مدنية الحكم ثورة Revolution تحدث من خلال تطورٍ ونشوء “Evolution”(1)

 


 

 

الفاضل إحيمر – أوتاوا 15 يناير، 2022

(1)
من أهم ما تتميز به الحقبة الزمنية التي نمرُّ بها نحن، أو تمرُّ بنا هي، على الأصعدة السياسية والاجتماعية، هو رفض الشعوب للقهر والتسلّط والتجبُّر والسلطوية والشعور بالتميُّز والفوقية والاستحقاق غير المُستَحق أيَّاً كان نوعهم ومصدرهم وأيَّاً كانت ادعاءات الأهلية لهم والجدارة بهم. ولقد كان أيضاً من أهم ما اتسمت به هذه الحقبة هو إدراك الأفراد لحقوقهم وسعيهم للحصول عليها بل انتزاعها كاملة غير منقوصة، عنوة واقتداراً وليس منة من أحد أو تفضلاً. ومن أجل هذا وبسببه، انتظمت العالم انتفاضات وثورات اتخذت كافة الأشكال وأطلقت عليها العديد من المسميات، البرتقالية، الأرجوانية والربيع.
كان لكل من تلك الانتفاضات والثورات أسبابه ومبرراته وحظه من النجاح، ودون أن نبخس أياً منها حقه أو ننتقص من قدره، فقد تفوقت عليها وبزتها جميعاً ثورة الشعب السوداني العظيمة الرائدة والفريدة في 19 ديسمبر 2018 في عدة مجالات منها، على سبيل المثال لا الحصر، الصمود والثبات والسلمية رغم البطش الغاشم والقمع الأعمى وابتداع أساليب في التظاهر والتعبير عن المطالب مما جعل تلك الثورة ليست منبع دهشة ومصدر أعجاب العالم فحسب، بل قدوة احتذت بها واقتبست منها العديد من الثورات، المزامنات لها واللاحقات. لقد أحدثت تلك الثورة أدباً في مجال الثورات وابتدعت ثقافة في مجال الانتفاضات سيأتي حين تدوينها والتأريخ لها حينما ينقشع الضباب وينجلي الغبار.
لقد كان لثورة ديسمبر المجيدة عدة دواعي وأسباب ومبررات تفاوتت واختلفت باختلاف الفئات وتمحورت بتطور الأحداث ومرور الأوقات، كما كان لها مطالب وغايات عكست ما يختلج في نفوس الجماهير من طموح ٍمشروعٍ وأشواقٍ وتطلعات، غير أنه أتي في مقدمة ذلك مطلبان أجمع أفراد الشعب عليهما، أو كادوا، ونادوا بها في هتافات انطلقت من القلوب قبل الحناجر وزلزلت كل المنصات والمنابر: "حرية، سلام وعدالة" و "مدنياااااااااو" أي "مدنية"، هتف بهما الشيوخ الركع والأطفال الرضع وكانت آخر من نطقته شفاه كل شهيد قبل أن ترقى روحه للسماء وترفع.

(2)
لن يجرأ كائن من كان، ما لم يكن يحمل بين كتفيه رأس وعل يريد أن ينطح صخرة ليوهنها، لن يجرأ
أن يطعن في شعار "حرية، سلام وعدالة" أو يسعى لفذلكته ولويه أو مطًّه فقد غدت تلك القيم مما لا ينتطح حوله كبشان واصبحت من أبسط حقوق الإنسان ومن أوثقها صلة بحق الحياة. أما الشعار الآخر المرتبط بمدنية الحكم فتشاء طبيعته وظروفٌ وملابساتٌ متعلقة به وأرثٌ وممارسات قديمة وحديثة ومعطياتٌ زمنية أو مكانية محيطة به، أن تجعله موقع أخذٍ وعطاء وشدٍّ وجذب وساحة اجتهادات لا تتوقف ومبعث فتاوى لا تنقطع. وهذا الشعار هو الموضوع الرئيسي في هذا المقال.
في هذا الجانب، ما غادر الشعراء من متردم، أي أنه لم تترك ناحية منه لم يطرقها المفكرون والمحللون والمعلقون، غير أن تسليط المزيد من الضوء عليه لن يطفئ ما سبقه ولن يخمد إيقاد شمعة وهج ما سبقها من شموع. وللحديث في هذا الأمر، لا بدَّ من مقدمات.

