مراجعة مراجعات المحبوب عبد السلام: تفسير الإسلام جعله مشكلة (3) … بقلم: صلاح شعيب

 


 

صلاح شعيب
28 June, 2013

 




(3من5)
ربط الاستاذ المحبوب عبد السلام في جزء من مقولاته في ندوة واشنطن بين حالة فشل الإسلامويين في السيطرة على الدولة السودانية والأسباب الموضوعية والذاتية التي أوردتهم مواضع هذا الفشل. ولعل مراوحته بالتحليل بين هذه الاسباب الذاتية والموضوعية التي جابهت الحركة الإسلامية لم تمس نظرية الإسلام السياسي لفحص قدراتها الذاتية التي اصطدمت بالاسباب الموضوعية أثناء التطبيق الذي واجهه الإسلاميون في مسار تفسيرهم لظاهرة الحكم المتأله. وهو بالثابت لم يكن إلا التسلط، أو قل الاستبداد، الذي انتهى إليه، لا شئ آخر.
فوفقا لحالة المسلمين في الألف سنة الماضية اتضح أن تفسير الإسلام، بنسخته الإسلاموية، صار مشكلة من حيث أنه أراد أن يكون هو الحل. بل  كأن هذا التفسير قد جعل الإسلام في ذاته مشكلة، ولذلك يفهم معنى تصاعد نسبة الإلحاد بأرقام قياسية في البلدان الإسلامية. إذ لا يمكن بكل مقاييس المنطق ألا يلهم دين في تقديم نموذج مميز للبشرية على مستوى الحياة الاجتماعية وتعاملاتها في حين أن الإسلامويين ما فتئوا يقولون في كل محفل إن الدين جاء ليملأ الأرض نورا بعد أن ملئت جورا، أو ظلاما.
وبرغم أن بعضا من المفكرين يقاربون أسباب فشل الدين بفشل حملة مشعله، فإن هذه المقاربة معطوبة من زاويتين. الأولى: أن المقاربة، موضوعيا، لا تتم بين عقيدة ومعتنقيها وإنما بين دينين، مثلا بين الإسلام والمسيحية. إذ أنهما أثران لاهوتيان يمكن قياس درجة قدرة كل واحد منهما على التأثير الإنساني سلبا أو إيجابا. فضلا عن ذلك فإن الأديان لا تقاس بالفشل أو النجاح إذ أنها مواريث لاهوتية موجهة للفرد. وهناك وظيفتان للأديان، روحية ومادية. فما يحققه دين للفرد على مستوى الصفاء النفسي إلى مماته هو آخر ما يصبو إليه كل أي متعقل يريد سلوى للإنسان في حاضره. فكيف إذن الحكم على فشل دين عموما ما دام أنه يمنح الإنسانية قدرا من مثله، وقيمه الأخلاقية الرسالية.؟
وطبعا يبقى أن كل دين غير مسؤول بطبيعة الحال إذا قمت أنت الآن بتفسيره بناء على تأويلك. بل إن تأويلك للفكر الإنساني عموما يبقى نسبيا وليس هو بالضرورة مقدس من ناحية صحته الصمدية. والحقيقة أن الأديان السماوية، أو غير السماوية، ونتيجة لثقلها الروحاني تمتلك قدرا هائلا من لطائف تهذيب الروح الفردية، وذلك ما يلقي ثقلا على ذهنية مراجعة المحبوب الحقيقية، وذلك بالاصرار على تمسكه بتطويره هذه اللطائف لصالح الفرد إن لم يكن لكل البشرية.
أما السبب الثاني لخطل المقاربة بين فشل الدين وحملته فهو أن الإنسان المسلم، أو اليهودي، أو المسيحي، أو الكجوري في ما يحقق من سلام للإنسانية، أو نجاح في العلوم أو الفكر السياسي، إنما هو كذلك بكامل معطياته الفكرية، والتي ربما ساهمت بصورة أو بأخرى في حفزه لتحقيق ذلك النجاح أو السلام. فكيف إذن تستقيم مقاربات مثل: "فشل الإسلام أم المسلم"، أو "فشل اليهودية أم اليهودي"، "فشل المسيحية أم المسيحي"، أو "فشل البوذية أم البوذي". إلى أي مدى يمكن قياس فشل الضمير في تحقيق سلواه الروحية؟
على أنه يمكن مقاربة إبداعية التفسير الديني للمسيحية الخارج من لدن المسيحيين مع إبداعية التفسير الديني للإسلام الخارج من لدن المسلمين. والملاحظ أن بعضا من الإخوة الملحدين الذين كانوا مسلمين وبسبب حالة الانحطاط في بيئات المسلمين يردون فشل المسلمين إلى الإسلام نفسه بينما يوقن بعضهم تماما أن الآلاف من العلماء من المسلمين ساهموا بنصيب وافر في الحضارة الإنسانية بناء على محفزات إيمانية ـ رسالية. وإذا كان الإسلام فاشلا لعجزت رسالتهم في الإحاطة بتلك المعارف ونشرها. فنحن ندرك أنه من داخل حوض الحضارة الإسلامية خرج علماء أفذاذ في مجال فقه اللغة - اللسانيات، والفلك، والطب والرياضيات، والكيمياء والفيزياء، والصيدلة، والتاريخ، والأدب، والجغرافيا، والهندسة،
إذا استثنينا فجر الإسلام، فإن كل هذا التاريخ الطويل لم يوجد نظاما عادلا ونموذجا مستقرا ومقنعا لتداول السلطة. وهذه الحيثية هي ما جعلت معظم الدول الإسلامية تتجه الآن لاستعارة نموذج الديموقراطية الذي تخلق في بيئة التنوير المسيحي. ومن العسير محاولة فك الارتباط بين التفكير الفلسفي لعصر الإنوار والخلفية الدينية للتنوير. وكثيرا ما نافح المفكرون أن التنوير المسيحي كان سابقا للحركة السياسية للتنوير الديني. ويمكن تمثيل الأمر كما لو أن التنوير الذي بذله علماء الإسلام المعاصرين داخل حقل التفكير الديني أمثال عبد الرحمن الكواكبي، وعلي عبد الرازق، محمد أركون، وجورج طرابيشي، ومحمد شحرور، ومحمود محمد طه، والعشماوي ونصر حامد أبو زيد سيشكل يوما أساسا لحركة سياسية في غالب ديار المسلمين لإنجاز التغيير السياسي الذي يستلهم من قراءات هؤلاء العلماء لا من قراءات المفكرين السياسيين الذين يعالجون قضايا العالم الإسلامي بناء على مفاهيم تعالج مشاكل سطح العمل السياسي لا جذوره، إذ يمور التفسير الديني ويصطدم.
التركيز فقط، من جانب المحبوب وغير المحبوب، على أن الإسلام السياسي قد خلق من الإسلام مشكلة داخل أوطانه وخارجها ليس موضوعيا بالقدر الكافي. فالإسلام السياسي هو يمين التفسير الديني إن كانت جل المذاهب تمثل وسطه أو يساره. وفي هذا الإطار لا بد أن الإسلاميين قد لحظوا الخيط الرفيع الذي يفصل بين ذينك التيارين. أو بالأحرى أن الفروقات بينهما ليست جوهرية كون أن المذاهب الأخرى تدعوا لعلمانية الدولة أو إحداث القطيعة مع الموروث الديني الذي أورث المسلمين هذا التخلف عن ركب الحضارة. صحيح أن كل هذه المذاهب تنادي بالدولة المدنية كمفهوم غائم وملغوم بتفسيرات مظللة باحتيال فكري. ولعل انكشاف تياري الإسلام السياسي في مصر وتونس عبر ما تسرب عن أسرار قادتهما في الغرف المغلقة ينم عن صورة لما تستبطنه اتجاهات غير إسلاموية في حمل ذات المعاني: التصريح بمدنية الدولة في العلن، والقناعة بإمكانية تطبيقها لأحكام الشريعة الإسلامية في السر.
