مسائل وشخصيات وقراءات في حب الوطن .. هوى السودان في ذاكرة معاوية يسن

 


 

 

abusamira85gmail.com
عندما تكون المغامرة في قلب الحياة، هذا ما يميز الصحافي المقتدر والباحث المتمكن معاوية حسن يسن هو أنه يضعك دوما في قلب المغامرة. وهذه صفة جديرة بأولئك الأسلاف الصحافيين الأوائل، رغم أن أكثرهم لم يكتب كتابا واحدا، فبقيت المغامرة مجهولة، لكن أثرها ظل يشم على الدوام عبر ليالي الحكايات، وهنا يتعين علينا أن نترحم على أرواح أساتذة إجلاء يعود الفضل إليهم في ما حققنا من نجاح في دنيا الصحافة، يتقدمهم أحد قادة أول إضراب لطلبة كلية غردون قيلي أحمد عمر، وسيد الرأي والفهم فضل الله محمد. ويتوهط بين هؤلاء الراحلين: توفيق صالح جاويش، شيخ إدريس بركات، محمود بابكر جعفر، محمد صالح يعقوب،ولا يفوتني محمود إدريس مختار.
ويمتد الأثر إلى أساتذة أجلاء سبقونا في المهنة نسأل الله أن يمتعهم بالصحة والعافية، وفي مقدمتهم: سليل المريوماب طلحة الشفيع، سبطة صاحب العبقرية الفذة الإمام عبد الرحمن المهدي الدكتورة زينب عبد الرحمن أزرق، ولا انسى (بت أمدرمان القيافة) سونا أو بثينة عبد الرحمن حسن.
مناسبة هذه التقدمة لهؤلاء الأساتذة الأجلاء أن الأداء المهني الراقي للأستاذ معاوية حسن يسن ينتمي إلى تلك المدرسة وكان أدائه المهني محل إشادتهم وتقديرهم، وكنت أنا شخصيا التقي بتلك الإشادة عبر قراءة صفحات أرشيف جريدة الصحافة خلال تلك الفترة من 1977 إلى 1980.
أصل الحكاية
أما أصل الحكاية، فقد اختار الأستاذ معاوية يسن نماذج من تجربته الصحفية تتمثل في مسائل وشخصيات وقراءات في حب الوطن، ودونها في كتاب جديد صدر أخيرا بعنوان (في هوى السودان).
كتاب من 464 صفحة من الحجم المتوسط أصدرته دار مدارات للطباعة والنشر.
جاء عنوان الكتاب من ثلاث كلمات (في هوى السودان) وحرف الجر في في لغة العرب يفيد الكلية، رغم أن الكتاب جهد فردي يعادل جهد مؤسسة، يخدم الصحافة الحديثة ويوصلها بتجربة الحرية في تشكيل الوعي، حرية يتميز بها الواقع السوداني وطالعة من بند الحرية المتفرد في التكوين الثقافي للوطن الذي لا يزال جديدا.
معاوية يسن صاحب قلم متميز، كصحافي عريق،وباحث متمكن، لكن شهرته الكبرى جاءت من رصده لسيرته الغناء والطرب في السودان منذ زمن بعيد (قبل الناس تعرف الناس)، وله أربع مجلدات في هذه السيرة الجهيرة التي لها فيها حكايات داخل وخارج السودان أقرب إلى أساطير الأولين.
يتخطى بك معاوية في كتابه (هوى السودان) بأبوابه الخمسة حدود تلك الأيام، ينتشر رائحته في الشوارع الأزقة والساحات ويقتحم النوافذ إلى الغرف القصية، ينتقل بك مثل نهر النيل هادئا مرة ثم صاخبا مزمجرا وفي الحالين يحمل الخصب والنماء، لكن سرعان ما يفيض ويكتسح القرى والمدن.
خيارات متعددة
حين تهب نسائم الليل بين صفحات الكتاب تجعل خياراته متعددة، واحتضانه للغريب حميما حتى تصهره فيها. وعشق معاوية يسن لليل ونسماته وأوقاته تخاله أحيانا نرجسية مفرطة، أو محاولة لتطويع هذه الأمواج حتى تزيده جموحا وتمردا.
