معركة حكم مصر بين الجيش والإخوان

 


 

 



aaltaweel04@yahoo.co.uk


د. أمانى الطَّويل
خبير بمركز الأهرام للدِّراسات السِّياسيَّة والإستراتيجيَّة

تبدو معركة التَّحوُّل الدِّيمقراطيِّ في مصر على قدرٍ كبيرٍ من التَّشابك والتَّعقيد, فهذا التَّحوُّل محكومٌ في تفاصيله بإرثٍ تاريخيٍّ ضخمٍ يؤطِّر ملامح للهويَّة المصريَّة. وقد تكون ثورة المصريِّين في العام 2011 وتوابعها في العام 2013 تقود نحو حسم صراعٍ استمر أكثر من قرنٍ، بشأن صورة الدَّولة المصريَّة في العصر الحديث، ما بين ثلاثة مناهج فكريَّةٍ: الأوَّل منحازٌ للخلافة الإسلاميَّة بنماذج متنوِّعةٍ وبتجلِّياتٍ فكريَّةٍ مختلفةٍ، بدءًا بالأفغانيِّ ومحمَّد عبده، وصولًا إلى رشيد رضا وحسن البنَّا. أمَّا المنهج الثَّاني فينحاز إلى نموذج الحداثة الأوربيِّ ببطليه طه حسين وتوفيق الحكيم، بينما يتحدَّث النَّموذج الثَّالث عن خلطةٍ مصريَّة منفردةٍ، تحدث عنها أحمد لطفي السَّيِّد، وبطلها الحقيقيُّ والمؤسِّس لمصطلح "شخصيَّة مصر" هو جمال حمدان.
وفي هذا السِّياق تحوز التَّطوُّرات السِّياسيَّة المصريَّة بعد 30 حزيران/يونيو جدلاًٍ هائلاًٍ؛ داخليٍّا وخارجيٍّا، تميِّزه حالة الاستقطاب بين الفرقاء التَّاريخيِّين، ولكن بفارق اصطفاف فريقَي الهويَّة المصريَّة والحداثة الأوربيَّة في خندقٍ واحدٍ ضد معسكر الخلافة الإسلاميَّة بتنوُّعاته الحزبيَّة والفكريَّة. وفي هذه المعركة يتخندق المعسكر الإسلاميُّ ليؤطِّر لتوابع ثورة 2011 باعتبارها انقلابًا على الشَّرعيَّة، ومعركةً ضدَّ الإسلام، بينما يراها الخليط الثَّاني إرادةً شعبيَّةً، استخدمت آليَّاتٍ ديمقراطيَّةً، وساندتها القوَّات المسلَّحة باعتبارها أحد أعمدة الوطنيَّة المصريَّة.
في هذا الصراع يلعب الإعلام القديم والجديد دورًا رئيسًا فى تحريك الرَّأي العامِّ, وصناعة السِّياسات. ومن هنا تم تحييد هذا العامل من جانبنا، في ضوء ما يبدو لنا من أنَّ التَّحليل الاجتماعيَّ لحالة التَّغيير في مصر ربما يكون الأداة الأكثر أمانًا لتحقيق حالتَي الموضوعيَّة والحياد، والوصول إلى تقييمٍ واقعيٍّ حول دوافع التَّغيير وآليَّاته، ثمَّ استشراف مستقبله، ومدى قدرته على تحقيق استقرارٍ يقود إلى تحوُّلٍ ديمقراطيٍّ, يكون بطبيعته قاطرة التَّقدُّم بمصر في كلِّ المجالات.
وسوف يتضمَّن هذا التَّقييم محورين رئيسين: الأوَّل يعنى بتفسير لماذا خسر الإخوان حكم مصر خلال عامٍ واحدٍ؟ والثَّاني يبين فرص مصر في تحوُّلٍ ديمقراطيٍّ حقيقيٍّ.
أوَّلًا، أسباب خسارة الإخوان حكم مصر
نلجأ إلى روايتين مختلفتين ربما تفسران ماذا يجري في مصر حاليًّا: الرِّواية الأولى من إنسانٍ بسيطٍ يكسب قوته يومًا بيومٍ، قال لي: "لم نكن نعرف كيف ندخل إليهم"، بما يعني أنَّ الإخوان تحرَّكوا في الشَّارع بعد وصولهم إلى سدَّة الحكم بمنطق التَّنظيم المغلق، لا يتفاعل إلا مع من هم معه تنظيميًّا، ونطاقه الأوسع على الإطلاق، وهم المتعاطفون معه. أمَّا الرِّواية الثَّانية فهي من مساعدٍ شابٍّ لوزيرٍ في التَّشكيل الوزاريِّ الأخير، روى شهادته على ما جرى في الوزارة قائلًا: وجدنا أنَّ مفاصل الوزارة، من مستوى مديري العموم، قد تحوَّلت إلى الإخوان، بإجراءاتٍ غير صحيحةٍ قانونيًّا أحيانًا، فتمَّ ندب المنتمين من وزاراتٍ أخرى، وبتصنيفٍ وظيفيٍّ أقلَّ، إلى مستوياتٍ أعلى، أو تمَّ توظيفٌ من الخارج لعناصر إخوانيَّةٍ( ).
