مدرسة كورتي الثَّانويَّة العليا للبنين: أنموذج الإعمار الذَّاتيِّ النَّاجح في السُّودان
أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك
18 December, 2024
18 December, 2024
أحمد إبراهيم أبوشوك
(1)
تمهيد
يرى بعض نقَّاد دولة (56) أنَّ الحكومات الوطنيَّة الَّتي أعقبت استقلال السُّودان عام 1956 قد طفَّفت كيل المال العامِّ المخصَّص لإنشاء المؤسَّسات الخدميَّة (التَّعليم والصِّحَّة) لمصلحة المديريَّة الشَّماليَّة (الولاية الشَّماليَّة وولاية نهر النِّيل حاليًّا) خصمًا من موازنات المديريَّات الطَّرفيَّة الأخرى؛ إلَّا أنَّ الَّذي ينظر إلى تاريخ المؤسَّسات الخدميه في المديريَّة الشَّماليَّة يرى خلاف ذلك؛ لأنَّ معظمها قد شيِّد بالعون الذَّاتيِّ. ومن أفضل الشَّواهد الدَّالَّة على ذلك مدرسة كورتي الثَّانويَّة العليا الأهليَّة، الَّتي أشرفت لجنةً أعيان عمودية كورتي برئاسة العمدة أحمد عمر كمبال (1915- 1995) على جمع تبرعات بنائها، وراقبت مراحل تشييدها، وأسهمت في ترقية بيئتها التَّعليميَّة؛ لتكون صالحةً لإقامة طلبة العلم الوافدين إليها من قُرى المديريَّة الشَّماليَّة المختلفة، والأساتذة المنتدبين للعمل فيها، والعمال المحليين.
(2)
مدرسة كورتي الثانوية العليا للبنين: نشأة والتطور
تبدأ قصة تأسيس مدرسة كورتي الثانوية العليا للبنين بالخطاب الذي بعثه السيد عبد الرحمن عبد الله، عن وكيل وزارة التربية والتعليم (الأستاذ مندور المهدي)، إلى العمدة أحمد عمر كمبال، رئيس لجنة مدرسة كُورتي الثانوية الأهلية، بتاريخ 21 مايو 1967، مفيدًا إياه بموافقة وزير التربية والتعليم (الدكتور سيدأحمد عبد الهادي) بفتح مدرسة ثانوية عليا أهلية للبنين بكورتي، ابتداءً من العام الدراسي 1968/1969، بشرط أن تلتزم لجنة المدرسة بتوفير الأرض المناسبة والمباني اللائقة بها، وفي المقابل تلتزم وزارة التربية والتعليم "بإرسال المدرسين اللازمين، أو بدفع مرتباتهم على أن تكون المصروفات السنوية للتلميذ 20 جنيهاً فقط، وليقوم التلميذ بشراء كتبه وكراساته، كما على كلِّ تلميذ أن يدفع مبلغ 10 جنيهات لمساهمة المباني عند دخوله لهذه المدرسة بالسنة الأولى." كان هذا التصديق الوزاري بمثابة الضوء الأخضر، الذي دفع العُمدة أحمد عمر كمبال إلى قيادة وفدٍ رفيع المستوى من أعيان عمودية كُورتي إلى بعض مدن السُّودان؛ لجمع التبرعات اللازمة لتأسيس المدرسة. وكانت أولى زيارات الوفد (اللجنة) إلى غرب السُّودان، حيث يوجد رهط من الكوارتة في الفاشر، ونيالا، والأبيض. وإلى جانب تلك التبرعات النقدية، التي جمعتها اللجنة من أبناء كُورتي في مدن السُّودان المختلفة، اقترح العُمدة على المساهمين بمشروع كُورتي-الغُريْبَة-الباسا سابقاً التنازل عن أسهمهم بالمشروع لصالح مباني مدرسة كُورتي، وكانت قيمة السهم الواحد تقدر في ذلك الوقت بجنيه واحد وثلاثمائة وعشرين مليماً. وبالرغم من مطالبة العمدة المتكررة لحكومة مايو التي انقلبت على النظام البرلماني المنتخب للمشاركة في تأسيس مباني المدرسة؛ إلا استجابة الحكومة كانت دون المستوى. ويظهر ذلك في خطاب العمدة إلى وزير التربية والتعليم في العام 1974م، والذي جاء فيه: "لا شك أنكم تعلمون أنَّ مدرسة كُورتي الثانوية العليا قد أسست بالعون الذاتي، الذي شارك فيه كلّ الخيريين من أبناء ورجالات كُورتي، وقد بلغت تكاليف البناء حتى الآن 47,000,00 جنيه (سبعة وأربعين ألف جنيه)، كانت مشاركة الوزارة فيها 15,000,000 جنيه (خمسة عشر ألف جنيه)، وقد أسهم المواطنون بعونهم بمبلغ 32,000,000". وكانت هذه المبالغ المدفوعة تمثل تكلفة الجزء الأكبر من مباني المدرسة المشيدة، وأوضح التقرير أنَّ تكلفة الجزء المتبقي من المباني تبلغ قيمته ستة عشرة ألف وخمسمائة جنيه، وأن المواطنين دفعوا منها سبعة ألف وخمسمائة جنيه، لذلك طالب مجلس الآباء وزارة التربية والتعليم بدفع تسعة آلاف جنيهاً للمساهمة في تكملة المباني الإضافية، وبشرها بالنجاح الذي حققته مدرسة كُورتي الثانوية للبنين، حيث إنها أحرزت المرتبة التاسعة في أول امتحان لها للشهادة السُّودانية.
