مقتطفات من كتاب “العيش مع الاستعمار .. للمؤلفة هيذر شاركي .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

مقتطفات من كتاب "العيش مع الاستعمار Living with Colonialism"
للمؤلفة هيذر شاركي
ترجمة بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه مقتطفات قليلة من كتاب "العيش مع الاستعمار: الوطنية والثقافة في السودان الإنجليزي – المصري" (الذي هو قيد الترجمة الآن) للمؤرخة الأمريكية هيذر شاركي، المتخصصة في التاريخ الحديث للشرق الأوسط وإفريقيا، والعالمين المسيحي والإسلامي. حصلت المؤلفة (الأستاذة بجامعة فيلادلفيا) على درجة البكالوريوس في الأنثروبولوجيا من جامعة ييل الأميركية، ودرجتي الماجستير والدكتوراه من جامعتي درم البريطانية وبريستون الأميركية، على التوالي، ولها عدة كتب ومقالات عن السودان ومصر.

صدر هذا الكتاب عام 2003م عن دار نشر جامعة كالفورنيا، وبه ستة فصول وخلاصة، وعدد هائل من الحواشي (Notes) والمراجع (Bibliography)، والإشارات لمقابلات مع شخصيات سودانية وأجنبية. ولم نشر في هذه المقتطفات لتلك لحواشي أو المراجع.

لقراءة ترجمة عربية لعرض review عن هذا الكتاب نشر عام 2017م يمكن النظر في الرابط:
https://sudanile.com/%D8%B9%D8%B1%D8%B6-%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%8A%D8%B4-%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%88/

******** ******** ********* ********

1. سعى الحكام الاستعماريون في الهند والبلدان الأفريقية التي حكمها البريطانيون بكل جهدهم من أجل ضبط اَلْمُوَازَنَات، وتقليل التكاليف بتعيين موظفين محليين للقيام بالمهام الإدارية الدنيا. فقد كانت المرتبات التي تُعْطَى للبريطانيين العاملين بالمستعمرات تفوق بكثير مرتبات الموظفين المحليين، وكانت العمالة المحلية تتميز بالرخص الشديد. ولسد حاجة الحكومة الاستعمارية من البيروقراطيين المتعلمين والمهرة في الوظائف الدنيا والوسيطة، أقامت الأنظمة البريطانية في المستعمرات كليات حكومية، أو شجعت الارساليات المسيحية التبشيرية على إقامة معاهد تعليمية. وعملت مثل تلك المدارس، من "ساحل الذهب" إلى البنغال، على تهيئة الشباب لشغل وظائف كتابية وقضائية وفنية. وبخلقها لطبقات متعلمة جديدة (من أبناء الأهالي) لخدمة النظام، عالجت بريطانيا المعضلة التنظيمية العليا للدولة الاستعمارية: ألا وهي السيطرة على أعداد كبيرة من السكان بعدد قليل من الموظفين في مختلف المرافق. وكانت نسبة الحكام البريطانيين للمحكومين في ثلاثينيات القرن الماضي هي فرد بريطاني واحد لكل 28,000 نَسَمة في الهند؛ وفرد بريطاني واحد لكل 54,000 نَسَمة في نيجيريا – غير أن وهم السيطرة والسِيَادَة والغَلَبَة بقي كما هو. وربما كان البريطانيون يمتلكون الأسلحة والكفاءة والثقة في أنفسهم، ولكن، كان لديهم، من ناحية عملية، دعم قوي من الموظفين المحليين، كانوا ينوبون عنهم في أداء المهام الصغيرة والأعمال العادية في امبراطوريتهم، مثل جباية الضرائب وحفظ الأرواق في ملفات. وفي ذات الوقت كان للبريطانيين جهاز قَهرِيّ مكون من جنود ورجال شرطة من السكان المحليين. وتمكنت الأنظمة الكلولونيالية، عبر تنظيم محكم وذكي للشعوب المستعمرة ولمواردها، من نقل انطباع بالصلابة، وضمنوا بالتالي تحقيق شعارهم القائل بـ: "السيطرة من غير هيمنة".

