مفتاح الفرج المفقود

 


 

 




mohamed@badawi.de
عبدالصبور صغيرون من محاسبي الدولة الصغار الذين يعملون خلف كواليس إحدى دواوين الحكومة الراقدة على شارع حائط الخرسانة على النيل. ملامحه لا توحي بأنه في الرابعة والأربعين من عمره، مما علق بها من أدران الزمن وشوائب ماض أغبش. لقد وسّع الله له في إحدى زينتي الحياة الدنيا وقتر عليه في الأخرى، فرزق سبعة ابناء يسعون ما بين حجر الأم والسنة الثالثة ثانوي أو سنة سربعة وتشرد بأزقة سوق سعد قشرة. لقد استفزه الحظ بمرتب يصل بالعافية لثلاثمائة جنيه، فناء الرجل المسكين بأثقال العيش ومتاعب الحياة، وقصمت ظهره المصاريف المدرسية فظل حاله طيلة السنين متبرما حانقا سيما عندما يأتي موعد دفع اقساط الدكان أو المدرسة أو محلات العماري أو عندما يقترب موسم أعياد رمضان وعيد الأضحية، وكان من هول تفاقم النحس عليه يسرد في حديث ذاتي قصته وكأنه يتحدث عن رجل غريب لا يَمُتُّ له بصلة، لا عن قريب أو بعيد فيسترسل في منولوجه قائلا:
- أه الليلة يومي أسود مع الوليّة. سيد الدكان قال ما بديني تاني لحدي ما أدفع المتأخرات. أه نجيب ليها حاجات البيت من وين عاد؟
- كمان أمها القاعدة معاها، محكرة فوق العنقريب، ما عندها إلا: "يا عبد الصبور الليلة سني دي موروووووودة ما جبت ليّ معاك البتاعة (السّفّة)؟"
- أه الأولاد كلهم، دا داير ودي دايرة، وانا أحسن أقطّع نفسي زي الباسطة والله شنو؟
رجل مثل عبدالصبور صغيرون، أب لسبع أطفال، غير زوجة وأم، لا تراه الحكومة حقيقا بإعفاء واحد من ابناءه من مصاريف العلاج أو الدراسة في المدارس أو بجامعاتها الخاصة؛ فمتى إذن تجوز المجانية؟! ... ولمن تجوز؟ وهل توجد بالأصل لهؤلاء المعذبون في الأرض؟ كان هذا الرجل كغالبية المجاهدين في لقمة العيش، يائسا من عدالة إنقاذ النفس وقانطا من خير مؤتمر على وطنيته، يعتقد في دخيلته اعتقادا كالأيمان الراسخ أنهما لا يصيبان إلا المجدودين من ذوي الجاه أو بني الرحم من الأصهار والأصدقاء، فرأي أن ليس أمامه سوى الكفاح الشاق المضني، وليس بوسعه إلا معاناة الشدة عاما بعد عام، والتصبر على مرارة الحياة التي تزداد من يوم إلى يوم في غلاء ناريّ دون رؤية انفراج على الأفق. لبث على حاله قرابة العشرين سنة من سنين عمره وبلده الطوال لا يطمع في رجاء حتى لاقته المنية وهو لم يعثر بعد على مفتاح الفرج الذي انتظره طويلا، فترك وراءه ما ترك! ومن يحفل به وبأبنائه السبعة؟ وما هو مصيرهم في ظل إنقاذ النفوس من الوهم الذي ألقى عصاه عليها ونصب بيتا وخيمة؟
//////////////////

 

آراء