وفي العام 1974م حرر أحمد عمر كمبال، رئيس مجلس الآباء، والأستاذ عبد الله محمد خير أبو القاسم، الذي خلف الأستاذ عبد المنعم إبراهيم عثمان (1968-1970م)، المدير المؤسس لمدرسة كُورتي الثانوية، خطاباً إلى مواطني كُورتي بأمدرمان، وود مدني، والأبيض، ونيالا، وبورتسودان، مطالبين إياهم بمزيد من الدعم المالي لتكملة النواقص في مباني المدرسة، ورافعين البشرى إليهم بالنتيجة المُشرِّفة التي أحرزتها المدرسة، وذلك بحصولها على المرتبة الأولى في امتحان الشهادة السُّودانية القسم الأدبي للعام الدراسي 1974م. وتمَّ في ذلك الخطاب توزيع المبلغ المطلوب على النحو الآتي: 6,600 جنيه مواطني كُورتي بأمدرمان؛ و500 جنيه مواطني كُورتي بود مدني، و500 جنيه مواطني كُورتي بالأبيض؛ و1000 جنيه مواطني كُورتي بنيالا؛ و1000 جنيه مواطني كُورتي ببورتسودان. وكلف العُمدة أحمد عمر الخليفة أحمد عثمان النقيب، عضو مجلس الآباء، بجمع أنصبة مواطني كُورتي بودمدني وبورتسودان. وأفاد في الخطاب نفسه أنَّ مواطني أمدرمان قد قاموا بدفع نصيبهم. أما بالنسبة لمواطني كُورتي بنيالا فقد حرر رئيس مجلس الآباء برقيةً مستعجلة إلى خضر كمبال ومحمد هاشم، مكررة إلى محمد عمر ويحيى، حاثاً إياهم بدفع المبلغ المقدر عليهم بأسرع فرصة ممكنة، وذلك بقوله: "اتصلوا بجماعة نيالا بأمدرمان، وأعملوا اللازم مستعجلاً، لضرورة الموضوع، وأفيدونا تلغرافياً." كما أرسل برقية مماثلة إلى محمد أحمد النيل، وأولاده، وعموم الجماعة بورتسودان، مكررة إلى أحمد فتح الرحمن النيل، وصالح وإخوانه، حاثّاً إيَّاهم على دفع مبلغ الألف جنيه الذي قرره مجلس الآباء عليهم، ثم ختم برقيته قائلاً: "تكرموا بعمل اللازم؛ لضرورة الأمر، والحوجة لإكمال النواقص بالمدرسة، ولكم الشكر." وأوضح أيضاً أنه استلم تبرعات مواطني كُورتي بود مدني؛ ولكنها كانت ناقصة مائة وسبعين جنيهاً، فكتب إلى الحاج إلياس بشير كمبال، قائلاً: "وصلتنا تبرعات الجماعة بود مدني للمدرسة، فجزاكم الله خيراً، وإحساناً، وبارك الله في الجميع. لكن لا زال المبلغ ينقص 170 جنيهًا؛ لأنَّ المبلغ المقرر على ودمدني هو 500 جنيهًا، فضروري تجمعوا الـ 170 جنيهًا، ولو من السوق؛ لأنَّ أصل المبلغ المطلوب منا هو 10,000 جنيهًا، تُورد لحزينة مجلس مروي لحساب تلك المدرسة."
وفي أثناء عملية جمع التبرعات كانت لجنة المدرسة حريصة على إسداء الشكر والعرفان للمتبرعين، وتحقيقاً لهذا الهدف فقد صممت بطاقة شكر وعرفان في مطبعة كردفان، جاء نصُّها هكذا: "بسم الله الرحمن الرحيم. (السيد لجنة مدرسة كُورتي الثانوية تتقدم لسيادتكم بوافر الشكر على تبرعكم السخي، وحسن استقبالكم للوفد عند زيارته لمنطقتكم العامرة. فجزاكم الله خيراً، وحفظكم موئلاً لهذا البلد. مع الشكر. كُورتي. رئيس الوفد أحمد عمر كمبال." ويبدو أنَّ هذه البطاقات كان لها وقع حسن في نفوس المتبرعين، والشاهد في ذلك الخطاب الذي بعثه السيد حسن محمد أحمد خواجة إلى أحمد عمر كمبال، بتاريخ 4 يناير 1973م، شاكراً إياه على بطاقة العرفان والتقدير، ومثمناً دعوته للتبرع لمدرسة كُورتي الثانوية، وذلك بقوله: "أما التبرع للمدرسة نحن نراه واجب علينا، شرط وجوب وصحة معاً؛ لأننا نحن وأنتم تربطنا منطقة البديرية، وأعلاها الإسلام، وثالثها الطريقة الختمية على مؤسسها ألف سلام، وألف تحية، ورابعها أن والدنا محمد أحمد خواجة كان عاملاً في المهدية بكُورتي وأمبكول، وكان يسكن في منزل المكي ود جميل في أمبكول... ولنا معرفة بهم ومع المرحوم والدكم وأعمامكم جميعاً ... أقبل سلام أهالي تنقسي، وأبو عجاج، وجميع الأهل."
ولولا إلحاح العُمدة أحمد عمر، ومتابعته اللصيقة، وتقدير المتبرعين لشخصه، لما جُمعت تلك الأموال الخاصّة ببناء مدرسة كُورتي الثانوية بالكيفية المطلوبة. وإلى جانب هذه الجهود الطيبة فقد استطاعت إدارة المدرسة الثانوية ومجلس الآباء إقناع إدارة التعليم بالمديرية الشمالية بالتصديق لهم بضمِّ داخلية المدرسة الأولية للبنين التي تمَّت تصفيتها إلى مباني مدرسة كُورتي الثانوية، وبذلك تمَّ تقليل التكلفة المقدرة لإنشاء داخليات المدرسة الثانوية. وكانت هناك محاولة لتحويل مدرسة كُورتي الثانوية إلى مباني المدرسة الوسطى للبنين، لكبر حجمها وجمال عمرانها، ولكن تلك المحاولة لم تكلل بالنجاح، وظلت المدرسة الثانوية العليا في مبانها الجديدة وداخليات المدرسة الأولية.
(3)
ترقية الخدمات والبيئة المدرسية
بالنسبة لسكن المدرسين حاول العُمدة أحمد عمر كمبال أن يبتكر خطّة أقلّ كلفة مالية وأفضل مبادرة لتطوير مدينة كُورتي عمرانياً، قوامها تشجيع القادرين من أبناء كورتي بتشييد منازل سكنية لهم، أو صيانة منازلهم القديمة بكُورتي، لاستئجارها للموظفين والمدرسين العاملين في المدينة. وقد حرر العديد من الخطابات في هذا الشأن، ونذكر منها خطابه إلى الحاج عبد السلام عثمان كمبال، والذي يخبره فيه بأنَّ المنزل الأول والثاني قد تمَّ تشييدهما بصورة كاملة وحسنة، والمنزل الثالث الكبير قد بلغ مرحلة السقف، ثم يطلب منه إرسال بعض مواد البناء الخاصّة بتكملة ذلك المشروع. وفي السياق ذاته يخاطب السيد علي شخينا عثمان، قائلاً: "أخبركم أن البلد هنا قد زادت وازدهرت كثيراً، بفضل العمران من المدارس وخلافه، وأصبح السكن في المنازل بالأجرة، ولقد أجرنا منازل كثيرة بلغت الأجرة من 2 جنيه لغاية 8 جنيه، وقد أجَّرنا منزلكم بمبلغ 3 جنيهاًت و500 مليماً من أول شهر 9/1969م." وخاطب أيضاً الأستاذ حمد عبد الرحمن كمبال، وأخيه محمد عمر كمبال، وحاج محمد عثمان حسين، حاثّاً إياهم على ضرورة تعمير منازلهم بمدنية كُورتي، وكانت استجابة كلّ واحد منهم حسب توقعاته. ومن أولئك الذي خطابهم في هذا الشأن الدكتور علي كمبال عثمان، وجاء في خطابه المؤرخ في 21 أكتوبر 1969: "سبق أن كتبتُ لكم خطابًا بخصوص موضوع تصليح منازلكم بكُورتي، وكان الخطاب بواسطة عمك حاج العباس؛ لا أدري هو وصلكم، أم لا. والآن الموضوع هو كالآتي: منازلكم بكُورتي تحتاج لإصلاح كبير جداً، والآن هي بها مدرسة البنات الوسطى، ونحن فعلاً شرعنا في تصليح البعض، ولكن لم يكتمل التصليح حيث التلف كبير، ويحتاج لتقويم، وسقف، وأخشاب للسقف، وأبواب، وشبابيك، وهذا يحتاج لمبلغ على الأقل 250 جنيهاً، أو أكثر. فضروري جداً من تحويل هذا المبلغ لنقوم بعمل ما يلزم مع العلم نحن شرعنا في العمل فعلاً، وهذا المنزل نرجو أن لا يُهجر، ويكن خرباً؛ لأنَّه مسقط الرأس. هذا وأرجو أن لا تهمل هذا الموضوع البسيط، والمهم جداً. والدكم أحمد عمر كمبال."