تفكيك الروايتين يعني أنَّ الإخوان قد خسروا الفئتين الاجتماعيَّتين الأوسع في مصر، وهما: الفقراء الذين يشكِّلون 40% على الأقلِّ من السُّكَّان، والطَّبقة الوسطى. فالرِّواية الأولى تُظهِر أن الإخوان لم يدركوا أنَّ قدرة هؤلاء على تدبير المعيشة، أو التَّحايل عليها، بمعنى أدقَّ، تستند إلى التَّفاعل مع الحاكمين بمنطق المنافع البسيطة التى تعين على الحياة الشظفة، والتي تصل أحيانًا إلى حدِّ الجوع, وذلك عبر الحصول على  تسهيلات إجرائيَّة؛ من أمثلة علاجٍ على نفقة الدَّولة, أو إقامة المشروعات متناهية الصِّغر. وقد فوجىء الجَوْعى بأنَّ هذه الطَّلبات المحدودة مقصورةٌ فقط على أعضاء التَّنظيم وأنصاره المؤكَّدين.
أمَّا الرِّواية الثَّانية فتشير إلى تطوُّرٍ لم تشهده مصر منذ عام 1952، وهو إقامة دولة الحزب على أسسٍ أيديولوجيَّةٍ في المستويات الوسيطة من البيروقراطيَّة المصريَّة التَّليدة, بما يعني، أوَّلًا، استبعاد قطاعٍ واسعٍ من الموظَّفين في الجهاز الحكوميِّ الذي يعمل به نحو خمسة ملايين مواطنٍ, كان لا بدَّ وأن يتحوَّلوا في هذه العمليَّة إلى مُعادين للنِّظام الحاكم، بسببٍ منطقيٍّ، وهو تهديد مصالحهم المباشرة، خصوصًا وأنَّ نظام الأجور في البيروقراطيَّة المصريَّة قائمٌ على مبدأ الحوافز والمكافأت والبدلات للمواقع الوظيفيَّة، متجاهلًا   مبدأ الأجر مقابل العمل( ). ويعني، ثانيًا، اعتماد الإخوان على أسسٍ إداريَّةٍ فاسدةٍ، انكشفت أمام النَّاس، وهي أنَّ إستراتيجيَّة التَّمكين لها الأولويَّة على آليَّات الحكم الرَّشيد. ومن هنا فقدَ الخطاب الدِّينيُّ بكلِّ مفرداته لدى جماعة الإخوان صدقيَّته التي أسَّست شعبيَّتهم في الفئات الاجتماعيَّة الوسيطة في مصر، وخصوصًا داخل القطاع الحكوميِّ.
وبعيدًا عن الشَّهادات المباشرة، فمن المؤكَّد أنَّ الفئات الاجتماعيَّة المهمَّشة، خصوصًا الأقباط، لم يحصلوا على دعم الإخوان على الإطلاق، على الرُّغم من الجهود الإخوانيَّة لجذبهم عبر تأسيس خطابٍ تاريخيٍّ يشير إلى حرص حسن البنَّا على التَّفاعل الإيجابيِّ معهم(3)، فهذه المحاولة لم تكتسب صدقيَّةً لدى الأقباط على الإطلاق، استنادًا إلى فتاوى صدرت من قياداتٍ إخوانيَّة في مكتب الإرشاد خلال العقود الثَّلاث الماضية، ويمكن رصدها اعتبارًا من عام 1980, عندما نشرت مجلَّة الدَّعوة في كانون الأوَّل/ديسمبر فتوى لمحمَّد الخطيب، عضو مكتب الإرشاد، بعدم جواز بناء الكنائس, وكذلك فتوى من مصطفى مشهور، مرشد الجماعة، عام 1997, أكد فيها أنَّ على الأقباط دفع الجزية بديلًا من الالتحاق بالجيش(4).