إن قام الاستاذ المحبوب بمسح ميداني لكل المذاهب الدينية التي تشتغل بالسياسة في العالم الإسلامي، من غير جماعة الإخوان المسلمين، سيرينا أن برامجها السياسية للتحديث إنما تقوم على أساس تحديث بعقلية سلفية لما هو سلفي مجرب. وليس على أساس اجتراح قواعد تفكير جديد تعود للمنبع الإسلامي وتقوم بقراءته بناء على أسس نظرية حديثة. إنها عقول متسربلة تحاول إنقاذ سلفية الألف عام بسلفية جديدة تفكر بشكل مضاد لمحاولات التحديث التي بذلها علماء أجلاء مذكورين قبلا، والتي توصف أحيانا بأنها متغربنة، أو أمبريالية، أو أنها تهدف إلى قطع الوصل الحضاري وإدماج المسلمين في ركب تيار العولمة، هذا مع تخفيف حمولة الاتهام. ولو أتبع إنقاذيو العشرية الأولى ما قاله هؤلاء العلماء لوفروا دماء المسلمين وغير المسلمين التي أهدرت دون أن يلوح أمل لعقد المحاسبة القومية، ناهيك عن الفردية التي فشل الإسلام السياسي في عقدها لتطهير عضويته من آثامها، إن كان ذلك مقبولا عند الله.
صحيح أن القاعدة الجمعية للتفكير الإسلامي ـ بإستثناء التيارات العلمية الحديثة في الجامعات ومنظمات المجتمع المدني ـ تقوم على قناعة راسخة بأن الإسلام السياسي شكل خطرا على حاضرها ومستقبلها. ولكن الإسلام السياسي نفسه قد انبثق من داخل ما عجزت عن تحقيقه سياسيا، وهو على هذا الاساس يمثل جناحها النشط الذي عرف قيمة التنظيم البديع في العمل السياسي بتحشيداته الوافرة، فوقا عن أن قاعدة الإسلام السياسي منبثقة من هذه القواعد الجمعية  للسلفية السياسية. ولولا هذه القاعدة لما تمكن الإسلام السياسي من تحقيق نجاحاته التنظيمية، بل إن قيادات الإسلام السياسي تتحدر معظمها من قاعدة القيادات السلفية سواء في مصر أو السودان أو الخليج. والأكثر استغرابا إن الإسلام السياسي في نسخته السودانية والمصرية ضم قيادات يسارية وليبرالية يبدو أنها كانت تمارس تاريخها السابق وفقا لقناعات دينية سلفية، ولم تكن قراءتها في الفكر الإنساني ليؤثر في صالح تفكيرها.
والمحبوب وبجانبه كثير من الإسلاميين الخارجين عن الحركة الإسلامية يسعون إلى تحديث قاعدة الإسلام الجمعي وفقا لمفاهيم الدول المدنية التي ما تزال تفقد أبوتها الشرعية، وتجربتها الميدانية. ولكن يظل هذا التحديث ضربا من تضييع الوقت وإعادة إنتاج للأزمة. فقاعدة اليمين الديني إجمالا بحاجة إلى مراجعة جديدة من المحبوب ليتقصى أبعاد فشلها في صيانة الدين المتحقق والمحافظة على قيمه ومواريثه. وإن أراد الاستاذ المحبوب أن يقيم هذه المراجعة حقا فإن المطلوب منه اتخاذ منهج الحياد الذي به سيتفهم حقيقة خطر الإسلام السياسي في أصله على وحدة نسيج المجتمعات المسلمة، وإلا سيظل انطلاقه من ذات منهج الإسلام السياسي لقياس مدى إصلاحه محاولة لإعادة إنتاج الفشل مرة أخرى، وربما بشكل أفظع مما حدث في السودان.

salah shuaib [salshua7@hotmail.com]

 

آراء