مدافع المكسيم كسرها الأجداد… والطائرات الحربية أسقطها الأحفاد

 


 

 

إسماعيل عبدالله
لم تكن مقولة: التاريخ يعيد نفسه بدعة، وإنّما هي قاعدة أزلية يعتمد عليها المؤرخون وعلماء الأنثربولوجيا، في تفسير الظواهر والمتغيرات عبر العصور والدهور، وما حال كل دابة على الأرض في حركاتها وسكناتها، إلّا ترجمة نصية لحقيقة قول الشاعر الفحل عنتر بن شداد: هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم، وما نشهده اليوم من صمود وتحدٍ للموت عند المحن من قبل أشاوس قوات الدعم السريع، هو انعكاس لما سبق من ملاحم لعهد التحرير الأول، الذي قادته صفوة من أهل الذكر والعلم والفكر والروح المشبعة بالوطنية، فالمتتبع لاستبسال أشبال قوات الدعم السريع، وهم يوجهون فوهات مدافعهم الثنائية والرباعية نحو عنان السماء، بحثاً عن طيف طائرة تحمل كل أسباب الفناء لأقوام لم يرتكبوا جرماً في حق الوطن ولا جنحة بحق المواطن، تعلم حينها أن الوطن للجميع وأن الدين لله، وأن الطغيان لا دين ولا جهة ولا عرق ولا قبيلة تحتضنه، ومن ثم يمكنك أن ترى عبر العدسة المقعرة والمكبرة كل فسيفساء المجتمعات السودانية الممتدة من بورتسودان حتى الجنينة، ومن حلفا إلى كادوقلي، فكل أخطاء النخبة السودانية التي أدمنت الفشل تكمن في تجاهلها لسيرورة التاريخ القريب، الممتد من ثورة الدرويش على الترك، إلى ثورة الأفندية على خلفاء الترك من إنجليز وأرمن وشركس ويونانيين، وقديماً قال الأجداد للأحفاد من لم يكن حاضراً لزمان أبيه لن يعلم شيئاً عن سيرة ومسيرة وأثر جده.
لقد سبق السلف الخلف في تقديم الدروس والمحاضرات البليغة في فنون القتال، وكيفية الذود عن حوض الوطن، وكان ذلك قبل قرن ونيف مما نعد ونحسب، ومن الدلائل الدامغة على ثبوت استبسال الأجداد، ذلك التراث الموثق والموثوق لتلك الحقبة بدور متاحف ووثائق المملكة المتحدة، فقد قال جنرال معركة الغزو الاستعماري الغاشم مقولته الشهيرة، بعد أن أسقط رأس الذي أسقط رأس غردون باشا، هؤلاء أشجع من وطأت أقدامهم الثرى، هكذا جاءت الشهادة بالكمال من العدو الإمبريالي المعتدي، وها هي الأيام تدور دورتها ليعيد الأحفاد ذات البطولات الآنفة، التي بذل فيها الأجداد أرواحهم رخيصة، للحفاظ على عزة وإباء هذا الشعب الكريم، فما نشهده اليوم في سوح وميادين القتال هو استمرار لتواصل أجيال نجوم البطولات والمفاخر الوطنية المشهودة، وليس امتداد لجيل (نجوم الغد) الموعود بجوائز منافسات الغناء والرقص والطرب، فلكل جيل همّه وخصيصته، ومن يهتم لنقر الإصبع على الآلات الوترية ليس مثل ذلك الفتى، الذي يهمه القبض على الزناد لإطلاق رصاصة الموت الموجهة لصدور الفاسدين والمرابين، الذين رهنوا مقدرات البلاد الاقتصادية في أسواق تبييض الأموال، وما بين أفراد ذات الجيل بون شاسع في التنشئة والتربية للتصدي لتحديات الحياة على تراب نفس الوطن، وقد تبين هذا في البث المباشر الذي يقدمه القابضون على جمر القضية من أشاوس الجاهزية، وسط معمعة الحرب المفروضة عليهم.
لو كانت هنالك رسالة واحدة قدمها الأشاوس للجموع الغفيرة المشاهدة لبطولاتهم المبثوثة عبر أثير جوالاتهم الذكية، هي استحالة إدارة شأن هذه الدولة بوجهة النظر الواحدة أو الجهة المعيّنة أو الجماعة المحددة أو الثقافة الموجهة، وليس هنالك أدل على ما نقول من إخفاق نظرية الست ساعات الحاسمة، التي امتدت لسنة، وما يزال الحالمون المندسون تحت إبط بطانيتهم يمنون النفس بعودة عهد الظلام، ورفع أعلام النصر المتخيل الذي لا يسنده عمل ميداني حقيقي، ينعكس على وجوه من خرجوا بين أبواب ومنافذ المنازل، فالنصر لا يمكن أن يتحقق بمجرد كبسة زر على لوحة مفاتيح الهاتف اللوحي، إنّ الفرق شاسع بين حرب تديرها أيد ممسكة بمقبض البندقية، وتلك الحرب الماجنة التي يقودها أصحاب الأصابع الناعمة والمنعمة، الذين همهم الأول والأخير هو الإمساك بلوحة مفاتيح آلة الأورغ، فشتان ما بين التصويب على الهدف عبر الذبابة التي تعلو فوهة مقدمة ماسورة الكلاشينكوف، وما بين هدف الفيلم الهندي الخيالي المنصوب على لوحة إعلانات مسرح قاعة الصداقة، فبكل تأكيد هنالك مساحة واسعة وشاسعة تفصل بين الجد والهزل، وما أهلك القوم الذين ارتكبوا حماقة الانسياق وراء الإشاعة المغرضة، إلّا الانقياد الأعمى والأصم والأبكم لمن يمتلك البلعوم الطويل والحلقوم الكبير، فدرس الحاضر الذي قدمه الأحفاد من فوهات رباعيات وثنائيات المدفعية المحمولة على ظهور السيارات ذات الدفع الرباعي، سوف يسجل بأحرف حبرها الدم في سفر التاريخ الذي حوى ملاحم ثورة الدرويش.

إسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com
20فبراير2024

 

آراء