وفي إطار ترقية خدمات المدرسة تبرع الحاج عثمان عبد السلام حامد ببناء مسجد داخل حرم مدرسة كُورتي الثانوية العليا للبنين، بلغت تكلفته المالية أحد عشر ألف وأربعمائة جنيهٍ، وبادر أيضاً بشراء وأبور ومولد لإنارة المدارس، والسوق، والمرافق العامة بتكلفة مالية تقدر بثلاثة آلاف جنيهٍ. وبعد اكتمال مباني المسجد كتب العُمدة أحمد عمر كمبال إلى الحاج عثمان عبد السلام حامد الخطاب الآتي نصه: "المحترم الحاج عثمان عبد السلام، بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كيف أحوالكم وصحتكم، وعموم الجماعة. لقد انتهى واستكمل العمل بعون الله تعالى في الجامع، وأصبح جامع من الدرجة الأولى، وعمل جيد ونظيف، نسأل الله تعالى أن يجعله عملاً للآخرة، ويجزيكم الأجر والثواب الجزيل، وخلف الله عليكم بالخير." وفي خطاب آخر وجه إليه الدعوة لحضور افتتاح المسجد بعد عودة الأستاذ عبد الله محمد خير، ناظر المدرسة، من الإجارة السنوية للعام الدراسي 1974م.
(4)
الأمانة والشفافية في حفظ المال العام
قبيل سفره إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج عام 1974م، حرَّر العُمدة أحمد عمر كمبال مذكرة تسليم إلى الأستاذ عبد الله محمد خير، مدير مدرسة كُورتي الثانوية، بشأن التبرعات النقدية المقدرة بستة آلاف وستمائة جنيه، ومصروفات المباني البالغة ألفان وسبعمائة ثمانية وأربعون جنيهاً، وثلاثمائة مليم، وباقي المبلغ المودع بحساب المدرسة ببنك النيلين بكريمة، وقدره ثلاثة آلاف وثمانمائة وواحد وخمسين جنيهاً وسبعمائة مليم. وبناءً على تلك التفاصيل جاء نصُّ المذكرة المشار إليها هكذا: "السيد مدير مدرسة كُورتي الثانوية العليا، بعد التحية، هذه صورة من أصل حسابات المدرسة للمباني، والمتبقي من التبرعات أعلاه، فنسبة لقيامي للأراضي المقدسة أحرر لكم هذه الصورة؛ لتكن بيدكم للعلم بها، وربما يحضروا بعدي جماعة لجنة المحافظ. هذا المبلغ موجود ببنك النيلين بكريمة، وسأحرر شيكات بذلك بطرف الحاج حمزة بشير، إذا دعت الظروف لحوجة منها، واستودعكم الله." ولا شك في أنَّ هذه المذكرة تكشف نوعاً من الشفافية التي كان يتحلَّى بها العُمدة، والأمانة في صون المال العام، دون أن يكون عليه رقيب، أو حسيب إلا مخافة الله سبحانه وتعالى. وهكذا برأ ذمته من أمانة المال العام قبل أن يغادر إلى الأراضي المقدسة، محملاً المسؤولية للأستاذ عبد الله محمد خير، والشيخ حمزة بشير كمبال. ويبدو أن هذه الفضيلة كانت واحدة من الأسباب التي جعلت أبناء كُورتي يتبرعون إلى مؤسسات كُورتي التعليمية بسخاء؛ لأنهم يثقون في حسن تدبيره للمال العام، واستثماره بطريقة مشروعة لصالحها.
(5)
خاتمة
تحتاج قضيَّة الإعمار والبناء في سودان ما بعد الحرب إلى أناس أُولو عزمِ، وعلى قدَّر عزمهم تأتي العزائم، بعيدًا عن المحاصصات والمكايدات السِّياسيَّة، الَّتي أقعدت السُّودان عن مواصلة خطِّ سيره الإيجابي في سبيل البناء والإعمار والتَّطوّير، بل قادته إلى حرب ضروس، دمَّرت معظم بنياته التَّحتيَّة، وشرَّدت قطاعات واسعة من مواطنيه بين النُّزوح واللُّجوء إلى دول الجوار. فنموذج مدرسة كورتي الثَّانويَّة، الذي وثقنا له في الصفحات أعلاه، يؤكِّد بأنَّ العمل العامَّ يحتاج إلى قيادةٍ صادقةٍ ومخلصةٍ، يلتفُّ النَّاس حولها. فالعمدة أحمد عمر كمبال يعدّ واحدًا من النَّماذج النَّاجحة والمشرقة في هذا المضمار؛ لأنَّه كان يتحلَّى بالجرأة في طرح المبادرات الخادمة للمصلحة العامَّة، والثِّقة العالية بالنَّفس، والقدرة على التَّواصل الاجتماعيِّ الإيجابيِّ، والأمانة والشَّفافيَّة في صون المال العامِّ. وقد ظهر ذلك جليًّا من استجابة أبناء كورتي للنِّداءات الَّتي أطلقها لتشييد مدرسة كُورتي الثَّانويَّة العليا للبنين، والإشراف على تحسين بيئتها التَّعليميَّة. فالمرحلة القادمة من إعادة إعمار السُّودان تحتاج لأناس بهذه الصِّفات، المعزَّزة بالرُّؤية الاستراتيجيَّة الثاقبة ومهارات التَّخطيط الحديثة؛ ليؤسِّسوا خطًّا واصلًا بين السِّياسة والسِّياسات؛ لأنَّ السِّياسات المدروسة هي عماد كلِّ عمل سياسيّ ناجح.