(هوى السودان) تجربة جديدة للكتابة تخوض في بحر من السفن الغرقى والناجية، ربما تلمح مناديل الوداع وتلويح الأيدي لراحلين بلا عودة. ولو أن ذاكرة السودان تشيخ لما اختارها معاوية ذاكرة له.
عند (هوى السودان) يجلسك معاوية، لقراءة 463 صفحة من القطع المتوسط، لن تشعر بالزمن قد انقضى أو أنه كان سريعا، نراقب في ذاكرة يتسع أمامها كل ضيق، لا تقيم حدودا، فيشرح الصدر هذا الهواء المحمل بالصدق وبراءة التجربة ومرارتها أيضا، نتحد به لتنطلق أحلامنا بلا حدود، ونقول إن الآخر جزء من تكويننا.
بنية الكتاب
تقع بنية كتاب (هوى السودان) في باب انفتاح الذات على تاريخها، ولعل هذا الكتاب التحقيقي للباحث في باب التراث والموسيقى وسائر شئون وشجون حياة أهل السودان معاوية حسن يسن يجسد هذه النزعة العلمية في البحث ورغبتها في تأسيس وعي آخر بالشفوي والمرئي والفني الثقافي عموما. ولعل انفتاح المؤلف على المراكز الثقافية ومخطوطاتها يعتبر تثمينا لواقع جديد ننتظر أن يعم في كل أبحاثنا وكتاباتنا لما فيه من خير عميم على البحث والقراءة.
تصنف الأستاذة سناء أبو قصيصة صاحبة دار مدارات التي نشرت الكتاب، تصنف الكتاب في إطار فكرة Bookzaine التي تعد من أحدث الطرق في النشر التي تجمع بين الكتاب والمجلة.
أما كاتب المقدمة الدكتور أحمد الصادق صاحب أشهر برنامج إذاعي في استعراض الكتب عرفته إذاعة أمدرمان (خارج المكان)، فقد استعار لنفسه وصف حاج الماحي (الوليد الزويل الهين). وصف د. أحمد الصادق الكتاب بـ (إنها كتابة واثقة بطعم ومذاق سودانيين تكشف فيما تكشف فضول معاوية الذي لا حدود له لكل ما له علاقة بالشأن السوداني).
يرسخ كاتب المقدمة الثانية للكتاب الدكتور الحاج سالم مصطفى استاذ علوم المكتبات في ذهن القارئ أن المؤلف معاوية يسن (لم يقتصر على مجرد الكتابة والوصف، بل أنه يجتهد وينقب، وينفق الوقت والمال، ويضرب أكباد الطائرات لأقاصي الدنيا، بحثا أو استيثاقا لمعلومة من مظانها، وعن جدتها وأصالتها).
انفتاح الذات
هوى السودان كتاب في انفتاح الذات، كتاب الهوى الغلاب عند معاوية يسن ليصبح ملحمة جديدة في ميدان الكتابة السودانية، فهو يحاكي أنواعا وأجناسا كتابية عدة، فمرة يعكس صورة الرواية الكلاسيكية المتضمنة محاكاة الذات، ومرة نراها دراما متعددة الشخوص والأحداث والأزمنة، لكن معاوية يسن في مؤلفه يمسك بـ (هوى السودان) ذلك الخيط الرفيع الذي يربط بين بين أبواب الكتاب الأربعة وفصوله التي بلغت 38 موضوعا، اجتهد في تقسيمها مثل أنصبة شرعية في تركة وطن.
ولعل تركيبة الكتاب الجديدة والغريبة جزء من قيمته الإبداعية، فقد طغت عليها المشاعر الإنسانية بشدة وبرع الكاتب في تأثيث الأحداث تأثيثا جيدا، فخلق المكان في مدينة ساحرة مثل أم روابة وألبسه رداء الزمن الغابر في حكايات (بت السودان) و(جمالي البريد) وإثارة سؤال مهم فحواه من رسم (بوتريه الإمام المهدي). يجمع المؤلف كل هذه اللقطات ليقدم صورة شعرية عن الوفاء والطفولة وأحلام المستقبل المنشود وصعوبات الحياة.