2. لقد كانت الظروف نفسها التي مكّنت الدولة الاستعمارية من تعزيز سيطرتها (وهي الظروف التي أوجدتها مجموعة من التقنيات المتطورة في مجالي النقل والاتصالات) قد ساعدت أيضا على زيادة سرعة حركة الأفراد والأفكار والممارسات. وكانت تبعات ذلك على المُستَعمَرين متعددة الجوانب. فقد تغيرت العادات اليومية مع أحداث النظام الجديد لتغيرات كبيرة في طريقة سفر السكان، وفي طرق لباسهم، وأكلهم، ومداواتهم لأمراضهم، وممارساتهم لأعمالهم (التجارية وغيرها). ومع تزايد الاتصال والاحتكاك الاجتماعي بالبريطانيين وغيرهم من أفراد الجاليات الأجنبية العاملين بالبلاد، ومع تصاعد معدلات الهجرة (خاصة إلى المدن الصغيرة والكبيرة) شرعت المجموعات الاجتماعية في إعادة تعريف نفسها وعلاقاتها مع الآخرين. وبالإضافة للهويات المجتمعية/ الطائفية التي تقوم على أساس الدين أو الطائفة أو اللغة أو القبيلة أو العشيرة، بدأت هوية جديدة في الظهور. وكانت تلك هي الهوية الوطنية: أي الإيمان بأن (تلك) الحدود الاستعمارية تضم بين جنباتها جماعات من الناس يتشاركون في التراث والمصير السياسي. وبهذا المعنى، فالوطنية تَمَظْهُر أيديولوجي لتغيرات اجتماعية مركبة حركها وأطلق عنانها الاستعمار. ولم تكن الوطنية مجرد استجابة أو ردة فعل لفكرة السيطرة الاستعمارية فحسب، ولكنها كانت أيضا – وربما لدرجة أكثر أهمية - استجابة أو ردة فعل للتغيير السياسي والثقافي.

3. كانت الوطنية أيضا التزاما أو مشروعا أدبيا (literary undertaking)، وتتشابه مع الإمبراطورية نفسها في ذلك. فقد كانت الوطنية تعتمد على قوة وسطوة الكلمة المكتوبة من أجل ترسيخ قيمها أولاً، ومن بعد ذلك من أجل إشاعتها في أوساط الشعب. وكانت الطباعة الميسورة الثمن مهمةً وضرورية لتطوير المشروع الأدبي للوطنية لأنها أتاحت للمجموعات المتعلمة، ليس فقط قراءة أعمال الآخرين، ولكن أيضاً لنشر أعمالهم الخاصة في مجلات وفي كتب أَلَّفُوها.