ahmedabushouk62@hotmail.com
(1)
تمهيد
يرى بعض نقَّاد دولة (56) أنَّ الحكومات الوطنيَّة الَّتي أعقبت استقلال السُّودان عام 1956 قد طفَّفت كيل المال العامِّ المخصَّص لإنشاء المؤسَّسات الخدميَّة (التَّعليم والصِّحَّة) لمصلحة المديريَّة الشَّماليَّة (الولاية الشَّماليَّة وولاية نهر النِّيل حاليًّا) خصمًا من موازنات المديريَّات الطَّرفيَّة الأخرى؛ إلَّا أنَّ الَّذي ينظر إلى تاريخ المؤسَّسات الخدميه في المديريَّة الشَّماليَّة يرى خلاف ذلك؛ لأنَّ معظمها قد شيِّد بالعون الذَّاتيِّ. ومن أفضل الشَّواهد الدَّالَّة على ذلك مدرسة كورتي الثَّانويَّة العليا الأهليَّة، الَّتي أشرفت لجنةً أعيان عمودية كورتي برئاسة العمدة أحمد عمر كمبال (1915- 1995) على جمع تبرعات بنائها، وراقبت مراحل تشييدها، وأسهمت في ترقية بيئتها التَّعليميَّة؛ لتكون صالحةً لإقامة طلبة العلم الوافدين إليها من قُرى المديريَّة الشَّماليَّة المختلفة، والأساتذة المنتدبين للعمل فيها، والعمال المحليين.
(2)
مدرسة كورتي الثانوية العليا للبنين: نشأة والتطور
تبدأ قصة تأسيس مدرسة كورتي الثانوية العليا للبنين بالخطاب الذي بعثه السيد عبد الرحمن عبد الله، عن وكيل وزارة التربية والتعليم (الأستاذ مندور المهدي)، إلى العمدة أحمد عمر كمبال، رئيس لجنة مدرسة كُورتي الثانوية الأهلية، بتاريخ 21 مايو 1967، مفيدًا إياه بموافقة وزير التربية والتعليم (الدكتور سيدأحمد عبد الهادي) بفتح مدرسة ثانوية عليا أهلية للبنين بكورتي، ابتداءً من العام الدراسي 1968/1969، بشرط أن تلتزم لجنة المدرسة بتوفير الأرض المناسبة والمباني اللائقة بها، وفي المقابل تلتزم وزارة التربية والتعليم "بإرسال المدرسين اللازمين، أو بدفع مرتباتهم على أن تكون المصروفات السنوية للتلميذ 20 جنيهاً فقط، وليقوم التلميذ بشراء كتبه وكراساته، كما على كلِّ تلميذ أن يدفع مبلغ 10 جنيهات لمساهمة المباني عند دخوله لهذه المدرسة بالسنة الأولى." كان هذا التصديق الوزاري بمثابة الضوء الأخضر، الذي دفع العُمدة أحمد عمر كمبال إلى قيادة وفدٍ رفيع المستوى من أعيان عمودية كُورتي إلى بعض مدن السُّودان؛ لجمع التبرعات اللازمة لتأسيس المدرسة. وكانت أولى زيارات الوفد (اللجنة) إلى غرب السُّودان، حيث يوجد رهط من الكوارتة في الفاشر، ونيالا، والأبيض. وإلى جانب تلك التبرعات النقدية، التي جمعتها اللجنة من أبناء كُورتي في مدن السُّودان المختلفة، اقترح العُمدة على المساهمين بمشروع كُورتي-الغُريْبَة-الباسا سابقاً التنازل عن أسهمهم بالمشروع لصالح مباني مدرسة كُورتي، وكانت قيمة السهم الواحد تقدر في ذلك الوقت بجنيه واحد وثلاثمائة وعشرين مليماً. وبالرغم من مطالبة العمدة المتكررة لحكومة مايو التي انقلبت على النظام البرلماني المنتخب للمشاركة في تأسيس مباني المدرسة؛ إلا استجابة الحكومة كانت دون المستوى. ويظهر ذلك في خطاب العمدة إلى وزير التربية والتعليم في العام 1974م، والذي جاء فيه: "لا شك أنكم تعلمون أنَّ مدرسة كُورتي الثانوية العليا قد أسست بالعون الذاتي، الذي شارك فيه كلّ الخيريين من أبناء ورجالات كُورتي، وقد بلغت تكاليف البناء حتى الآن 47,000,00 جنيه (سبعة وأربعين ألف جنيه)، كانت مشاركة الوزارة فيها 15,000,000 جنيه (خمسة عشر ألف جنيه)، وقد أسهم المواطنون بعونهم بمبلغ 32,000,000". وكانت هذه المبالغ المدفوعة تمثل تكلفة الجزء الأكبر من مباني المدرسة المشيدة، وأوضح التقرير أنَّ تكلفة الجزء المتبقي من المباني تبلغ قيمته ستة عشرة ألف وخمسمائة جنيه، وأن المواطنين دفعوا منها سبعة ألف وخمسمائة جنيه، لذلك طالب مجلس الآباء وزارة التربية والتعليم بدفع تسعة آلاف جنيهاً للمساهمة في تكملة المباني الإضافية، وبشرها بالنجاح الذي حققته مدرسة كُورتي الثانوية للبنين، حيث إنها أحرزت المرتبة التاسعة في أول امتحان لها للشهادة السُّودانية.