هذا كتاب جدير بالبحث والدراسة بما يكتنزه مسائل وشخصيات وقراءات في حب الوطن، ولعله قد يعطي دافعا قويا للأدباء والباحثين والكتاب والنخب المثقفة للسير وراء هذا الصنف الكتابي الجديد الذي من الواجب أن يتناوله النقاد بصدق وأكاديمية عالية.
بين العنوان والمتن تبرز ميزة هذا الكتاب الإضافية أنه قد يفتح الوعي العام بعد قراءته أمام مقاربات نقدية فاعلة عن النص وعلاقته بمكوناته كاسم المؤلف والعنوان، إضافة للمصاحبات الإضافية للنص، مما يدخل القارئ في جدل قرائي بين بنية محيط النص الخارجي ومكونات النص النص بذاته. وهنا ينطبق تعريف كريفل للعنوان يعطي صدقا لقوله هو إعلان عن طبيعة النص وعن الرؤى الوطنية التي انبثق عنها.
اغراء العناوين
تغري العناوين شكليا ودلاليا عبر وظائفها المتعددة القارئ وإثارته وتشويقه لقراءة النص والمواصلة، بل حتى استفزازه بما يثيره من أسئلة على الصعيدين البصري والقرائي، بوصفه بنية قائمة في ذاتها وتخضع في تحليلها لقانون العلاقات الداخلية. وقد نجح هنا المؤلف بلفت نظرنا إلى شخصيات عالمية قتلها الحب للسودان وتسعى للانتساب إليه، بل أن هناك الكثير من الأسر والمدن والشوارع تنسب نفسها إلى اسم السودان ومدنه المختلفة.
من المعروف أن عوامل نجاح أي نص كتابي ضخم احتواؤه على عوامل أساسية تشد القارئ وتجذب فكره نحو المواصلة لمعرفة المزيد، ومن هذه العوامل في هذا العمل الوضوح والصدق حيث كانا من أفضل عوامل التشويق، فنرى المؤلف ينصف الشاعر الفحل محمد الواثق، ثم يرد الاعتبار للمرحوم محمد نور سعد حين يورد الرواية الرسمية لقصة غزوته المسماة بـ (المرتزقة) في 1976، ثم يعود ليستشهد بأكثر من أغنية شعبية تتبنى الأحداث وتنميها وتوفر للقارئ حيزا استيعابيا أكبر.
هل كان المؤلف يريد تغيير العالم؟ قطعا الإجابة هي لا، لكن اعتقد أنه لم ينظر إليها كمهمة سهلة، رغم إيمانه بها. وغالب ظني أن معاوية يسن ركض وراء الهوية في كتابه (في هوى السودان)، وهي فكرة جميلة رآها على الورق ففتن بها، وحين رآها على الأرض دون رتوش ذهب إلى المرآة وحدق فيها مليا ثم عاد ليكتبها بهذا البهاء.
لغة الكتاب
يكمن سر لغة معاوية يسن في (هوى السودان)، في طريقته السردية. فهو يتنقل بالقارئ بين عوالم في الكتاب مختلفة تماما، ويربط بينها باستخدام اللغة التي تصبح المشترك الأوحد بين هذه العوالم. وهنا يحاول أن يربط بين هذه العوالم ويبحث عن علاقات مشتركة جديدة بينها، وتكون نتيجة هذا الجهد الذهني أن يجد القارئ نفسه خلال لحظات القراءة يدخل ويخرج ويغوص ويطفو في عوالم متعددة لم يكن يظن أن بمقدوره التنقل بينها بهذه السرعة، بالضبط هذا ما أحسست به عندما في تنقلت في باب الكتاب الرابع (مسائل في هوى السودان)، بين أسئلته العديدة ولعل أبرزها:
1 ـ أين هو ذلك السوداني أب عينا حمرة وشرارة؟.
2 ـ د. الترابي كيف سيحكم عليه التاريخ؟.
3 ـ جلالة علي دينار في بلاط سلفا كير؟.
4 ـ الثورات .. نهايات سعيدة أم تعيسة؟.
5 ـ كرومة والشيخ خوجلي والدلوكة في إيران واليونان؟.