وبلور محمد حبيب، المنشقُّ حاليًّا عن الجماعة، موقف الجماعة النِّهائيَّ من مسألة المواطَنة بقوله: "نظرتنـا للأقباط على أنَّهم مواطنون لهم كافَّة حقوق المواطنة(5)، ويترتَّب على ذلك حقُّهم الكامل في تولِّي الوظائف العامَّة، ما عدا رئيس الدَّولة، استنادًا إلى أنَّ التَّرشُّح للرِّئاسة ينبع من كونه ولايةً كبرى، ولا ولاية لغير المسلم على المسلم"(6). وقد أعلنت الجماعة الموقف ذاته في عدم تولِّي الأقباط والمرأة منصب رئيس الدَّولة، وذلك في برنامجها الإصلاحيِّ الذي طُرِح على المصريِّين عام 2007.( 7)
وقد صُنِّفت احتجاجات المصريِّين ضد الإعلان "الدِّستوريِّ" الرِّئاسيِّ في تشرين الثَّاني/نوفمبر 2012، خصوصًا في التظاهرات الحاشدة حول قصر الاتِّحادية الرِّئاسيِّ، بأنَّها مظاهرات المسيحيِّين، وذلك من جانب خيرت الشاطر(8) الذي يُنظَر إليه في مصر على أنَّه صانع القرار السِّياسيِّ الحقيقيُّ, وطبقًا لذلك كان من الطَّبيعيِّ أن تفشل مغازلات الإخوان للأقباط خلال حكم الرَّئيس محمَّد مرسي، وأن لا يعتدَّ الأقباط بوعود الإخوان، خصوصًا وأنهم يصفون خطاب الإخوان بأنَّه خطابٌ دينيٌّ استعلائيٌّ(9).
من المفهوم في هذا السياق أن يفقد الإخوان كتلةً سكانيَّةً من المصريِّين لا يُستهان بها؛ حيث يذهب بعض التَّقديرات إلى أنَّ أعداد المتظاهرين الأقباط في الميادين المصريَّة يومَي 30 حزيران/يونيو و26 تمُّوز/يوليو قد تراوحت ما بين ستة ملايين وثمانية ملايين في كل تظاهرة(10). ولعلَّ ذلك هو ما يفسر الهجوم على بعض كنائس الصَّعيد، وعلى كنيسةٍ فى بورسعيد أيضًا صبيحة تظاهرات 26 تمُّوز/يوليو. بل إن مطالبات الأقباط بإقرار مبدأ المواطَنة المتساوية اعتبرها جانب من الإسلاميين نتيجةً مباشرةً لعزل مرسي(11).
أما فيما يتعلق بالمرأة، فمن المؤكَّد أنَّ الشَّريحة العليا من الطَّبقة الوسطى والفئات الاجتماعيَّة العليا والأرستقراطيَّة في المجتمع ترفض جماعة الإخوان، جملةً وتفصيلًا، لثلاثة أسبابٍ:
1.    أنَّ هذه الشريحة متعلِّمة تعليمًا متميِّزًا وقادرة على نقد الخطاب السِّياسيِّ والدِّينيِّ للإخوان، واكتشاف مواطن عطبه.
2.    الأداء السِّياسيُّ والتَّشريعيُّ ضد الحقوق المستقرَّة للنِّساء، خصوصًا على صعيد  الحريَّات العامَّة والأحوال الشَّخصيَّة، من جانب الإخوان والسلفيِّين، وهو ما انعكس على التَّمثيل النِّسائيِّ في مجلس الشَّعب عام 2011، وهو الذي لم يتجاوز نسبة 1.8% من المقاعد(12). كما انعكس على طبيعة الجدل البرلمانيِّ من جانب أحزاب "الإسلام السِّياسيِّ"، وهو ما كشف عن ركاكةٍ تصل إلى حدِّ الجهل بالشَّريعة الإسلاميَّة الصَّحيحة( 13)، وانحيازٍ لخطابٍ ذكوريٍّ يعاني من تركيزٍ على الجزء الأنثويِّ في المرأة وتجاهل كينونتها الإنسانيَّة. فقد تحدث بعض النواب في مجلس الشعب عن جواز زواج القاصرات(14). وسعى مجلس الشُّورى إلى إلغاء المجلس القوميِّ للمرأة، عبر عمليَّاتٍ ممنهجةٍ لتشويهه(15)، فضلًا عن موقف جماعة الإخوان المسلمين من وثيقة الأمم المتَّحدة المناهضة للعنف ضدَّ المرأة(16)، كما تجاهل الدُّستور مسألة حماية الطُّفولة. وأخيرًا، شجَّع هذا الجدل وطبيعته المتشدِّدة على ظهور حركةٍ محدودةٍ لجماعات "الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر" التي تسبَّبت في مقتل شابٍّ بالسُّويس في الشَّارع، بسبب مرافقته لفتاةٍ(17).