وفي العام 1974م حرر أحمد عمر كمبال، رئيس مجلس الآباء، والأستاذ عبد الله محمد خير أبو القاسم، الذي خلف الأستاذ عبد المنعم إبراهيم عثمان (1968-1970م)، المدير المؤسس لمدرسة كُورتي الثانوية، خطاباً إلى مواطني كُورتي بأمدرمان، وود مدني، والأبيض، ونيالا، وبورتسودان، مطالبين إياهم بمزيد من الدعم المالي لتكملة النواقص في مباني المدرسة، ورافعين البشرى إليهم بالنتيجة المُشرِّفة التي أحرزتها المدرسة، وذلك بحصولها على المرتبة الأولى في امتحان الشهادة السُّودانية القسم الأدبي للعام الدراسي 1974م. وتمَّ في ذلك الخطاب توزيع المبلغ المطلوب على النحو الآتي: 6,600 جنيه مواطني كُورتي بأمدرمان؛ و500 جنيه مواطني كُورتي بود مدني، و500 جنيه مواطني كُورتي بالأبيض؛ و1000 جنيه مواطني كُورتي بنيالا؛ و1000 جنيه مواطني كُورتي ببورتسودان. وكلف العُمدة أحمد عمر الخليفة أحمد عثمان النقيب، عضو مجلس الآباء، بجمع أنصبة مواطني كُورتي بودمدني وبورتسودان. وأفاد في الخطاب نفسه أنَّ مواطني أمدرمان قد قاموا بدفع نصيبهم. أما بالنسبة لمواطني كُورتي بنيالا فقد حرر رئيس مجلس الآباء برقيةً مستعجلة إلى خضر كمبال ومحمد هاشم، مكررة إلى محمد عمر ويحيى، حاثاً إياهم بدفع المبلغ المقدر عليهم بأسرع فرصة ممكنة، وذلك بقوله: "اتصلوا بجماعة نيالا بأمدرمان، وأعملوا اللازم مستعجلاً، لضرورة الموضوع، وأفيدونا تلغرافياً." كما أرسل برقية مماثلة إلى محمد أحمد النيل، وأولاده، وعموم الجماعة بورتسودان، مكررة إلى أحمد فتح الرحمن النيل، وصالح وإخوانه، حاثّاً إيَّاهم على دفع مبلغ الألف جنيه الذي قرره مجلس الآباء عليهم، ثم ختم برقيته قائلاً: "تكرموا بعمل اللازم؛ لضرورة الأمر، والحوجة لإكمال النواقص بالمدرسة، ولكم الشكر." وأوضح أيضاً أنه استلم تبرعات مواطني كُورتي بود مدني؛ ولكنها كانت ناقصة مائة وسبعين جنيهاً، فكتب إلى الحاج إلياس بشير كمبال، قائلاً: "وصلتنا تبرعات الجماعة بود مدني للمدرسة، فجزاكم الله خيراً، وإحساناً، وبارك الله في الجميع. لكن لا زال المبلغ ينقص 170 جنيهًا؛ لأنَّ المبلغ المقرر على ودمدني هو 500 جنيهًا، فضروري تجمعوا الـ 170 جنيهًا، ولو من السوق؛ لأنَّ أصل المبلغ المطلوب منا هو 10,000 جنيهًا، تُورد لحزينة مجلس مروي لحساب تلك المدرسة."
وفي أثناء عملية جمع التبرعات كانت لجنة المدرسة حريصة على إسداء الشكر والعرفان للمتبرعين، وتحقيقاً لهذا الهدف فقد صممت بطاقة شكر وعرفان في مطبعة كردفان، جاء نصُّها هكذا: "بسم الله الرحمن الرحيم. (السيد لجنة مدرسة كُورتي الثانوية تتقدم لسيادتكم بوافر الشكر على تبرعكم السخي، وحسن استقبالكم للوفد عند زيارته لمنطقتكم العامرة. فجزاكم الله خيراً، وحفظكم موئلاً لهذا البلد. مع الشكر. كُورتي. رئيس الوفد أحمد عمر كمبال." ويبدو أنَّ هذه البطاقات كان لها وقع حسن في نفوس المتبرعين، والشاهد في ذلك الخطاب الذي بعثه السيد حسن محمد أحمد خواجة إلى أحمد عمر كمبال، بتاريخ 4 يناير 1973م، شاكراً إياه على بطاقة العرفان والتقدير، ومثمناً دعوته للتبرع لمدرسة كُورتي الثانوية، وذلك بقوله: "أما التبرع للمدرسة نحن نراه واجب علينا، شرط وجوب وصحة معاً؛ لأننا نحن وأنتم تربطنا منطقة البديرية، وأعلاها الإسلام، وثالثها الطريقة الختمية على مؤسسها ألف سلام، وألف تحية، ورابعها أن والدنا محمد أحمد خواجة كان عاملاً في المهدية بكُورتي وأمبكول، وكان يسكن في منزل المكي ود جميل في أمبكول... ولنا معرفة بهم ومع المرحوم والدكم وأعمامكم جميعاً ... أقبل سلام أهالي تنقسي، وأبو عجاج، وجميع الأهل."
