محاكمة الخفير

 


 

د. عمر بادي
22 March, 2009

 


مقتطفات من كتابي ( شتات يا فردة )
دار جامعة الخرطوم للنشر _ 2003
 ombaday@yahoo.com
د. عمر بادي
في صبيحة ذلك اليوم كان الجو طلقاً ومحيّاه ندياً إذ حللت إلى مكان عملي في المنشأة الكبيرة ، بينما بعض الجراء تتلاعب وتستمتع  بالجري و عض بعضها بعضاً في خشونة هي من طبعها ، وبينما قطيع صغير من الأغنام خرج إلى الطرقات فسعت كل واحدة (تلقّط) في رزقها في حرية يعتبرها الغير تعديا ً، وأمام كشك الشاي والفطور جلس بعض الناس يستمتعون بإرتشاف الشاي باللبن الحليب مع الرغيف الساخن أو اللقيمات .. وقفت بسيارتي أمام بوابة الدخول ولاحظت أن أمامي سيارة فارهة قد توقفت ، بينما كان الخفير يردد في حزم لسائقها ويلوح بيديـه له أن يعـود أدراجه و يفسح الطريق للسيارات الداخلة ، ولما طالت وقفتي دون أن يتحرك ذلك الشخص جعلت أضغط على جهاز التنبيه فأدار عربته في ثورة من الغضب ، وفي هذه اللحظة جذب صوت آلة التنبيه مسئول الأمن والذي كان يتجاذب أطراف الحديث ويشرب الشاي باللبن واللقيمات في الكشك فأتى مهرولاً تجاه ذلك الشخص حاملاً في يده جهازه اللاسلكي النقال ، ولكن ذلك الشخص إنطلق في غضب بادٍ بسيارته.. إستبنت الأمر من مسئول الأمن فأجابني أن ذلك الشخص هو المدير العام الجديد ، وهذه أول مرة يأتي فيها للمنشأة متفقداً ، وسألت الخفير إن كان لديه إخطار بهذه الزيارة فأجابني بالنفي ، وقد توجس خيفة وصار يردد:((الله يجعل العواقب سليمة)) . كان الخفير رجلاً مسناً طيب المعشر لكنه لا يتوانى في تنفيذ التعليمات ، و كانت لـه لازمة معروف بها يرددها عند فتح البوابة لإدخال العاملين أو إخراجهم ، كان يقول :(( أمشوا ، عليكم يسهّل وعلينا يمهّل )) فيشكره الجميع داخلين وخارجين . في ذات ذلك اليوم وصلنا إخطار في المنشأة من مكتب المدير العام للتحقيق مع ذلك الخفير ومحاكمته محاكمة رادعة لما إقترفه في حق السيد المدير العام . حسب لوائح قانون الخدمة المدنية تكونت لجنة للتحقيق مع الخفير ثم تم رفع محضر التحقيق للمحاكمة وتم إختياري لأقوم بالمحاكمة ، لماذا ؟ لا أدري ، وحدد لها تاريخ أتاني فيه الخفير في مكتبي وبوجود ضابط شئون الموظفين تلوت عليه ما ورد في التحقيق فوافق على ما جاء فيه ، ثم سألته إن كان يرى أنه مذنب فأجاب أنه لا يرى ذلك ، قلت له أن يوضح ما يريد إيضاحه ، قال إنه قبل فترة وجيزة من هذا الحادث حدثت بعض الأعمال التخريبية في منشأة أخرى بفعل فاعل فصدرت بعدها تعليمات بتشديد الإجراءات الأمنية في المنشآت وذلك بتقييد حركة الدخول والخروج فجعلوها بإبراز بطاقة العمل ، ومن لا يحمل بطاقته لا يدخل ، هكذا التعليمات! لما حضر السيد المدير العام أمر الخفير أن يفتح له البوابة ، فسأله الخفير عمن يكون لأن الكثيرين من مندوبي الشركات يأتون للمنشأة ، وعندما أجابه بأنه المدير العام ، طلب منه إبراز بطاقة العمل ولكنه لم يكن يحمل بطاقة عمل معه ، وبذلك لم يفتح له الخفير الباب ، وصار المدير العام يحاججه بينما هو يطلب منه أن يتنحى عن الطريق ويعود أدراجه . سألته لماذا لم يستعن برئيسه المباشر مسئول الأمن ؟ أجابني  أن مسئول الأمن لم يكن موجوداً في مكتبه بالبوابة ، قلت له إنه كان من الأجدر أن يطلب من المدير العام أن ينتظر قليلاً حتى يتم إخطار مدير المنشأة بذلك ، قال لي إن التعليمات تبقى تعليمات على الجميع ، ثم أضاف:(( قبال دا لما المدير العام الأسبق عمل لينا تعليمات زي دي وفي مرة جانا وكان نسى بطاقته ولما الخفير منعه يدخل مع إنه كان عارفه كويس ، قام رجع وأمر بترقية الخفير ، يا ولدي الزمن إتغير ولا شنو؟)) ، لقد طمح الخفير أن يجـازي حسناً! ، قلت له  إن الناس هم الذين تغيروا ، وأردفت أن الغضبة لكبيرة في مكتب المدير العام ولكني سوف أضع بعض التوضيحات في حيثيات الحكم أذكر فيها أنني كنت شاهد عيان وأنني أيضاً لم أتعرف على السيد المدير العام لأنه لم يأت من قبل لزيارتنا ولأننا لا نترك عملنا الحساس ونذهب لرئاسة المنشأة لملاقاته كما يفعل آخرون ، وسوف أزيد أن الزيارة كان لها أن تكون معلنة وليست مباغتة وأن إدارة العلاقات العامة كان لها أن تقوم بدورها في هذا الشأن وأن الخفير ما هو إلا جندي ينفذ التعليمات ، ولكنه قد تجاوز مهمته سلوكياً ، ولذا أحكم عليه بخصم سبعة أيام من راتبه . بدا الخفير متذمراً وغير راض بهذا الحكم وقال لي :((هي الماهية كلها بتعمل حاجة لما كمان تنقصوها ؟ والله أخير أخليها كلها وأستقيل ، والله كريم علينا )) ، قلت له :(( القانون يبيح ليك الإستئناف ، لكن بنصحك ما تعمل كده ، وإنشاء الله يقبلوا الحكم دا ، أما قروشك المخصومة الله يعوضك فيهم ، بإذنه تعالى)) . بعد أيام من ذلك أخطر الخفير رسمياً بخصم سبعة أيام من راتبه كما كنت قد حددت ، فإستدعيت ضابط شئون الموظفين وإقترحت عليه أن يجهز كشف مساعدة للخفير عند صرف الرواتب ، فوافق فوراً ، فنظام كشوف المساعدات نظام تكافلي معمول به ، لكلٍ حسب حاجته الضرورية ومن كلٍ حسب إستطاعته ، فساهم العاملون كلهم للخفير لعلمهم بقضيته ، حتى تم جمع مبلغ من المال له أكثر مما قد خصم منه..
     في ذلك اليوم وأنا خارج من المنشأة بعد إنتهاء ساعات العمل ، هرول الخفير نحو البوابة ففتحها وبدأ يكيل الدعاء لي ، فخرجت بالسيارة وأنا أقول له ملاطفاً:((يا حاج ، عليك يسهّل وعلينا يمهّل)) والتقطت أذناي صدى تهدجات صوته المملوء بالعبرات..

صحيفة (الخرطوم) - 13/7/2000م


 

 

آراء