(3)
أبتداءاً، لعله لا يجانب الصواب ويجافي الحقيقة القول بأن مدنية الحكم حتمية قد يتأخر ويتعثر تحققها لكنها ستحدث مهما طال الزمن وغلي الثمن. نعم، كانت هناك حقب كان رأس الجماعة أو زعيم العشيرة أو شيخ القبيلة أو قائد الملة هو الزعيم الروحي، المصدر الرئيسي للتشريعات، من بيده كل الثروات، والقائد العسكري في الحروب والغزوات، الرقيب، الحسيب والنقيب في اللمات والملمات. ولتأمين ذلك وضمان أن تستب له الأمور، كان لا بد من أن يحيط نفسه بشرذمة من "اشداء" ذوي ولاء وعلى شاكلته، متسلطين متجبرين، غير أن ذلك الزمن قد ولى إلى غير رجعة وفات "فات وفي أيدينه كل اللعنات".
ومن ناحيةٍ أخرى، فإنه منذ أن نال السودان استقلاله قبل زهاء السبعة عقود تولَّت الحكم فيه ولما يربو على الخمسة عقود حكومات عسكرية. ورغم نكران البعض، و"الشينه منكوره"، فإن أحزاباً سياسية، تقليدية، طائفية وعقائدية "أيدلوجية"، إن لم تكن خلف الانقلابات التي أتت بالعسكريين للسلطة، فقد أيدت استيلاءهم عليها ورحَّبت به وسعت لأن تكسبهم شرعية وشعبية وأن تُعينهم على الحكم أو تحكم معهم أو من خلالهم ومن خلف الكواليس. وفي سياق ذلك تولى مناصب رئيسية ولعب أدواراً ـأساسية في دولة وآلة حكم العسكر مدنيون: حملة شهادات علمية رفيعة، وأصحاب قدرات مهنية وعملية عالية، سياسيون مرموقون، مفكرون، إعلاميون، رجال أعمال، زعماء عشائر وشيوخ طرق صوفية وكمٌّ لا يستهان به من الانتهازين والأرزقية الذين لكل من صار مالكاً لزمام الأمور يطبِّلون ويرقصون وعلى كل الموائد يتطفلون وكالذباب يقعون.
وفي سياقٍ متصل، فإن الشعب السوداني، تحت ضغوطٍ معيشية وبسبب إخفاقات قياداته، أياً كان نوعها،
في أن توعيه سياسياً وأن تقنعه بجديتها وجدواها أو تحقق القدر اليسير من طموحاته، وبسبب تأثير وتوجيه زعاماتٍ سياسية غير بصيرة، يائسة، متعجلة أو مخطئة في حساباتها، رحَّب في بداية الأمر بالانقلابات وأيد العسكريين وهلل لهم وعوَّل عليهم وقدَّم لهم من الدعم أكثر مما كانوا به يحلمون. ولعله
من أبرز أمثلة ذلك أن الشعب السوداني قدم لجعفر النميري، قائد انقلاب 25 مايو 1969، على الأقل في سنواته الأولى، من الدعم ما لم يلقه زعيم قبله ولعلَّ في الكم الهائل من الأناشيد والأغاني والقصائد غير المسبوق ولا الملحوق التي مجدت مايو وقائدها وقبلهما غيرهما خير شاهدٍ ودليلٍ على ذلك.
غير أنه وبعد ثلاث فترات عسكرية، كان أطولها وأظلمها، ظلاماً وظُلماً، ما أعقب انقلاب الجبهة "الإسلامية" التي اندست وراء البشير وطغمته الآثمة الغاشمة، قدم الشعب خلال أعوامها الثلاثين العجاف الكالحات الكثير من التضحيات وتحمَّل ما لا يحصى ولا يعد من المحن والابتلاءات من نظام سادر أفراده في حب الذات، غارقون في الملذات والشهوات أفسدوا الدنيا باسم الدين والدين من أجل الدنيا، لم يتورعوا عن إرتكاب المعصيات أو يرعووا عن أتيان الفواحش والموبقات، إنتهاك العرض وقتل الأنفس دون حقٍ والفساد في الأرض، قالها الشعب عالية مدوية، صريحة، واضحة قوية لا للعسكر و"مدنييييييياو".
لقد اتَّخذ الشعب، صاحب السلطة والمصلحة الحقيقية قراره وحدد خياره ولقد مهر ذلك بالدموع والعرق والدماء، عمَّده بالأطراف والأشلاء وقدم، قرابين في محرابه أكرم وأنبل الشهداء. حَكَم وحَسَم الشعب أنه يريد حكماً مدنياً، نعم، حكماً مدنياً كاملاً غير منقوص، بلا تزييف ولا تسويف، مُسلَّماً لا شِيَّة فيه مبرأ ًمن كل العيوب، وكما يهتف الداعمون للثورة في شتى حواضر العالم “When do we want it? Now”. والحال هكذا، ما على المدنيين والعسكريين الآن سوى الانصياع والامتثال لقرار الشعب والتخلي عن الذاتية والأنانية والتحلي بروح المسؤولية والوطنية والحكمة لإنفاذ إرادة الشعب دون مماطلة ومماحكة ومكابرة أو عناد، وأن يبذل كلُّ المعنيين كلَّ ما في وسعهم لأن يتمَّ ذلك في أقرب الآجال وأن يجيء ذلك على أكمل الوجوه وأفضل الأشكال. سوف يسجل التاريخ بأحرفٍ من نور وعلى أنصع صفحاته من أسهم في ذلك وعجَّل به ثم التزم ورعاه وسوف يلقي في مذبلته كلَّ من عرقل وعطَّل ذلك وحال، ولو إلى حينٍ، أن يحقق الشعب مبتغاه.
...... يُتبع

 

ihaimir@aol.com
/////////////////////////

 

آراء