ولولا إلحاح العُمدة أحمد عمر، ومتابعته اللصيقة، وتقدير المتبرعين لشخصه، لما جُمعت تلك الأموال الخاصّة ببناء مدرسة كُورتي الثانوية بالكيفية المطلوبة. وإلى جانب هذه الجهود الطيبة فقد استطاعت إدارة المدرسة الثانوية ومجلس الآباء إقناع إدارة التعليم بالمديرية الشمالية بالتصديق لهم بضمِّ داخلية المدرسة الأولية للبنين التي تمَّت تصفيتها إلى مباني مدرسة كُورتي الثانوية، وبذلك تمَّ تقليل التكلفة المقدرة لإنشاء داخليات المدرسة الثانوية. وكانت هناك محاولة لتحويل مدرسة كُورتي الثانوية إلى مباني المدرسة الوسطى للبنين، لكبر حجمها وجمال عمرانها، ولكن تلك المحاولة لم تكلل بالنجاح، وظلت المدرسة الثانوية العليا في مبانها الجديدة وداخليات المدرسة الأولية.
(3)
ترقية الخدمات والبيئة المدرسية
بالنسبة لسكن المدرسين حاول العُمدة أحمد عمر كمبال أن يبتكر خطّة أقلّ كلفة مالية وأفضل مبادرة لتطوير مدينة كُورتي عمرانياً، قوامها تشجيع القادرين من أبناء كورتي بتشييد منازل سكنية لهم، أو صيانة منازلهم القديمة بكُورتي، لاستئجارها للموظفين والمدرسين العاملين في المدينة. وقد حرر العديد من الخطابات في هذا الشأن، ونذكر منها خطابه إلى الحاج عبد السلام عثمان كمبال، والذي يخبره فيه بأنَّ المنزل الأول والثاني قد تمَّ تشييدهما بصورة كاملة وحسنة، والمنزل الثالث الكبير قد بلغ مرحلة السقف، ثم يطلب منه إرسال بعض مواد البناء الخاصّة بتكملة ذلك المشروع. وفي السياق ذاته يخاطب السيد علي شخينا عثمان، قائلاً: "أخبركم أن البلد هنا قد زادت وازدهرت كثيراً، بفضل العمران من المدارس وخلافه، وأصبح السكن في المنازل بالأجرة، ولقد أجرنا منازل كثيرة بلغت الأجرة من 2 جنيه لغاية 8 جنيه، وقد أجَّرنا منزلكم بمبلغ 3 جنيهاًت و500 مليماً من أول شهر 9/1969م." وخاطب أيضاً الأستاذ حمد عبد الرحمن كمبال، وأخيه محمد عمر كمبال، وحاج محمد عثمان حسين، حاثّاً إياهم على ضرورة تعمير منازلهم بمدنية كُورتي، وكانت استجابة كلّ واحد منهم حسب توقعاته. ومن أولئك الذي خطابهم في هذا الشأن الدكتور علي كمبال عثمان، وجاء في خطابه المؤرخ في 21 أكتوبر 1969: "سبق أن كتبتُ لكم خطابًا بخصوص موضوع تصليح منازلكم بكُورتي، وكان الخطاب بواسطة عمك حاج العباس؛ لا أدري هو وصلكم، أم لا. والآن الموضوع هو كالآتي: منازلكم بكُورتي تحتاج لإصلاح كبير جداً، والآن هي بها مدرسة البنات الوسطى، ونحن فعلاً شرعنا في تصليح البعض، ولكن لم يكتمل التصليح حيث التلف كبير، ويحتاج لتقويم، وسقف، وأخشاب للسقف، وأبواب، وشبابيك، وهذا يحتاج لمبلغ على الأقل 250 جنيهاً، أو أكثر. فضروري جداً من تحويل هذا المبلغ لنقوم بعمل ما يلزم مع العلم نحن شرعنا في العمل فعلاً، وهذا المنزل نرجو أن لا يُهجر، ويكن خرباً؛ لأنَّه مسقط الرأس. هذا وأرجو أن لا تهمل هذا الموضوع البسيط، والمهم جداً. والدكم أحمد عمر كمبال."
وفي إطار ترقية خدمات المدرسة تبرع الحاج عثمان عبد السلام حامد ببناء مسجد داخل حرم مدرسة كُورتي الثانوية العليا للبنين، بلغت تكلفته المالية أحد عشر ألف وأربعمائة جنيهٍ، وبادر أيضاً بشراء وأبور ومولد لإنارة المدارس، والسوق، والمرافق العامة بتكلفة مالية تقدر بثلاثة آلاف جنيهٍ. وبعد اكتمال مباني المسجد كتب العُمدة أحمد عمر كمبال إلى الحاج عثمان عبد السلام حامد الخطاب الآتي نصه: "المحترم الحاج عثمان عبد السلام، بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كيف أحوالكم وصحتكم، وعموم الجماعة. لقد انتهى واستكمل العمل بعون الله تعالى في الجامع، وأصبح جامع من الدرجة الأولى، وعمل جيد ونظيف، نسأل الله تعالى أن يجعله عملاً للآخرة، ويجزيكم الأجر والثواب الجزيل، وخلف الله عليكم بالخير." وفي خطاب آخر وجه إليه الدعوة لحضور افتتاح المسجد بعد عودة الأستاذ عبد الله محمد خير، ناظر المدرسة، من الإجارة السنوية للعام الدراسي 1974م.
(4)
الأمانة والشفافية في حفظ المال العام
قبيل سفره إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج عام 1974م، حرَّر العُمدة أحمد عمر كمبال مذكرة تسليم إلى الأستاذ عبد الله محمد خير، مدير مدرسة كُورتي الثانوية، بشأن التبرعات النقدية المقدرة بستة آلاف وستمائة جنيه، ومصروفات المباني البالغة ألفان وسبعمائة ثمانية وأربعون جنيهاً، وثلاثمائة مليم، وباقي المبلغ المودع بحساب المدرسة ببنك النيلين بكريمة، وقدره ثلاثة آلاف وثمانمائة وواحد وخمسين جنيهاً وسبعمائة مليم. وبناءً على تلك التفاصيل جاء نصُّ المذكرة المشار إليها هكذا: "السيد مدير مدرسة كُورتي الثانوية العليا، بعد التحية، هذه صورة من أصل حسابات المدرسة للمباني، والمتبقي من التبرعات أعلاه، فنسبة لقيامي للأراضي المقدسة أحرر لكم هذه الصورة؛ لتكن بيدكم للعلم بها، وربما يحضروا بعدي جماعة لجنة المحافظ. هذا المبلغ موجود ببنك النيلين بكريمة، وسأحرر شيكات بذلك بطرف الحاج حمزة بشير، إذا دعت الظروف لحوجة منها، واستودعكم الله." ولا شك في أنَّ هذه المذكرة تكشف نوعاً من الشفافية التي كان يتحلَّى بها العُمدة، والأمانة في صون المال العام، دون أن يكون عليه رقيب، أو حسيب إلا مخافة الله سبحانه وتعالى. وهكذا برأ ذمته من أمانة المال العام قبل أن يغادر إلى الأراضي المقدسة، محملاً المسؤولية للأستاذ عبد الله محمد خير، والشيخ حمزة بشير كمبال. ويبدو أن هذه الفضيلة كانت واحدة من الأسباب التي جعلت أبناء كُورتي يتبرعون إلى مؤسسات كُورتي التعليمية بسخاء؛ لأنهم يثقون في حسن تدبيره للمال العام، واستثماره بطريقة مشروعة لصالحها.
(5)
خاتمة
تحتاج قضيَّة الإعمار والبناء في سودان ما بعد الحرب إلى أناس أُولو عزمِ، وعلى قدَّر عزمهم تأتي العزائم، بعيدًا عن المحاصصات والمكايدات السِّياسيَّة، الَّتي أقعدت السُّودان عن مواصلة خطِّ سيره الإيجابي في سبيل البناء والإعمار والتَّطوّير، بل قادته إلى حرب ضروس، دمَّرت معظم بنياته التَّحتيَّة، وشرَّدت قطاعات واسعة من مواطنيه بين النُّزوح واللُّجوء إلى دول الجوار. فنموذج مدرسة كورتي الثَّانويَّة، الذي وثقنا له في الصفحات أعلاه، يؤكِّد بأنَّ العمل العامَّ يحتاج إلى قيادةٍ صادقةٍ ومخلصةٍ، يلتفُّ النَّاس حولها. فالعمدة أحمد عمر كمبال يعدّ واحدًا من النَّماذج النَّاجحة والمشرقة في هذا المضمار؛ لأنَّه كان يتحلَّى بالجرأة في طرح المبادرات الخادمة للمصلحة العامَّة، والثِّقة العالية بالنَّفس، والقدرة على التَّواصل الاجتماعيِّ الإيجابيِّ، والأمانة والشَّفافيَّة في صون المال العامِّ. وقد ظهر ذلك جليًّا من استجابة أبناء كورتي للنِّداءات الَّتي أطلقها لتشييد مدرسة كُورتي الثَّانويَّة العليا للبنين، والإشراف على تحسين بيئتها التَّعليميَّة. فالمرحلة القادمة من إعادة إعمار السُّودان تحتاج لأناس بهذه الصِّفات، المعزَّزة بالرُّؤية الاستراتيجيَّة الثاقبة ومهارات التَّخطيط الحديثة؛ ليؤسِّسوا خطًّا واصلًا بين السِّياسة والسِّياسات؛ لأنَّ السِّياسات المدروسة هي عماد كلِّ عمل سياسيّ ناجح.
ahmedabushouk62@hotmail.com