3.    الموقف السَّلبيُّ والمنهجيُّ الذي بلورته أحزاب "الإسلام السِّياسيِّ" من المرأة؛ حيث رفضت جماعة الإخوان المسلمين تولِّى المرأة رئاسة الدَّولة عام 2007، دون إعلان الموقف الفقهيِّ المؤسِّس لهذا الموقف، بل والجهل به أحيانًا(18). واتَّخذ حزب الحرَّية والعدالة موقفًا مراوغًا من هذه المسألة فى برنامجه الانتخابيِّ, كما اعتبر حزب النُّور السَّلفيُّ أنَّ الفروق الفسيولوجيَّة بين الرِّجال والنِّساء تؤسِّس لممارسة تمييزٍ ضدَّهن, وتحدِّد عمل المرأة في أدوارها الإنجابيَّة فقط، وهو الأمر الذى أعطاه دستور 2012 أيضًا وزنًا أعلى، بما لا يقارن بالأدوار الإنسانيَّة والعامَّة  للمرأة، خصوصًا في المادَّة العاشرة. كما لم يُترجَم البند الثَّالث من مقدِّمة الدُّستور في موادَّ محدَّدة المضامين، وهو البند الذي يشير إلى أنَّ النِّساء شقائق الرِّجال، لهنَّ ما للرِّجال من حقوقٍ وعليهنَّ الواجبات والمسؤوليات ذاتها(19).
والشَّاهد هنا أنَّ جزءًا لا يُستهان به من الهيئة النِّسائيَّة النَّاخبة (23 مليون صوتٍ) أصبحت ضدَّ أحزاب "الإسلام السِّياسيِّ" عامَّةً، والإخوان المسلمين خاصَّةً.
وفيما يتعلَّق بالتَّفاعلات السِّياسيَّة، فإنَّ عددًا من العوامل قد ساهم في فشل الإخوان في الحكم، بغضِّ النَّظر عن مخطَّطات إفشالهم من جانب ما اصطُلِح على تسميته بالدَّولة العميقة، ونستطيع أن نشير إلى أسباب فشل الإخوان في النِّقاط التَّالية:
1.    عدم إدراك الإخوان لحجم التَّحدِّيات الهائلة والواقعيَّة لحكم مصر في مرحلة غليانٍ ثوريٍّ يرتفع فيه حجم التَّوقُّعات الشَّعبيَّة، وذلك في أعقاب حكم مبارك الذي جرَّف الدَّولة المصريَّة، وفكَّك مفاصلها، وأقعد قدراتها الكامنة.
2.    افتقاد نموذج تنميةٍ اقتصاديَّةٍ (نظريَّة) يستجيب لمطالب الكتلة السُّكَّانيَّة المصريَّة  الهائلة؛ حيث يعتمد الإخوان على خطابٍ دعويٍّ يحسبونه كافيًا للتَّنمية ومواجهة التَّحدِّيات(20). فضلًا عن تناقض مصالح التَّنظيم وأفراده وأيَِّ تشريعات منحازة إلى مبدأ العدالة الاجتماعيَّة؛ حيث عمل معظم الإخوان خارج مؤسَّسات الدَّولة، وأصبحت لديهم إمبرطوريات اقتصاديَّة هائلة مثل تنظيمهم، وهي تتعارض وسنَّ قانونٍ عادلٍ للضَّرائب التَّصاعديَّة، أو رفع الحدِّ الأدنى للأجور، وهي أمورٌ أفقدتهم تأييد قطاعَي الشَّباب والفئات الوسطى من الطَّبقة الوسطى، فضلًا عن الفقراء الذين يرون في الضرائب التَّصاعديَّة دعمًا لقدرة الدَّولة على تقديم الخدمات لهم؛ من صحةٍ وتعليمٍ وبنيةٍ تحتيَّةٍ.
3.    غلبة مشروع التَّمكين للإخوان في مفاصل الدَّولة، وهو أمرٌ أكسبهم عداء البيروقراطيَّة المصريَّة ومؤسَّسات الدَّولة السِّياديَّة تحت مظلَّة الهواجس المتبادلة, خصوصًا بعد تعيين طاقم الرئاسة والحكومة والنَّائب العامِّ والمحافظين في حركتهم الأخيرة من الإخوان.