4. وبعد ذلك الانتصار (في معركة كرري) أثبتت الصلات البريطانية – المصرية فائدتها. فقد صار بإمكان البريطانيين أن يعلنوا أن مصر هي شريكة لهم في حكم السودان، وبذا أفسدوا مخططات الفرنسيين في المنطقة. ومضت بريطانيا قُدُماً في ترديد وهم الشراكة البريطانية – المصرية، ليس فقط باستخدام تعبير "الحكم الثنائي" عند الإشارة للنظام الذي كان قائما في السودان من عام 1898م إلى 1956م، ولكن أيضا بوضع (حكومة) السودان تحت إشراف وزارة الخارجية، وليس تحت إشراف وزارة المستعمرات (كما هو الحال مع المستعمرات البريطانية الأخرى). وللتأكيد على تميز السودان من الدول التي وضعت تحت إشراف وزارة المستعمرات، أقام النظام بالبلاد إدارةً مستقلة للخدمة المدنية، كان البريطانيون العاملون بها ينكرون وضع السودان كبلد مستعمر ..... وكان السير هارولد داولي، وهو أحد الإداريين البريطانيين الذين تقاعدوا عن العمل بالسودان قد أكد ذلك في عام 1997م حيث كتب أنه: "لم نكن نعد أنفسنا مستوطنين (Colonists) ولا مستعمرين (Colonials)، فالسودان لم يكن مستعمرةً قط. بل كنا نؤمن بأن أصل وسبب وجودنا بالسودان هو شأن استراتيجي واستعماري، وبمجرد وصولنا إليه انهمكنا في العمل من أجل تقدم البلاد وشعبها". وللتأكيد على الاستثنائية القانونية للمنطقة، قامت السلطات، في خطوة أبعد، بتقييد مستوى تمثيل السودان في المؤتمرات البريطانية "الملكية"، وجعلته في وضع المراقب فقط.
5. كان الإداريون البريطانيون يرغبون في أن تصبح كلية غردون ... مؤسسة صفوية، مثل المدارس العامة البريطانية – أن تكون على غرار " مدرسة ايتون السودانية Eton of the Soudan" أو "مدرسة وينشيستر على ضفاف النيل Winchester by the Nile". لذا كانت السلطات تؤثر عند اختيارها للطلاب أن يكونوا من صغار السن ومن خلفيات / طبقات عالية في المجتمع. وأهم من ذلك، كانت الكلية تستقبل فقط أبناء العائلات المسلمين التي تتحدث باللغة العربية، وتدعي أنسابا عربية، وتقيم في وسط السودان الشمالي النيلي... وكانت لكلية غردون بعض المزايا الإضافية المهمة التي كانت تفتقدها المؤسسات التعليمية الأخرى. فقد كان التعليم بكلية غردون يؤهل الطالب مباشرةً لوظائف في حكومة الاستعمار، غالبا في أعلى مرتبة متاحة للسودانيين الشماليين. وكانت كلية غردون تقدم لطلابها تعليما أدبيا رفيعا باللغتين العربية والإنجليزية، ومعرفةً بوسائل تقنية حديثة كالطباعة على الآلة الكاتبة وصناعة الطباعة في فصول الدراسة، وأيضاً في سياقات دراسات إضافية. وأخيرا، كانت كلية غردون تشجع على تنمية روح الاكتفاء الذاتي وروح الجماعة في ملاعب الرياضة وفي الفصول على حدّ سواءَ. وكانت النتيجة هي انتاج مجموعة من الخريجين الذين يمتلكون المعرفة والمهارة، وأيضا الثقة في النفس، مما مكنهم من التعبير عن الأيديولوجيات الوطنية ونشرها بين الناس.

6. لم تكن النشأة الاستعمارية للوطنية من قبيل الصدفة، إذ أن الوطنية كانت أيضا تسد حاجة نفسية (عند الوطنيين) بتخفيفها من صدمة قهر الاستعمار وإخضاعه لهم. وكان أفراد الطبقات الجديدة من المتعلمين- بحسبانهم يعملون في السلك الحكومي - يشكلون جزءًا جوهريا لا يتجزأ من النظام الاستعماري، بيد أنهم شعروا بالقلق من تقييدهم وحصرهم في الطبقة الدنيا من البيروقراطية، ورأوا أنفسهم كجسم غريب (خارجي) عن النظام. وعلى الرغم من أنهم كانوا واثقين من قدراتهم ومهاراتهم في تسيير شؤون الدولة، إلا أن معظمهم كان قد فقد الأمل في الترقي لمراتب أعلى في السلم الإداري. وكانت تلك الاحباطات والخيبات المهنية قد غذت الوطنية، تلك الايديلوجية التي تؤكد على الشرعية المحلية (الذي يؤكد على أن الحق في الحكم، محفوظ لأولئك الذين "ينتمون" إلى الإقليم)، وتؤكد أيضا على الأصالة (التكاملية الثقافية) في مواجهة سيطرة الأجانب.

7. وجد المتعلمون الشماليون في الأدب العربي متنفسا لخيبات أملهم واحباطاتهم، ووجدوا فيه أيضا مساحةً للنقاش والتفاكُر والتفكر حول معنى الهوية "السودانية". وفي ذلك الأثناء، أعطى دخول عملية الطباعة بالحروف المتحركة للسودان للمتعلمين السودانيين - في أعقاب استيلاء البريطانيون للسودان في 1899م - الامكانية التقنية لنشر تلك الأفكار في أوساط القراء. وانتشرت بعد عام 1919م ثقافة نشطة في مجال الطباعة العربية، وغدا تداول الكتب المستوردة والمطبوعة محليا والصحف والمجلات أكثر يسرا وأوسع انتشارا. وعلى الرغم من أن الشعر احتفظ بموقعه التقليدي باعتباره الوسيلة الرئيسية للتعبير السياسي، إلا أن صنوفا أخرى من الأدب بدأت أيضاً في الذيوع والازدهار، شملت الأعمال النثرية مثل المقالات والقصص القصيرة. وتعكس تلك الأعمال الأدبية في مجملها الآليات الفكرية للاستعمار: الطرق التي يعيش بها المتعلمون مع الاستعمار، والصراع الذي يخوضونه ضده في أذهانهم.

