسسات العدالة وتعطيل آلياتها بما في ذلك المحكمة الدستورية ومجلس القضاء العالي ومجلس النيابة الأعلى يقاسمه مجلس الوزراء في نفس النسبة في الفشل. وقد ذهبت السيدة السيدة عائشة السعيد عضو مجلس السيادة المستقيلة إلى تبرئة ساحة المكون المدني وتحميل المسؤولية للمكون العسكري فذكرت (لقد أضحى التجاهل لآرائنا والتجاوز للصلاحيات الدستورية سمة لا يمكن التغافل عنها داخل المجلس، دون تفاصيل عن تجاوز تلك الصلاحيات، وأصبح المكون المدني في مجلس السيادة مجرد جهاز تنفيذي لا يشارك في صنع القرار) إلا أن هذا المنطق لا يمكن القبول به فمسؤولية أعضاء مجلس السيادة تضامنية كما هي مسؤولية فردية. وكل الفشل الذي ساهم به مجلس السيادة خلال الفترة الانتقالية من إضعاف لدور المؤسسات وتعطيل الأداء العدلي يتحمله كافة أعضاء مجلس السيادة
يذكر أهل العرفان أن كل تجربة لا تورث حكمة تكرر نفسها، وقد كتب علينا أن نعيد تكرار تجاربنا الفاشلة خاصة تعدد رؤوس مجلس السيادة ،وجعله محطة استقطاب بدلاً عن أن يكون رمزاً لسيادة الدولة ووحدتها. ومن الضروري أن يحمل الدستور القادم سمة رئيس الدولة الواحد الذي يعرف قدره كرمز للسيادة في حال تم اتباع النظام البرلماني أسلوباً للحكم.
أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب

abuzerbashir@gmail.com
/////////////////

 

آراء