4.    العمليَّات الدُّستوريَّة الفاشلة، ومنها الإعلان "الدُّستوري" الصَّادر من جانب الرَّئيس في تشرين الثَّاني/نوفمبر 2012 الذي أسس لسلطات لها طابع ديكتاتوري, وكذلك عمليَّة  صناعة الدُّستور المصريِّ وإجراءاتها المتعدِّدة؛ من تكوين لجنةٍ من الإسلاميِّين، وتمثيلٍ ضعيفٍ للمرأة والأقباط، ثمَّ الإسراع بكتابة دستور لا يحوز توافقًا مجتمعيًّا(21)؛ حيث حرمت هذه العمليَّات السِّياسيَّة الإخوان من التَّفاعل الإيجابيِّ مع القوى السِّياسيَّة الأخرى, بل وحرمتهم من حلفائهم السَّلفيِّين أيضًا، رغم ما بذله الأخيرون  من محاولاتٍ جادَّة ودؤوبةٍ لتجسير المسافات بين الإخوان والقوى السِّياسيَّة الأخرى، وهى المبادرات التى قبلها تحالف الإنقاذ المعارض ولم يقبلها الإخوان(22)، وذلك على الرُّغم من خيانة الإخوان والرَّئيس مرسي لتعهداتهم أمام الشَّعب؛ من التَّراجع عن حجم المشاركة السِّياسيَّة، سواءً فى الانتخابات البرلمانية أو الرِّئاسيَّة, وعدم التزام الرَّئيس مرسي بتعهُّداته أيضاً بتحقيق التَّحالف الوطنيِّ الواسع في اجتماع فيرمونت أمام القوى السِّياسيَّة؛ حيث بيَّنت وثيقةٌ صادرةُ عن السَّلفيِّين طبيعة الجهود التي بذلوها مع الإخوان المسلمين قبل 30 حزيران/يونيو، لحلِّ الأزمة مع القوى السِّياسيَّة الأخرى(23). بل إنِّ مؤسِّس التَّيَّار الشَّعبيِّ، المرشَّح السَّابق لرئاسة الجمهوريَّة، حمدين صباحيّ، قد قبل كلَّ أنواع التَّعاون مع مؤسَّسة الرِّئاسة في لقاءٍ مع السَّيِّد الصَّادق المهديِّ، رئيس الوزراء السُّودانيِّ الأسبق، إمام الأنصار، في مصر، مشيرًا إلى أنَّه لا يطلب سوى إلغاء الإعلان الدُّستوريِّ، وتعيين نائبٍ عامٍّ من قبل مجلس القضاء الأعلى، وتكوين حكومةٍ مستقلَّةٍ، للإشراف على الانتخابات. وقد اعتبر إمام الأنصار في هذه الجلسة أنَّ ما تطلبه المعارضة أمرٌ مشروع(24).
5.    ما بدا من تناقضاتٍ إخوانيَّةٍ أو صراعاتٍ لم تُكشَف تفاصيلها بعدُ، وكان أحد مظاهرها باديًا في التَّعامل مع أزمة السُّلطة القضائيَّة؛ حيث أقدم مجلس الشورى على مناقشة قانون السُّلطة القضائيَّة بعد تعهُّد الرَّئيس مرسي أمام أعضاء مجلس القضاء الأعلى في قصر الاتِّحاديَّة بألَّا يناقَش هذا القانون إلا أمام مؤتمرٍ للعدالة(25).
6.    افتقاد الكوادر والكفاءات الإخوانية القادرة على قيادة الدَّولة, فتشكَّلت الحكومات في فترة حكم الرَّئيس مرسي بصعوبةٍ بالغةٍ، وفي مدى زمنيٍّ طويلٍ، فأعطت هذه العمليَّة الشَّارع السِّياسيَّ انطباعًا بمدى عجز الإخوان، خصوصًا مع غياب تصوُّراتٍ واقعيَّةٍ للحكم، والاعتماد على المحسوبيَّات أيضًا في التَّشكيل الحكوميِّ؛ حيث تحفل كواليس النُّخب السِّياسيَّة بروايات عدَّةٍ تكشف ممارسات وثيقة الصِّلة بممارسات نظام مبارك.
7.    طبيعة الخطاب الرِّئاسيِّ وشخصيَّة الرَّئيس، فعبر 59 خطابًا للرئيس مرسي - بمعدَّل خمسة خطابات شهريًّا - تضمَّنت خطاباته لغةً اعتبرها المصريون في كثيرٍ من الأحيان لا تليق برئيس دولة مصر، واحتوت من الإشارات ولغة الجسد ما يشير الى ضعف خبراته السِّياسيَّة, فضلًا عن فراغ كثيرٍ من هذه الخطابات من مضمونٍ منطقيٍّ، وغياب الهيكلة المطلوبة لمثل هذا النَّوع من الخطابات الرِّئاسيَّة. وربَّما يكون من الأهمِّيَّة بمكانٍ الإشارة إلى دراسة تحليل مضمونٍ لأحد حوارات الرَّئيس مع جريدة الأهرام؛ حيث أشارت الدِّراسة إلى أنَّ العبارات الإنشائيَّة غير محدَّدة المضمون والتي لا تستند إلى معلوماتٍ تمثِّل ما نسبته 48% من الحوار، وأنَّ نسبة 36% فقط من إجابات الرَّئيس تمثِّل إجابةً عن الأسئلة، بينما كانت نسبة 15% من الإجابات خارج نطاق الموضوع أو السُّؤال(26).
8.    إعطاء وزنٍ مبالَغٍ فيه للدَّعم الأمريكيِّ لجماعة الإخوان في معادلة السِّياسة الدَّاخليَّة، وهو أمرٌ يفتقر إلى الخبرة المطلوبة بالتَّاريخ المصريِّ الحديث، وإلى كفاءة بعض مؤسَّسات الدَّولة في التفاعل مع مثل هذا التَّحدِّي، وإلى إسناده بدعمٍ شعبي أيضًا.
في هذا السِّياق نستطيع القول إن الإخوان المسلمين، قد فقدوا دعم الكتلة المصريَّة الحرجة، لأسبابٍ واقعيَّةٍ متنوِّعةٍ مرتبطةٍ بالمصالح المباشرة لهذه الكتلة، بغضِّ النَّظر عن حالة الشَّحن التَّحريضيِّ التي تقوم بها وسائل الإعلام من الفريقين، وتقف من ورائها مصالح محليَّةٌ أو إقليميَّةٌ أو حتى دوليَّةٌ, وبغضِّ النَّظر أيضًا عن حالة دعم بعض مؤسَّسات الدَّولة عمليَّة التَّظاهر ضدَّ الإخوان في المرحلة الأخيرة من نضج الظَّرف الموضوعيِّ لإزاحتهم.
ثانيًا، فرص الاستقرار والتَّحوُّل الدِّيمقراطيِّ في مصر
تضمَّنت خارطة الطريق التي أعلنها وزير الدِّفاع، عبد الفتَّاح السِّيسي، ملامح تحوُّلٍ ديمقراطيٍّ حقيقيٍّ، ولكنَّ صدقيَّة هذه الخارطة مرهونةٌ بعبور عددٍ من التَّحدِّيات الأساسيَّة. ومن المهمِّ في هذا السياق أن نتعرَّض لمنهج إعلان هذه الخارطة؛ من حيث اعتمادها على المخطَّط الشَّبابيِّ في تسليم السُّلطة إلى رئيس المحكمة الدُّستوريَّة العليا، وهو مطلبٌ متواترٌ لدى النُّخب السِّياسيَّة المصريَّة منذ إزاحة الرَّئيس الأسبق حسني مبارك مباشرةً في شباط/فبراير، خصوصًا من الفريق المدنيِّ الذي كان منحازًا إلى فكرة كتابة الدُّستور المصريِّ قبل إجراء الانتخابات البرلمانيَّة.
كما اهتمَّ هذا المنهج أيضًا بصورة عرض خارطة الطَّريق وإخراجها؛ من حيث إعلانها من على منصَّةٍ جامعةٍ لمكوِّنات المجتمع المصريِّ، بتنوُّعاته الدِّينيَّة والجيليَّة والجنسيَّة، فقُدِّم عرض السِّيسي لهذه الخارطة بحضور شيخ الأزهر، وبابا الأقباط، والمرأة، والشَّباب، وهي صورةٌ حظيت بالتَّأييد الشَّعبيِّ.
و فيما يتعلَّق بالشِّقِّ الموضوعيِّ، فقد استندت خارطة الطَّريق إلى تحرُّك القوَّات المسلَّحة استجابةً لبلورة إرادةٍ شعبيَّةٍ مثَّلتها حركة "تمرُّد" التي لم يُلتفَت إليها من جانب أيِّ طرفٍ الإ بعد أن حقَّقت دعمًا شعبيًّا هائلًا في فترةٍ محدودةٍ، مستندةً إلى ما أسلفناه في الجزء الأوَّل من هذا التَّقييم من تضرُّر مصالح معظم المصريِّين من حكم الإخوان. وإذا كانت هذه الحركة قد حازت إسنادًا من بعض مؤسَّسات الدَّولة فالمؤكَّد أنَّ هذا الإسناد (إن كان حدث) لاحقٌ للإسناد الشَّعبيِّ المصريِّ لحركة تمرُّد، وليس سابقًا له.