ولعل هذا الفن الكتابي التنقلي الخاطف بين عوالم مختلفة متداخلة عند معاوية يسن قد يولد حالة غريبة من الكشف الذهني لدى القارئ. وقد يكون هناك شبه بين أسلوب الانتقالات المفاجئة بين العوالم المختلفة لتصبح متداخلة على طريقة معاوبة يسن، وبين الهدف الذي سعت إليه المدرسة السريالية بقيادة الشاعر الفرنسي أندرية بريتون من محاولة تحقيق التداخل بين عوالم الحلم والواقع.
إلا أن سر نجاح معاوية يسن، يكمن في أنه لا يغرق في ممارسة الحلم كبديل عن الواقع، لكن ما نصادفه لديه يتمثل في الانطلاق من جذر الواقع نفسه بهدف إعادة تشكيله وفق الحلم. وهذا ما فصله المؤلف بوضوح في تقديمه للكتاب.
حقيبة الفن
اشتهر معاوية بسن بكتاباته التي تحكي عن سيرة الغناء والموسيقى في السودان، وله في هذا المجال مجلدات دونت بواقعية متزنة سارت بذكرها الركبان، لكن الباب الخامس من كتاب هوى السودان الذي يحمل عنوان (مسائل في الغناء السوداني)، يفتح آفاقا جديدة في هذه السيرة العطرة، فتراه يقدم لنا لقاءُ نادرا مع حمزة علاء الدين لعل الأول والوحيد من نوعه، ثم يعود في محاولة جرئية وجديدة جدا ليشرح لنا قصيدة خليل فرح (في الضواحي وطرف المدائن)، ويمتد إلى نماذج من شعر الحقيبة رافضا أن يسجن الغناء السوداني في ماضوية شعر الحقيبة الذي يمتد إلى فترة تاريخية لا تتجاوز 20 عاما. على أن المهم في هذا الباب الإشارة إلى ان فنون كردفان هي التي اجتاحت سوق الغناء السوداني، وهنا يحضرني قول لعبد الكريم الكابلي فحواه (إن معظم غناء أهل السودان مستمد من فنون كردفان حيث ألحان الجرار والبوباي والشاشاي وخلافها). والشيء بالشيء يذكر فقد اهتم مولانا أحمد محمد هارون (فك الله أسره) والي شمال كردفان الأسبق إبان مشروع نهضة كردفان بهذا الأمر وسعى بخلفيته القانوينة إلى توثيق تراث كردفان الفني عبر حفظ حقوق الملكية والحقوق المجاورة.
في باب مسائل في الغناء السوداني اعتمد معاوية يسن على استرجاع زمان الأحداث ليحيك بنية هوى السودان وترتيب سلسلتها الفكرية والمنطقية، حين يستحضر (عتيق صريع النظرة الأولى) ويحدثنا عن (برعي محمد دفع الله في اللقاء الأول). ويسرد في ذهنية جميلة (ثنائي النغم الحكاية الكاملة وحادثة دبابة جوبا). ثم يقف أجلالا أمام (الفريق العظيم جعفر فضل المولى). ويعود مستخدما المونتاج المكاني حين يحدثنا عن (الوجه الآخر لانقلاب 19 يوليو 1971).
كنوز دفينة
في تقدير الأكاديميين أن كتب التاريخ كنوز دفينة، فهي عمل مفصل قام بسرده المؤرخون، ودائماً، ما تغمرنا هذه الكتب بالسعادة من جهة الحنين إلى الماضي، ولكن ليس هذا كل شيء بالنسبة للمؤرخين المعاصرين، لأننا لسنا فقط في حاجة لتقديم الماضي، بل أيضاً لشرحه وتفسيره، إلى طبقة أكبر، تخرجه من ظلام عباءة الماضي إلى ضياء الحاضر وفضاء المستقبل.
وقياسا على ذلك فإن معاوية حسن يسن في كتابه (في هوى السودان) جسد ذاك البحث عن متلقي آخر، لأنه انخرط في كتابة جديدة يقتضيها ذاك الوعي الآخر بالحضارة السودانية في عمق احتفائها بالحرف والتراث والفنون، حيث المخطوط والغناء والطرب، فيتأسس القول المحتفي بالمعنى حيث عمق التواصل والتجريد.
(في هوى السودان) كتاب جدير بالقراءة والاقتناء.

 

 

آراء