واستخدم الوطنيون، مع ذلك، الأدب ليس للتعبير فقط عن معارضتهم للاستعمار. فالأهم من ذلك أنهم استخدموه للدعوة إلى الإصلاح البناء. وغدا دعاة الوطنية أبطالاً للحداثة، ويؤيدون بحماس التقدم الاجتماعي القائم على العلم والعقل ويطالبون بإحداث تطورات في مجالات التعليم والصحة والتكنولوجيا على غرار ما هو في الغرب. وفي ذات الوقت كانوا يشجبون العادات المتخلفة أو "غير الإسلامية" والخرافات، خاصة تلك التي تؤمن بها أو تمارسها النساء مثل الوشم و"دق الشلوفة" وغير ذلك. غير أن هنا تبدو مشكلة. فالحداثة بالغة الأهمية ومطلوبة للوطن، ولكن توجد أيضا التقاليد – ليس فقط فيما يتعلق بالإسلام والتراث الأدبي العربي، ولكن أيضاً فيما يتعلق بشيء أكثر "سودانيةً". وهكذا ناضل دعاة الوطنية من أجل توطين الحداثة، لتغدو جزءًا من مجتمعات عالمية أكبر - من العرب، والمسلمين، والمستنيرين بشكل عام - مع تنمية "السمة الأصلية" الخاصة والمحلية التي يجب أن تستند إليها الهوية الوطنية.... وبالنسبة للسوادني الشمالي المتعلم، فالمستعمرة هي لبريطانيا، غير أن الوطن هو ملكهم وحدهم. وتثير وتستدعي كلمة الاستعمار / الكولونيالية (مثلها مثل نظيرتها الامبريالية) المحسوبية والاستغلال، بينما تحمل كلمة الوطنية (مثلها مثل "حب الوطن" و"القومية") معاني النبل والكرامة.

8. وتخيل المتعلمون الشماليون وطنا أخذ شكله وحدود منطقته من السودان وهو تحت الاستعمار، ولكنه أخذ شكل ثقافته منهم. ودأب المتعلمون الشماليون في خطبهم وكتاباتهم على تأكيد أن اللغة العربية والإسلام هما عماد الوطن / الأمة. وبذا فقد كانت لوطنيتهم المتخيلة تقييدات ومحدوديّات مهمة وخطيرة، خاصة عند سكان البلاد غير المسلمين أو من الناطقين بغير اللغة العربية في شرق وغرب وجنوب السودان. وبناءً على ذلك، وعقب وراثة المتعلمين الشماليين للسلطة من المستعمرين بعد إعلان استقلال البلاد، كون بعض سكان الشرق والغرب والجنوب الذين أحسوا بالضيم والتهميش والاستبعاد من أجندة المتعلمين الشماليين كتلاً (blocs) سياسية. وشملت تلك الكتل مجتمعات مسلمة لا تتحدث بالعربية مثل البجا في شمال شرق السودان والفور في أقصى غرب البلاد.

9. فات على المؤرخين الذين يكتبون باللغة الإنجليزية الإشارة التي تعطيها الكتابات العربية عندما تلمح إلى البراعة الأدبية بحسبانها مؤشراً للإنجاز الاجتماعي والقوة. وربما يتعلق ذلك السَهو والغَفلَة في الدراسات المنشورة باللغة الإنجليزية بحدود التخصصات (disciplinary boundaries) السائدة في الجامعات الأمريكية والأوروبية، حيث يعتبر الأكاديميون تقليديا أن الشعر هو مجال من مجالات الأدب أو دراسات اللغة؛ وفي حالة الشعر الشفهي هو مجال للدراسة الأنثروبولوجية. وعلى عكس ذلك، نجد أن التاريخ والشعر والسياسة تتعايش مع بعضها في الأدبيات العربية، التي عدت الشعر، ليس فقط بحسبانه مصدرا للتاريخ ينتج رؤى ونظرات ثاقبة تدل على التطور الفكري لمؤلفيه واهتماماتهم وهمومهم، بل أيضا باعتباره قوةً تاريخيةً قادرةً على إثارة الجماهير وتحريضها عند قراءته أو القائه. وفي سياق السودان الشمالي، كان الشعر العربي السوداني قوةً في حد ذاته، يستحث مشاعر السودانيين الوطنية وهم في سعيهم الدؤوب لتوضيح وتعريف الهوية السودانية.

10. كانت قصة الاسم الذي يطلق على سكان البلاد في السودان الإنجليزي – المصري قصةً دراماتيكية على نحو خاص. وكانت كلمة "سوداني Sudani" في الماضي ذات دلالة وإيحاءات مهينة، وتستخدم في وصف المسترقين. غير أن المصطلح تطور وتوسع وغدا مصدر عز وفخار وطني عند سكان البلاد. واستتبعت عملية إعادة التعريف إسناد القيم المشتركة والنسب التاريخي الباذخ للناس في المشهد. غير أن الفحص الدقيق والمتبصر يبين أن تلك القيم وذلك التاريخ الباذخ لم يكونا (دوما) واضحين وماثِلين لِلْعَيَان بصورة جلية – بل كان أمرا تم اختياره أو صنعه... ولم يكن هنالك في حوالي عام 1900م استخدام عام لمصطلح "سوداني" لوصف كل سكان السودان ... وفي بدايات عشرينيات القرن العشرين بدأ بعض الشباب السودانيين المتعلمين في تبني كلمة "سوداني" – وهي الصفة المأخوذة من اسم المستعمرة – باعتبارها مصطلحا يشير إلى الذاتية الوطنية. ومن أجل تعظيم مصطلح "سوداني" بحسبانه شارةً للهوية، وجدوا أنه من واجبهم إزالة كل ما علق بالمصطلح من دلالات تشير للعبودية. ومع ذلك، فإن استرداد كلمة "سوداني"، بحسبانها إشارةً وطنية، لم يفلح في محو وصمة عار تراث العبودية الذي أثاره المصطلح ابتداءً.

11. وعلى الرغم من أن الحكومة السودانية كانت قد منعت تجارة الرقيق، وأيدت – بصورة محدودة - تحرير المسترقين، إلا أنها لم تدع أو تروج للمساواة. بل على العكس، كان المسؤولون البريطانيون يحترمون ويستوعبون التسلسلات الهرمية للأوضاع القائمة، ويعززونها من خلال سياسات التعليم. وقد فعلوا ذلك بتفضيلهم وتمييزهم للذكور من ذوي المكانة الاجتماعية العالية الذين يعدون أنفسهم أنهم من الاثنية العربية، ومنحهم (دون غيرهم. المترجم) فرص الدراسة الاكاديمية التي تقود – بعد التخرج – لوظائف إدارية. وقد فعل المسؤولون البريطانيون ذلك أيضاً بتوجيه الذكور من ذوي المكانة الاجتماعية "الدُّنيا"، وأبناء أو أحفاد المسترقين للوظائف في سلك الجندية أو لبرامج ووظائف تركز على المهارات اليدوية. وكانت لتلك السياسات عنصرا عمليا. وسعت السلطات البريطانية إلى دعم قوتها وسلطتها، واستمالة النخب المحلية وتحييد المقاومة المحتملة ضدها، وذلك من خلال تعليم وتوظيف أبناء رجال الأعمال والقادة الدينيين والقبليين والعسكريين في سلك الخدمة الاستعمارية.

12. كانت سياسات القبول بكلية غوردون مثلا تُؤْثِر قبول الطالب الذكر "العربي" المسلم المتحدث بالعربية الذي له وضع اجتماعي رفيع ... وتشير بعض التقارير إلى أن كيري (مدير مصلحة المعارف) كان يشجع الصبية السود على الالتحاق بالمدارس الفنية الحكومية، أو بالمدارس الصناعية التي يمكن أن يتعلموا ويتدربوا فيها على حرف معينة كالسباكة أو النجارة (وحتى في تلك المدارس الفنية الحكومية، لم يكن الطلاب "السود" يشكلون أغلبية أو أكثرية الطلاب بها، بحسب ما ورد في احصائيات الحكومة في الفترة حتى 1913م، فقد كان في تلك المدارس أيضاً الكثير من الطلاب "البرابرة" (النوبة) و"العرب" و"المختلطين". وسمح كيري لعدد قليل من الشباب "السود Blacks" بالالتحاق بالبرامج الاكاديمية "طالما كان عددهم لا يشكل نسبةً كبيرةً من العدد الكلي للطلاب"، والتحق آخرون بأكاديمية الخرطوم العسكرية (التي اُفْتُتِحَتْ في عام 1905م) كمؤسسة "كان الهدف من انشائها إلحاق الطلاب الحربيين السودانيين، وضباط المستقبل في كتائب "السود"، كما ما جاء في أحد التقارير الحكومية. وكانت تلك الأكاديمية (إلى حين إغلاقها في 1924م) توفر لطلابها آفاقا مشرقة في الجيش المصري، الذي كان يضم بين صفوفه جنودا سودانيين من أصول مسترقة – وهذا من إرث سياسات تجنيد المسترقين (الرق العسكري) في القرن التاسع عشر. والتحق طلاب سود آخرون من ديوم الخرطوم (حيث كانت مستوطنات المسترقين السابقين) بمدارس المبشرين المشيخية الأمريكية، التي كانت تدرسهم بعض المهارات اليدوية والزراعية.

13. عند افتتاح كلية غوردون لأول مرة في 1902م تولى المسؤولون البريطانيون في مصلحة المعارف اختيار طلابها بعناية فائقة وتدقيق شديد. بل وذهبوا لمنازل عائلات بعض كبراء السودانيين، واحدا واحدا، لإقناعهم بإرسال أبنائهم للمدرسة (الجديدة). وتردد وتأبى آباء أولئك الطلاب في البداية من الحاق أبنائهم بكلية غردون خوفا من أن يتم تنصيرهم فيها. غير أن الكلية كانت في الواقع قد استقدمت عددا من الأساتذة (الشيوخ) ليقوموا بتدريس اللغة العربية والدراسات الإسلامية، وخصصت جزءًا من منهجها لتدريس وتدريب القضاة الشرعيين للعمل (بعد التخرج) في المحاكم المحمدية (أي المحاكم الشرعية). وأثارت تلك السياسة دهشة وغضب جمعية الكنيسة التبشيرية وإرساليات المشيخية الأمريكية الذين كانوا يرون أن مدرسةً أنشأت لتخليد ذكرى الجنرال غوردون ينبغي عليها أن تدعوا للمسيحية وكتابها الانجيل، وأن تعمل وفقا لسياسة تهدف لتنصير سكان شمال السودان. وعلى الرغم من أن غالب طلاب كلية غوردون كانوا من المسلمين، إلا أن الكلية في سنواتها العشرين الأولى كانت قد قبلت عددا قليلا من الأقباط المصريين، غالبهم من أبناء الموظفين المصريين بالسودان. إلا أنه لم يكن بالكلية أي طالب مسيحي (أو من أي ملة أخرى) من الجنوب، وإن لم يكن ذلك بسبب عدم رغبة أولئك الطلاب في الالتحاق بها. فعلى سبيل المثال ذكر أحد المسؤولين البريطانيين العاملين بمديرية أعالي النيل أن "العديد من أثرياء الدينكا قد طلبوا منه تعليم أولادهم بكلية غردون". وظل ذلك الحاجز الجنوبي قائما لفترة طويلة (حتى عام 1944م)، حين بعثت الحكومة بطالبين جنوبيين موهوبين يدينان بالمسيحية، ليس لكلية غوردون بالخرطوم، بل لكلية ماكيريري Makerere بأوغندا.

14. كان من ضمن الشماليين الذي ترددوا في إرسال أبنائهم لكلية غوردون قادة المهدية ... ، وكان بعضهم ما زال حبيسا أو تحت الإقامة المنزلية الاجبارية. وكان البريطانيون حريصون، بصورة خاصة، على الحاق أبناء أمراء وقادة المهدية، ... بالكلية. وكانت السياسة البريطانية في هذا الجانب تعكس، ليس فقط تفضيلهم لإلحاق أبناء الطبقة "العليا" اجتماعيا، بل تعكس أيضا سلوكا براغماتيا (عمليا) خالصا. فقد كان البريطانيون يسعون لاستخدام قبول الطلاب بكلية غردون في إخماد أي مقاومة للاستعمار وذلك بمنح الخصوم المحتملين - نخب ما قبل الاستعمار وذُريَّاتهم – حصةً في النظام. وكانت سياسة البريطانيين في تعيين الموظفين تماثل سياستهم في اختيار طلاب كلية غوردون؛ فقد كانت الإدارة البريطانية تعَيَّنَ الذين كانوا قد أيدوا المهدية سابقاً قضاةً وكتبة وغير ذلك من الوظائف الحكومية، شريطة أن يعلنوا عن ولائهم للنظام الاستعماري. وكان بعض هؤلاء قد أعلنوا عن ولائهم في صورة رسائل أو اِلْتِمَاسات، بينما عبر بعضهم الآخر عن ولائه بقصائد مادحة تمجد الفاتحين البريطانيين. وحذا المستعمرون الفرنسيون في غرب أفريقيا حذو الاستعمار البريطاني وذلك بتجنيد عشرين من أبناء باني الإمبراطورية وزعيم المقاومة ساموري توري (حوالي 1830 – 1900م) في جيشهم.

15. لم يعمل البريطانيون فقط على ضم أعدائهم القدامى لصفوفهم، ولكنهم كَافَأُوا أيضاً حلفاءهم السابقين. فقد قبلوا في المدارس الأولية والوسطى وكلية غوردون عدداً كبيراً من أبناء أو أحفاد الذين أظهروا الولاء للبريطانيين، وعينوهم لاحقاً في الوظائف الحكومية. وكان بعض حلفاء البريطانيين أولئك خُدّاماً مخلصين (loyal servants) للنظام التركي - المصري السابق، وكان بعضهم قد أعان الجنرال غوردون قبل سقوط الخرطوم في 1885م؛ بينما قدم البعض الآخر معلومات استخبارية للبريطانيين، أو تعاونوا معهم بصورة أو بأخرى في غضون سنوات المهدية، وفي "استعادة" السودان، أو في سنوات الاستعمار الباكرة.

16. كان الإداري البريطاني روبن كايرو جاريت (1899 – 1974م)، قد قام قُبَيْل تقاعده عن العمل مديراً لمصلحة المخازن والمهمات في عام 1949م بكتابة تاريخ كرة القدم في السودان منذ أول ظهور لها في عام 1907م. وفي سرده لذلك التاريخ (في 260 صفحة) حكى جاريت عن حادثةٍ وقعت عام 1928م، مفادها أنه كانت تقام سنويا مباريات تنافسية بين فرق المصالح الحكومية المختلفة. وفي ذلك العام رفض لاعبو إحدى الفرق (وكان مكونا من خريجي كلية غردون) اللعب ضد فرق المصالح التي يتكون أفرادها من طبقة اجتماعية متدنية. وشمل هؤلاء رجال الشرطة، وجنود قوة دفاع السودان، ومن تدربوا في مدرسة الصنائع (الصنايعية)، وعمال الأجرة. وكان الكثير من هؤلاء العمال من "السود Blacks"، إذ أنهم كانوا هم المجموعة التي تم تجنيدها بكثرة في الجيش والشرطة والمهن الفنية واليدوية. وكتب جاريت "كانت تلك بداية سيئة، إذ أنها أثرت على العاملين في مَصالِح الأشغال العامة، والمخازن والمهمات، والسكة حديد، والبواخر، وشركة النور والكهرباء. وبما أن فريق مصلحة الأشغال العامة (الذي يلعب فيه 8 من الصنايعية) هو الفريق الذي كان قد حاز على الكأس، فيبدو أنه ليس هناك من حل لتلك المشكلة. وبعد سنة من ذلك تغلب المتعلمون الشماليون على نفورهم واشمئزازهم، ولعبوا ضد "السود" الذين كانوا يعدونهم أقل مرتبةً اجتماعية منهم.

alibadreldin@hotmail.com
///////////////////////

 

آراء