ولا بدَّ من الإشارة في هذا السِّياق إلى أن الإرادة الشَّعبيَّة المصريَّة قد اعتمدت على إجراءاتٍ ديمقراطيَّةٍ معترَفٍ بها، من حيث اللجوء إلى المطالبة بآليَّةِ الانتخابات المبكِّرة بديلًا من انسداد الأفق السِّياسيِّ تحت مظلَّة استقطاباتٍ هائلةٍ وعدم توفيق سياسيٍّ من جانب الرَّئيس في قراءة هذه الإرادة في ضوء الهواجس التَّاريخية من جانب الإخوان ضدَّ الجيش، وما يقول به الإخوان من تقاعس الأجهزة الأمنيَّة في حماية الرَّئيس إبَّان حكمه(27). كما إنه من المهمِّ تأكيد أنَّ تدخُّل الجيش عبر توجيه الإنذارات للقوى السِّياسيَّة قبل 30 حزيران/يونيو جاء في ضوء تفاعلٍ بين وزير الدِّفاع والرَّئيس، بدا الرَّئيس عاجزًا فيه عن قراءة المشهد السِّياسيِّ بشكلٍ منفصلٍ عن جماعته، وذلك في ضوء خبراته السِّياسيَّة المحدودة التي دفعت القيادات السِّياسيَّة الروسيَّة، مثلًا، بعد زيارته لمنتجع دوفيستي والسَّعي إلى مقابلة الرئيس بوتين إلى عدم الاعتداد به، ووصفه بفاقد الخبرة والحكمة معًا(28).
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل جاء تدخُّل الجيش في السِّياسة طبقًا لمحدِّداتٍ مقبولةٍ، أم أنَّه تحرُّكٌ فاقدٌ للشَّرعيَّة؟ نلجأ هنا إلى عددٍ من المؤشِّرات المتَّفق عليها في الأدبيَّات السِّياسيَّة الحديثة لاعتبار التَّدخُّل العسكري مقبولًا:
•    أن يرفض النِّظام الاستبداديُّ والقمعيُّ الاستقالة استجابةً للمطالب الشَّعبية.
•     أن يناصر الجيش الشَّعب في مطالب مشروعةٍ ديمقراطيًّا.
•    أن يتمتَّع الجيش بعلاقاتٍ وثيقةٍ مع الشَّعب قائمةٍ على الاحترام.
•    إذا دعا الجيش إلى انتخابات حرَّةٍ ونزيهةٍ خلال مدَّة قصيرةٍ.
•    إذا نقل الجيش السُّلطة إلى قادةٍ ديمقراطيِّين منتخبين من جديد.
ويمكننا أن نجد في نطاق هذه المؤشرات حالاتٍ عالميَّةً مثيلةً للحالة المصريَّة؛ مثل: تركيا عام 1960؛ إذ تدخَّل الجيش التُّركي لإقالة حكومة الحزب الدِّيمقراطيِّ المنتخب الذي ارتكب انحرافاتٍ استبداديَّةً أثارت القلق لدى الصِّحافة والمفكرين. كما إن هذه الحالة تشبه أيضًا ثورة "الوالت" في البرتغال عام 1974؛ حيث تدخَّل الجيش ضد الرَّئيس الاستبداديِّ استادو نوفو الذي سبَّب انحطاطًا اقتصاديًّا وورَّط بلاده في مشكلات. كما إن رئيس الوزراء التُّركي أردوغان هو الآخر وصل إلى الحكم عقب انتخابات جاءت بعد الانقلاب العسكريِّ الأبيض الذي قام به الجيش في عام 1997 ضد نظامٍ تعدَّى على حرِّيَّات المجتمع(29).
السُّؤال المشروع هنا هو: هل يخرج الجيش المصريُّ من السِّياسة أم يستولي على السُّلطة عبر عددٍ من الوسائل المطروقة؛ منها: ترشُّح وزير الدِّفاع للانتخابات الرِّئاسيَّة، وهو الذي يحوز شعبيَّةً هائلةً قد تغير اتجاهاته، أو إقدام المؤسَّسة العسكريَّة على تقديم وجوهٍ لصيقة بها، تضمن عمليَّةً ديمقراطيَّةً شكليَّةً فارغةً.
في تقديرنا أنَّ هناك فرصاً لسيناريوهين متضادَّين: أوَّلهما أن تعمل كوابح هذا التَّوجُّه بفاعليَّة، والثَّاني أن تتعطَّل هذه الكوابح و تتحوَّل إلى دوافع لقبول الجميع بدورٍ سياسيٍّ أكبر للجيش في المرحلة المقبلة.
يعتمد تحقُّق السِّيناريو الأوَّل على النِّقاط التَّالية:
1.    عدم رضا الشَّباب عن تدخُّل القوَّات المسلَّحة في السِّياسة إلى حدٍّ يجعل منظومة مبارك مستمرةً، خصوصًا فيما يتعلَّق بسيطرة العسكريِّين على المناصب المدنيَّة, وقد بدأ تحرُّك الشَّباب بالفعل فيما أسموه الميدان الثَّالث الذي دعا إلى تظاهراتٍ عدَّةٍ.
2.    أنَّ الأزمات الاقتصاديَّة حاكمةٌ في مصر، ومن ثمَّ فإنَّ هذه التَّركة الثَّقيلة قد تكون ضارَّةً للجيش أكثر منها نافعةً، في ضوء سيطرة الجيش على اقتصادٍ موازٍ خاصٍّ بالمؤسَّسة العسكريَّة يحقق طموحاتها.
3.    أنَّ مدركات القوَّات المسلَّحة الإستراتيجيَّة تعطي وزنًا أعلى للحفاظ على المؤسَّسة العسكريَّة المصريَّة في هذه المرحلة الحسَّاسة من المتغيِّرات الإقليميَّة؛ حيث فقدت الأمَّة العربيَّة الجيشين العراقيَّ والسُّوريَّ، وهي متغيِّراتٌ تلقي على الجيش المصريِّ مزيداً من الأعباء الاستراتيجيَّة،  خصوصًا في ضوء التَّحدِّيات الأمنيَّة في سيناء، وانتشار السَّلفية الجهاديَّة المؤسِّسة لتنظيم القاعدة في وسط إفريقيا.
4.    أنَّ الحركة السِّياسيَّة الممثَّلة بجبهة الإنقاذ لن تكون تابعةً للجيش في ضوء خبراتها المتراكمة، ومطالبتها المستمرَّة بتحوُّل ديمقراطيٍّ حقيقيٍّ، وربما أيضًا نتيجة المصالح السِّياسيَّة لزعاماتها.
5.    أنَّ هناك وعيًا قد تبلور لدى المصريِّين، نتيجة ثورة كانون الثَّاني/يناير، بتحديد مطالب للتَّحوُّل الدِّيمقراطيِّ والعدالة الاجتماعيَّة، يصعب تمامًا احتواؤها بعمليَّة تدخُّلٍ سياسيٍّ مباشرٍ من الجيش.
أما السِّيناريو الثَّاني فيمكن أن يتحقَّق في حال رفض الإخوان المسلمين تقديم تنازلاتٍ حقيقيَّةٍ لصالح التَّحوُّل الديمقراطيِّ، والسَّعي لاستمرار المعادلة السِّياسيَّة المصريَّة في إطار ثنائيٍّ بين حكومةٍ مدنيَّةٍ وإسلامٍ سياسيٍّ كما كان الحال في حكم مبارك, وتشير التَّفاعلات بين الإخوان والحكومة إلى استمرار العقليَّة الإخوانيَّة المفضية إلى الأزمة السِّياسيَّة المصريَّة؛ حيث إن الوساطات التي قادتها الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة بين الأطراف المصريَّة ظلت رهينةً التَّخندق الإخوانيِّ في إطار المطالبة بعودة عناصر البيئة السِّياسيَّة السَّابقة على 30 حزيران/يونيو؛ ومنها: التَّمسُّك بأنَّ أيَّ حلٍّ يجب أن يستند إلى دستور 2012، وإلى فكرة "تفويض" مرسي صلاحياته لمن ينوب عنه، وذلك دون تقديم تنازلات تتعلَّق بفضِّ اعتصامي منطقتي رابعة العدويَّة أو النَّهضة، أو فيما يتعلَّق بتراجعها عن إستراتيجية التَّصعيد في الشَّارع التي اكتسبت طابعًا عنيفًا(30). [وانتهى الأمر بإعلان الحكومة وصول المباحثات إلى طريق مسدود، ثم فضِّ الاعتصامين بالقوَّة في 14 آب/أغسطس، وملاحقة قيادات الجماعة وأنصارها المتهمين بارتكاب أعمال عنفيَّة والتَّحريض عليها، مع ترك المجال مفتوحاً للمشاركة السِّياسيَّة لغير المتَّهمين بذلك منهم.
في هذا السِّياق تتَّجه تقديراتنا، إجمالًا، إلى أنَّ الجيش سيكون له وزنٌ مستقبليٌّ غير مباشر في العمليَّة السِّياسيَّة، وأنَّ هذا الوزن مرهون بأمرين؛ هما: مدى قدرة الإخوان على تقديم تنازلاتٍ في هذه المرحلة, وقدرة الحكومة في مجال العدالة الاجتماعيَّة. أما إذا تخندق الإخوان ولم تحقق الحكومة مطالب العدالة الاجتماعيَّة فسوف تشهد مصر بالقطع موجةً ثالثةً من ثورة كانون الثَّاني/يناير.
aaltaweel04@yahoo.co.uk

 

آراء