مستر يودال شيخ الغردونيين في فتيل: ثورة رفاعة الأولى (1930)

 


 

 

ذاعت ثورة رفاعة بقيادة الأستاذ محمود محمد طه ضد قانون محاربة الختان الفرعوني في 1946 كتطفل على ثقافة الأمة غير مأذون لمحتل أجنبي مطعون في وجوده ذاته. ولكن كانت لرفاعة ثورة ثانية في 1930 على تطفل استعماري آخر هو موضوع هذا المقال.

أقام خريجو مدارس السودان في 8-3-1930 حفلاً لوداع مستر ي يودال مدير كلية غردون التذكارية (1906-1930). وكان من بين من وقفوا على المنبر مودعين يودال المستعرب هيللسون من قلم المخابرات االاستعمارية ذو المعرفة الدقيقة بالعربية السودانية حتى صدر له كتاب عنوانه "نصوص السودان العربية" (1935). وألقى هيللسون في المناسبة قصيدة بعامية السودان احتذي فيها جنس "الدوباي" الذي وحدته الأساسية مربعات قد يكتفي المرء منها بواحدة أو بأكثر. قال هيللسون في مربعها الأخير عن يودال مثلاً:

دايماً لطيف وباش للعُشَمَا والطلاب

مِن طالب العِلوم قَط ما قَفَلت الباب

يودال الفي بلدنـا زرع تيراباً جاب

ودعتك للرسول يا شيخ الغردوناب (خريجو كلية غردون)

كان عثوري على هذه الأبيات ومناسباتها ثمرة اهتمامي بشخصية المستر يودال ومنزلته بين السودانيين في إطار بحث أريد به نقض رواية تاريخ السودان في ظل الاستعمار الإنجليزي (1898-1956) كما وصلتنا من دعاة وقادة ومؤرخي صفوة الحركة الوطنية والاستقلال. ومثل هذا النقض رائج وذائع على زماننا هذا في الكتابات التاريخية عن تاريخ البلدان المستعمرة كالسودان. وأميز مدارسه هي المدرسة الهندية المسماة بـ الـ SUBALTRAN. وأترجمها بدون تكلف بمدرسة "الرجرجة"، أي التي تريد أن تكتب تاريخ الأمة لا من زاوية الخاصة من صفوة الحركة الوطنية بل من زاوية عامة الناس ممن كان يسميهم المرحوم عبد الله رجب، محرر جريدة الصحافة الثورية في الخمسينات، بـ "الأهالي الغبش". ومدرسة الرجرجة تأخذ على الصفوة أنهم، في سياق تمجيدهم لمقاومتهم للاستعمار، هونوا من شأن تأثير الاستعمار وتغلغله في أدق خلايا البلدان التي وطئها. ففترة الاستعمار في عقيدة هذه المدرسة ليست حلماً مزعجاً قصيراً صحت منه الأمة بفضل الوطنيين لتعود إلى سابق تاريخها ببراءة وببساطة.

لقيت أول خبر هذه الأبيات في جريدة "الحضارة السودانية" التي وصفت وداع مستر يودال وصفاً شاملاً. وجاء ضمن هذا الوصف أن مستر هيللسون ألقى قصيدة بالعامية السودانية التي يُحسنها. وأنها لقيت استحسان جمهور الصفوة حتى استعادها مرةً ومرة. وشغفتُ بالقصيدة، ورغبتُ في الحصول على نصها، وطلبته حتى وجدته في طيات أرشيف السودان بجامعة درهام الإنجليزية.

هيأتني "الحضارة"، جريدة الصفوة، لأحسب أن أمر القصيدة انتهي كله باليُمن والبركة. ولم يكن الأمر كذلك. فقد كنت أقرأ كتاب "تاريخ حياتي" للشيخ بابكر بدري المربي المحارب القديم في جيش المهدية، ومؤسس مدارس الأحفاد، لأجد أن القصيدة قد استفزت لدى نشرها جمهوراً غير صفوة نادي الخريجين في مدينة رفاعة. فاستنكرها ذلك الجمهور، وسخط عليها، ولم يهدأ روعه حتى اعتذر الشاعر عنها.

ما الذي استفز جمهور هذه المدينة في قصيدة للصفوة في دار للصفوة؟

ما أسخطهم هو مربع المطلع من القصيدة الذي يطلب فيه الشاعر من الناس قبول سفر يودال النهائي عن السودان كحكم مقدور لا اختيار فيه ولا فرار منه فقال:

للحكم المقدور قولو السمع والطاعه

يودال دَار الرحيل واتعينت الساعه

أبكن على فراقـه يا بنات رفاعـه

وكان مقتل الشاعر هو الشطر الأخير. فقد استغرب أهل بلدة رفاعة هذا التطفل الاستعماري على نسائهم. فحتى بابكر بدري، الذي هو بحق رائد تعليم المرأة السودانية في تلك المدينة بالذات منذ عام 1905، استعجب قول الشاعر هيللسون "الرجل العاقل الرزين المستعرب" أن بنات بلدة رفاعة يغضبن لسفر يودال.

وكان بابكر بدري حسن الظن جداً بهيللسون. ومع ذلك غضب حين قرأ الشعر، وذهب إلى مكتب هيللسون يستفسره جلية الأمر. فقال له هيللسون إنه يتأسف جد الأسف في انعكاس غرضه فيما قال. وزاد بأنه كان يظن أن قوله هذا يسر سكان رفاعة، وأنه قلد النغمة السودانية التي تعبِّر عن فقد الرجل النافع في بيته وقبيلته على لسان النساء. ونبهه الشيخ بابكر بدري إلى أن مثل هذا القول مستنكر من غير ساكن رفاعة ناهيك عن قبوله من أجنبي مثله. والتمس هيللسون من الشيخ بابكر بدري أن يعتذر بلسانه إلى أهل رفاعة. وكان هيللسون بأمس الحاجة إلى هذا الاعتذار لأن أهل رفاعة، عامهم وخاصهم، كانوا متذمرين من القصيدة خشية أن تحمل جريدة الحضارة بكاء حريمهم على أجنبي كافر إلى القاصي والداني.

الشاهد في هذا الباب أن نص بابكر بدري، الذي لا أجد له رواجاً في كتابة تاريخ الاستعمار كما تَروج جريدة الحضارة، قد وفر لنا قراءة أكثر تعقيداً وتأويلاً لنص هيللسون ما كنا نبلغها لو اكتفينا بما جاء عنه في جريدة الحضارة.

جاء بابكر بدري بجمهور آخر للقصيدة ذي هموم ومشاغل وذوق هو على خلاف جمهور نادي الخريجين بأم درمان. وتقف هذه القراءة المتضافرة مثلاً ناجزاً سديداً على مفهوم "الهوان الاستعماري" الذي جاء به باسل ديفدسون المؤرخ الإنجليزي لأفريقيا في كتابه "عبء الرجل الأسود". وأراد بهذا الهوان الخزي الذي يحسه الشعب لمجرد عيشه في ظل نظام استعماري غريب الوجه واليد واللسان. وأهم ما في المفهوم تفرقة ديفدسون بين شعور الصفوة وعامة الناس بهذا الهوان. فالصفوة تقبل به كضريبة حداثية. أما عامة الشعب فيؤذي ذلك الهوان خاطرهم وفطرتهم. ولربما فسر لنا هذا المفهوم اختلاف الاستقبالين لدوباي هيللسون. فلم تر الصفوة في نادي الخريجين الحرج من الدوباي الذي أهان العامة.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء