مراجعات (أ) (1 و2). الطيب صالح ووجه آخر: مصطفى سعيد والصراع غير المتكافئ للإنتلجنتسيا

 


 

مازن سخاروف
8 November, 2021

 

مراجعات (أ) (1 و2). الطيب صالح ووجه آخر: مصطفى سعيد والصراع غير المتكافئ للإنتلجنتسيا*
(نشرتُ هذه المادة قبل سنوات عديدة بمنتدى sudan.net used to be. وأعدت نشر جزءٍ منها قبل عدة أشهر, مع بعض التصرف بموقع سودانيز أونلاين). الجزء (أ) سيكون خلفية نقدية لـ"الوجه الآخر" للطيب صالح". بينما سيكون الجزء (ب) خوضا بأسانيده في مسألة خطيرة بصدد المرحوم الطيب صالح ونص رواية موسم الهجرة. لتسهيل المرجعية على المتابعين, سأعيد تقسيم ما سبق نشره, وأنسخ جزئين (1) و(2) فيما يلي:
(1)
إفتتاحية:

"All classes struggle. Some classes triumph. Others are eliminated."
Mao

تقديم

كتبنا منذ سنوات بموقع سودان دوت نت عن شخصية مصطفى سعيد وخضنا من مناظير مختلفة فيما يمكن تسميته بالنقد الثاني (أو الأدب الثالث), أي نقد النقد. الخلفية كانت موضوعا نقلته هنا بت أمدرمان على ما أذكر بعنوان قريزلدا الطيب تكشف شخصية مصطفي سعيد".

المساجلات للأسف ضاعت بعد تعرض الموقع للقرصنة الإلكترونية, ولكن يمكن تلخيص موقفي على الأقل آنذاك بمحاولة إبعاد مصطفي سعيد عما أسميته في وقته بأدب السيرة الذاتية من مدارس النقد البيوغرافي خاصة الأنقلوساكسوني, الذي يختزل الرواية إلى حدوتة علاقات بين حياة الكاتب وبيئته العالمثالثية, وما يمكن أن ينتجه الكاتب وبيئته من أدب. أي أن النقد الأنقلوساكسوني هو نقد تبسيطي ومهيمن يفرض قيودا على آفاق الخيال الأدبي ويربطه بصورة مصيرية ببيئة الكاتب. والكشف المزعوم على يدي السيدة قريزلدا أرملة البروف عبدالله الطيب يصب في باب وجهة النظر الإستعمارية الإستعلائية. التي تترجم العالم الآخر على أنه جنين يولد مشوّها وليس أكثر من مجرد ضحية للبيئة, دون حتى اعتبار للظروف الموضوعية للرواية والأحداث.

حسب التسمية, أي أدب السيرة الذاتية, فإن الخيال الهندي مثلا يستطيع التعبير عن مواضيع محدودة بعينها مثل معاناة المنبوذين والفصل على أساس الكاصت .. والذكر أو الأنثى ذات الجلد الأسمر فالعنصرية تتربص بها أينما ذهبت ولن تستطيع الفكاك منها. أما الواقعية, فإن أتت من أمريكا الجنوبية, تصبح بقدرة قادر وفي غمضة عين واقعية سحرية, أي يمكن أن يضاف إليها حسب جرعة التحيز, مركبات سالبة مثل الخيال المنفلت حتى على القيم, والسحر الأسود والعنف العشوائي, إلخ. وهذا التقسيم حسب هذا المنطق يفرز بين الإبنة النابغة الكاملة, أي الواقعية الحقيقية بدون أقواس, وأخواتها الأقل حظا من الجمال ورجاحة العقل, مثل واقعية العالم الثالث الـ .. سحرية

من هنا فإن هذا النوع من النقد ما إن يتعرض للنص حتى يتورط بسرعة في ملاحقة ظل الكاتب فيه, حقيقة أو خيالا فيترجم النص دوما على خلفية حياة الكاتب. فيفرض صدفا إقحامية على فضاء السرد, وصولا إلى نهايات واستنتاجات جاهزة لسجن النص في إحداثيات إصطناعية وقوالب مستترة تمثل تجسيدا لرؤية المستعمـِر الأبدية للمستعمـَر

وعليه, فيتحوّر مشروع النقد التاريخي للرواية مثلا إلى مجرد أورخة للنقد بصبغة استعمارية, أو:
A (Colonial) Historiography of Criticism

(2)
سقوط الإنتلجنتسيا والهزيمة الداخلية ... الطيب صالح يؤكد فرضيات الإستعمار

المأزق أن الذي شرح فيما سبق يمثل وجهة نظر متفائلة جدا وتعتمد على إنتلجنتسيا متقدمة جدا في الوعي والنضج الذهني لتفكيك الخطاب من منظور معافى من شراك وفخاخ الإستعمار, وللسخرية من حتمية مزعومة لإستسلام الآداب والفنون لما يسمى بالبيئة, وبل على العكس جعل الإحتمالات الأخرى مفتوحة, تحقيقا لأمل الإرتقاء بتلك البيئة داخل كما خارج النص في مسيرة التقدم الإنساني للأفراد والشعوب.

لذا, فقد وجدت الطيب صالح يكاد أن ينسف نظريتي من أساسها حين وجدت حوارا له في اليوتيوب أجرته معه قناة الـ إم بي سي في عام أربعة وتسعين وتسعمائة وألف, يدعم فيه تسمية الواقعية السحرية
, وليس هذا فحسب, بل يوافق مقدم الحوار, محمد رضا نصر الله في أسبقية الطيب صالح بأدب الواقعية السحرية على كتاب أمريكا اللاتينية
لا أستطيع أن أقول سوى, الهزيمة الداخلية يصعب إبتلاعها.
وقفة:
الجزء الثاني من الحوار هو الذي ورد فيها الحديث عن الواقعية السحرية.

https://www.youtube.com/embed/G1AKpC7IY1M

وبدلا من التصدي لهذا النوع من ترسانة الحرب الثقافية لتقزيم وسجن الإنتاج الإبداعي للإنتلجنتسيا, يتحول الموضوع إلى جدلية حول أسبقية العرب على الأمريكيين الجنوبيين في إنتاج الواقعية السحرية.

للإنصاف (إضافة لم ترد في النص الأصلي), الطيب صالح أولا وفي المقام الأول يضع "الواقعية السحرية" بين أقواس, إذ في معرض إجابته على السؤال حول من أتى بالواقعية السحرية أولا يقول, "الواقعية, ثم يستدرك فيقول "ما يسمى بالواقعية السحرية" .. فوق ذلك يقول في نهاية إجابته "إذا كان الشباب الآن متجهين هذا الإتجاه (أي الإستفادة من الأسطورة في الصياغة الروائية, سخاروف), فأنا أظن هذا إتجاه حسن, لأنو هذا يعيدهم إلى جذورهم, ويبعدهم عن الألاعيب الأوربية في الشكل". فهو هنا يتفق معي , وقد سبقني بها طبعا في الإشارة إلى النزعة الأوربية لوضع إنتاج الآخر بين قوسين فيما يتعلق بالنقد الأدبي (وليس النقد الأدبي وحسب). لكني آخذ عليه أنه لم يمض أبعد من ذلك, فيـُثيت مثلا أن "السحرية" في الواقعية تعني بصريح العبارة واقعية محلية\إقليمية\مناطقية, أو واقعية بالقياس إلى واقعية معيارية أوربية يُـنسب كل شيئ لها في المنظور الأوربي. بكلمات أخرى, الواقعية الأوربية هي الصورة الأصلية, بينما "االواقعية السحرية" مجرد نيقاتيف. أو الأوربية رواية مهيمنة في محكمة "عقلانية" الأدب, بينما "الأخرى" مجرد تفريعة من تفريعاتها, إن لم تكن فوق ذلك (حسب جرعة التحيز كما أسلفنا) هلوسة أدبية.

إن تساءل بعض القراء, لماذا "جعل قبة من تلك الحبة"؟ فأستطيع القول وبكل ثقة, إننا هنا لا نلجأ إلى أو نكتفي بإثارة الزوابع في الفناجين, بل نلفت الأنظار إلى أيديولوجيا شاملة لتحجيم الآخر. فعلم النفس مثلا سواء أتى من فرويد, يُنق أو أدلر هو علم للإنسان الأوربي, بينما الإنسان الأسود مجرد هامش على حواشيه. هذا ليس حتى كلامي, بل كلام الذين اقتحموا هذا المجال ووجدوا هامشية وتهميش الآخر ليس في الآداب والفنون وحسب, بل في الظواهريات وعلم النفس, وقس على ذلك (1).
The point is, there is no epistemology of blackness that is considered universal. Black is "only in relation to white"

في الأدب والعلوم والسلم وحتى الحروب, لا تسمى الحرب "عالمية" إلا إذا كان الأوربي أحد أطرافها.
مصداقا لذلك, إلتقيت بأحد الكتاب البريطانيين من أصل روسي (2). بعد أن قرأ إحدى قصصي القصيرة قال لي, "كتاباتك أوربية". أجبته على الفور, بالطبع. "إنت كنت مفتكر شنو يعني"؟

في المقام الثاني, يقول الطيب صالح في تفكيك "الواقعية السحرية" بإن "كل نظرتنا إلى الدنيا هي خليط بين الواقع والأسطورة". أي ييتحدث عن أثر التراث في القص الروائي. وسأعرض لذلك باختصار فيما يلي في الحلقة القادمة رقم
(3)
للفائدة الحوار كاملا مع الطيب صالح هنا:
https://www.youtube.com/embed/upMt-7kZFLA

------------------
* إصطلاح "إنتلجنتسيا" إختراع روسي.

(1) سأقوم بشرح ذلك في مقبل المقالات حتى لا يتشعب الحديث.

(2) كان ذلك في حديث هاتفي عقب لقائي الأول والأخير بالكاتب البريطاني من أصل روسي زنوفي زِنِك. نشرت جزءً من أول لقاء لي معه في موقع سودانايل بتاريخ 29 يونيو 2021, وتلك كانت إفتتاحية سلسلة مقالات بعنوان, "لندن: ذكريات وأحاديث" على هذا الرابط:
https://sudanile.com/%D9%84%D9%86%D8%AF%D9%86%D8%8C-%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A3%D8%AD%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%AB-%D8%A8%D9%82%D9%84%D9%85-%D9%85%D8%A7%D8%B2%D9%86-%D8%B3%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D9%88/

** السبب الرئيسي لإعادة نشر ما نُشر مسبقا بسودان نايل أن بعض المقالات تعرضت للضياع بسبب تغيير نظام الأرشفة بسودانايل فلم تعد المشباكات المتعلقة ببعض المقالات تعمل, دون آلية تحويل تنقل المتصفح إلى المقالات عن طريق روابط بديلة أحدث.
==
مازن سخاروف

jsmtaz2014@gmail.com
////////////////////

 

آراء