محمد السيد سلام رئيس اتحاد نقابات العمال (1950-1958): قرأ الفقه على محمد الأمين أبو قرين وجنده للماركسية أسير حرب إيطالي

 


 

 

(قال لي زائر لموسكو من جمهورية جورجيا السوفيتية في فندق الصين بموسكو إن موسكو باردة الحس قياساً بهم في أطراف الاتحاد السوفياتي، ولكنه برود العقل. ومر بنا أول مايو، عيد الطبقة العاملة، وهو يوم من أيام برود العقل في الخرطوم. فأول مايو كان يوم احتفال بالعقل النقابي للعمال وسائر الكادحين لبناء المدينة الفاضلة. وخرج لنا الكائدون لهذه المدينة من كل فج. وليس مبالغة أن نحلل إهلاك قريتنا الحالي إلى حلف مترفين صار حكمهم فينا فسقاً: فدمرناها تدميرا
وفي مناسبة أول مايو أعرض عليكم سيرة واحد من رموزه، محمد السيد سلام، لتروا فيها عملية تكوين عقل المدينة البارد للحق)
سلام من مواليد 1921 بحلة حمد بالخرطوم بحري. بدأ تعليمه في نحو 1926 بخلوة المجاذيب بالدامر التي كان والده محاسباً في ديوانها. ثم انتقل إلى مدرسة الأقباط بعطبرة بعد نقل والده للمدينة في نحو 1928. وبانفصال أمه عن أبيه عاد إلى بحري وعاش في كنف خاله. فدرس بمدرسة حلة الميري (النقل النهري) لينتقل إلى مدرسة العزبة في حوالي 1932. وجلس لامتحان الدخول للمدرسة الابتدائية (الوسطى، الثانوي العام). وجاء ضمن العشرة الأوائل من بين 500 تلميذ. وكان مستحقاً للقبول مجاناً حسب العرف. ولكن كان مدير المعارف ألغى المجانية لمثله "أدبة" للمتعلمين بعد إضراب كلية غردون الشهير في 1931. وكان السيد الصديق المهدي من قادته. ولم يقف مدير التعليم عند حجب المجانية فحسب بل زاد المصاريف من 8 جنيه إلى 12. فلم يمكث سلام سوى شهر أو أخر في المدرسة ليطرد بعدها منها. ورسب ذلك القرار المجحف كراهة للإنجليز، بل عقدة.
استدرك سلام فوت التعليم النظامي لاحقا بالاطلاع الذاتي. فالتحق ببرش محمد الأمين أبو قرين، العالم على المذهب المالكي، بجامع الشيخ الجلي بحلة حمد. ثم انتقل معه إلى حلة الدناقلة حين ارتحل إليها. وجلس معه على البرش د النور عبد المجيد وعبد الرحمن الشيخ الصديق المقبول ومحمد شاهين (ابن عامل). وكان معهم نصر الدين السيد وأحمد جبريل من وجوه حركة الأشقاء والوطني الاتحادي. وتعرف سلام في حلقات الشيخ بحمزة الجاك الذي سيكون زميله في اتحاد نقابات العمال. وحمزة من أوائل النجارين الذين عملوا على مكنة النجارة في مصلحة المخازن والمهمات. وكان أبو قرين يدرسهم اللغة العربية وآدابها بجانب الفقه. فحفظ ألفية ابن مالك، وقرأ الكامل للمبرد، ومقامات الحريري. وتعلم الإنجليزية كفاحاً حتى أنه كان يترجم للعربية منها ونفعته في الاتصالات العالمية حين عمل في الحركة النقابية.
التحق بالري المصري ككاتب وقت بمرتب شهري قدره خمسة قروش. ثم تلقى نصحاً من خواجة، مستر يومن، أن يتعلم صنعة. فالتحق بورش الري المصري. وخفضوا مرتبة من 5 قروش إلى 4. التحق بعدها بقسم الخراطة بالري المصري وتعلم المهنة من موسى أحمد من ناس الدناقلة. ثم انتقل إلى ورش الأغاريق بين 33 و36 مثل شركة كوني دارس في موضع مطبعة التمدن الحالي.
وقامت الحرب العالمية فأنشأوا فابريقة الصفيح في بورتسودان. فكانت تأتي المواد البترولية لبورتسودان فتعبأ في صفائح. وطلبوا عمالاً للمصنع عن طريق مصلحة الأسلحة (سلاح الأسلحة). وعمل سلام فيها في 1941. وكان عليهم إنجليز منهم سيرتومس. وكانت وظيفة سلام "فندي" وهو المسؤول عن الفابريقة. فأدخلوهم في كورس لمدة 6 شهور لتدريبهم على الوظيفة. وكان يغشى مكتبة الثغر (إبراهيم مرزوق) ليقتني الكتب. وانضم إلى حلقة أدبية من تلك التي انتشرت بعد 1924 ومنها بورتسودان. وتعلق بالرافعي والزيات وانضم لنادي بورتسودان. وتعرف في دوائره الأدبية بهاشم السعيد الذي صار لاحقا من رموز الحركة النقابية للسكة حديد والحزب الشيوعي في عطبرة.
وتحول من الفابريقة إلى شركة شل. واحتك مع الخواجة المسؤول الذي ألغى إذناً انتزعوه من مهندس سبقه بمنحهم ساعة لصلاة الجمعة. والتقي بمستر كاستل مدير البوليس. ونبهه إلى أنه جاء إلى بورتسودان في حين كان النزوح العام منها إلى الخرطوم وغيرها بسبب الحرب. وزاد بأنه كان المدني الوحيد الذي جاء في قطار بورتسودان بين ركاب كلهم عسكريون. وذكره بقول تشرشل بأن المستعمرات التي وقفت مع بريطانيا في الحرب ستنال حق تقرير المصير بنهايتها. وقال له إنه لن يعود للعمل مع شل ولكنه مستعد للعمل في أي موقع يخدم جيش الحلفاء خارج السودان وداخله. فاتصل كاستل على الفور باللواء هنت في منطقة أنقوباي (فلامنقو لاحقاً) المسؤول عن ورشة للجيش البريطاني بها 18 مجند 4000 أسير من الإيطاليين. وهم من بنوا جسر ديم مدينة.
فانتقل لتلك الورشة. وكان من بين الأسرى الطليان فاشست. وصادف أنه خرط جنزير دبابة امتنع أسير عن خرطه. وكان بين الأسرى مهندس اسمه باربرو أستاذ إلكترونيات ببلده وآخر اسمه تيستا الأستاذ بجامعة روما. وانعقدت لسلام علاقة معهما. وعرف أن الطليان جاؤوا بباربرو إلى أسمرا مكلفاً فيها بتوجيه الطيران الإيطالي. ورسم لسلام خارطة دقيقة للخرطوم التي لم يرها. وتوثقت صلته بباربرو. وقال له مرة إذا انتصر الفاشست في تلك الحرب فسيثقلون عليكم ويبيعون لكم ضوء الشمس. وكشف له أنه ينتمي للحزب الشيوعي ويعادي الفاشية. وبدأ يحاضر سلام في الماركسية اللينينية. واتسم بلطف لم يره في الفاشست من حوله. وعاد سلام إلى الخرطوم في 1942 ليتزوج ويلتحق بمصلحة النقل الميكانيكي. ومن ثم إلى الشجرة لأن النقل الميكانيكي تم دمجه مع الهندسة الملكية.
كانت الحرب في شمال أفريقيا تعتمد على السودانيين في صيانة آلياتها فكان السودان مركز ترانزيت. يأتي الجنود من جنوب أفريقيا عبر جوبا فكوستي فالخرطوم إلى الكفرة بليبيا وتُرحل المؤن والذخائر عن طريق السودان إلى الكفرة.
نكتفي بهذه الخلفية لهذا النقابي الطليعي.
لم أزد عن تلخيص لقاء لسلام مع أبو عمار نشرته جريدة ظلال (4 يونيو 1969)

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء