مقدمة في تقريظ المركزية الديمقراطية (3-3)

 


 

 

في الحلقة الثالثة أطروحات أنصار المركزية الديمقراطية وآراء رافضيها (3–4)
يقول :"تتركز أطروحات دعاة المركزية الديمقراطية في إنها انسب الأشكال لتنظيم الأحزاب الثورية. والسبب الأساسي ان تلك الأحزاب معادية، في معظم الحالات، للأنظمة القائمة مما يعرضها للحظر والمطاردة وكافة أشكال القمع”. وإذا افترضنا أن ذلك صحيحا ، فانه لن يكون سوى تحديد جزئي ومنحسر يضيق واسعا للأسباب التي تستهدف بناء منظمة الحزب الثوري . فقد قامت الأحزاب الشيوعية ( أحزاب الاشتراكية الديمقراطية) في أوروبا الغربية بدون أن تكون المركزية الديمقراطية -كنص في دساتيرها- هي المحدد للأشكال المناسبة لتنظيمها . وفى روسيا قام حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي بدونها ، وعرف دستور الحزب الشيوعي الروسي نص المركزية الديمقراطية في نهاية 1905 ، وهى أحزاب أدركت عضويتها الشكل المناسب لبنية أحزابهم ، ولم يعطل غياب المصطلح المشاركة الفاعلة في إنجاز ثورة في 1905 .
قلت أن هناك مكونات أخري أساسية تحدد الشكل المناسب للبنية الحزبية الثورية إلى جانب المركزية الديمقراطية . تشمل هذه المكونات – على سبيل المثال- عمليات متعددة ، مثل القضايا العملية الأيديولوجية والتنظيمية والسياسية التي تعمل على تثبيت الوجود الحزبي في مجالات يستهدفها مثل المحيط العمالي ، وسط جماهير المزارعين ، القطاع التقليدي والعمل النوعي وسط النساء والشباب … الخ، والعمل على تجنيد الطلائع والقيادات المبرزة وسط تلك الفئات والطبقات الاجتماعية وضمها للحزب. تشمل المعايير لبناء الحزب و" شكله المناسب" انفتاح الأفق النظري ، ألسياسي والتنظيمي ، واستهدافات العمل الإعلامي لبث الوعى وتوسيع العمل الدعائي والتحريضي بما يحقق الارتباط الوثيق بالبنية الوطنية ووعود تقدمها . تشمل تلك المعايير أيضا ، الاعتماد على المعرفة في المجالات المختلفة لخلق تخصصات عالية ومقتدرة في مجالات العمل الحزبي المتعددة و المتمايزة ، مما يمكن من إنتاج الفعالية في العمل الحزبي وقضية التغيير الاجتماعي. كما تشمل تلك المعايير تنمية قدرات الاستجابة المرنة والفعالة للظروف المتغيرة التي يناضل ضمنها الحزب ، ومنها التمسك الواعي بقواعد العمل السرى وتأمينه، والتمسك الثوري بقواعد المركزية الديمقراطية...الخ. هذه أمثلة للمعايير تحدد في تجربة الشيوعي، الأشكال المناسبة لتنظيم الحزب وأشكال ومناهج عمله . في قول صديق إن دعاة المركزية الديمقراطية قبلوها لأنها تمثل انسب الأشكال لتنظيم الأحزاب الثورية عبارة تظلمهم ، وتقلص موقفهم في تقرير مخل ومختصر ، يتجاهل ، أو لا يدرك غنى وتعقد تكاتف عمليات مترابطة هي في النهاية ما يحدد الأشكال المناسبة لبنية الحزب الثوري ، توافق الفعل الثوري الحزبي ومهام النضال ومهام المرحلة.

ويورد صديق شهادة المناضل الجليل في قدره العالي زميلنا الراحل أستاذ تجانى الطيب ويقول : “ يكتب التجاني الطيب(!)، أحد أشد المدافعين عن المركزية الديمقراطية حماسا، مؤكدا أن المركزية هي المبدأ الأساسي لوحدة وتماسك المجموعات: “عبر مسار التطور كان المبدأ الأساسي لوحدة الجماعات وتماسكها هو المركزية " “ والاقتطاف لا يورد لنا أي شئ قاله أستاذنا الجليل عن المركزية الديمقراطية ، بل يورد نصا يتكلم عن المركزية! ولم يعرف القارئ موقف أستاذنا من المركزية الديمقراطية وهو اشد المتحمسين لها في قيادة الحزب ! مما يجعل من الفقرة شيئا زائد ، تنقصه الإفادة وحسن الاقتباس.

يكتب صديق : “ ويرفضون ( أي المؤيدون) النقد الموجه للجمع بين المركزية والديمقراطية المتعارضتين. ويطرحون أن المركزية الديمقراطية تتكون، فعلا، من نقيضين، ولكن حسب قوانين الجدل بالصراع بين الضدين ثم وحدة الضدين فيمكن أن يجتمعا معا" . ليس واضحا ذلك النقد الموجه للجمع بين المركزية والديمقراطية ، والذي يرفضه المؤيدون، فلم يرد له شرحا أو مثالا أو نموذجا يوضح رفض المؤيدين للنقد الموجه ضد المركزية الديمقراطية . كذلك لم يطرح صديق نموذجا أو مثالا لفكرة المؤيدين أن المفهومين يحكمهم جدل وحدة وصراع الأضداد. وغياب المثال يشجع على الشك في الفكرة . فليس – في اعتقادي – أن المركزية تمثل ثيمة أو أطروحة نقيضة للديمقراطية . فنقيض المركزية هو اللامركزية كما يمكن أن نطرح نقائض أخري مثل التعددية أو/و التشتت او التشرذم كنقيض للمركزية ، أما الديمقراطية فنقيضها الدكتاتورية أو ألأوتوقراطية أو الشمولية أو الأوليجاشية ، كما أن وحدة وصراع آلأضداد – في الصراع التناحري المادي الجدلي - تنتج تركيبة جديدة ( أو توليفة) متجاوزة للأطروحة والأطروحة النقيضة تحل الصراع بينهما لتنتج أطروحة جديدة متجاوزة ومتطورة.

في تقديري من وجهة النظر الماركسية، يمكن أن يُنظر إلى المركزية الديمقراطية باعتبارها بنية جدلية توفق بين جانبين يبدوان متعارضين ، أو متعارضين ظاهريًا هما الديمقراطية والمركزية أو يمكن وصف العلاقة بينهما بالتوتر ، وليس التناقض التناحري. وتنتج الماركسية هذه البنية الجدلية انطلاقا من فكرتها القائمة على اعتبار أن المجتمع بنية توجد في حالة تغير مستمر، بسبب من تناقضات وصراعات تسكن بنى الهياكل الاجتماعية. تحاول المركزية الديمقراطية معالجة هذه الجدلية من خلال توفير وسائل تنظيمية تسمح باستمرار عملية الجمع بين عناصر الديمقراطية - مما يسمح بالمناقشة ومشاركة الأعضاء في صنع القرار - مع المركزية لضمان وحدة العمل وتنفيذ القرارات ، لمنظمات تسعى إلى التغيير في بنية المجتمع .

بالنسبة للماركسيين، فإن التركيبة الجدلية للمركزية الديمقراطية تكمن في اعترافها بالتوتر بين الحاجة إلى العمليات الديمقراطية، التي تسمح بآراء ومناقشات متنوعة، وضرورة العمل المركزي لتحقيق الأهداف المشتركة. ويُنظر إلى هذا التوتر على أنه قوة ديناميكية تدفع المنظمة إلى الأمام، مما يسمح بالقدرة على التكيف والوحدة. ولكنه توتر مستمر و ليس صراع تناحري بين أضداد ينتج شيئا جديدا يتجاوز كليهما.

جدلية نفى النفي :

* الأضداد تعنى:تحديد صفة أو طبيعة للأشياء المتناقضة ، تنفى بعضها البعض ، عكس بعضها ، و يتم طرحها في سياق البحث عن إجابة لسؤال لماذا نحتاج إلى معرف هذه التناقضات في الظواهر الاجتماعية (وغيرها) ومصيرها ؟ والظواهر الاجتماعية هي جماع قضايا متكاثرة (مثل العمليات الاجتماعية الجارية ، الحالات المتميزة والأخري المختلفة أو المشابهة وحدود الاختلاف والتشابه ، العلاقات( اقتصادية ، اجتماعية ، ثقافية .. الخ)، أشكال الوعي، المؤسسات التي تتم من خلالها الممارسات ، وأنواع الصراعات المتفجرة … الخ). ما هو الهدف من تطبيق مبدأ وحدة وصراع الأضداد؟ والإجابة ببساطة هي:الكشف عن التناقضات الداخلية والخارجية الموجودة بالفعل بشكل وجوديً ملموس. عند تطبيقه على دراسة العمليات الاجتماعية، نكتشف التناقضات الملموسة في تطور البنية الاقتصادية؛ ونعرف التناقضات الطبقية، ونعرف التعبيرات عنها موضوعيًا في الصراع الطبقي وذاتيًا في الوعي طبقي. أي انه من الضروري تحديد الحركة الداخلية، الباطنية أو العملية، للوجود الاجتماعي وللوعي المرتبط به، تحديد تاريخ تلك الحركة و تحديد اتجاهها ووعدها بما ومن يستمر في كينونة اعلي، ومن سيموت ، يظهر ذلك في المستقبل ، زُرعَتْ بذرته في الحاضر.

ويقول صديق : “ معظم الآراء تهمل قانون الحركة وانه لا شيء ثابت بما في ذلك المؤسسات الاجتماعية والآراء والأيدلوجيات. فكيف يتم القبول بثبات مبدأ واحد، بلا تغير، لأكثر من قرن من الزمان في ظل تحولات عاصفة وسريعة أعادت تشكيل العالم في أكثر من وجهة" . وهى حجة تبدو منطقية شكليا من وجهة نظر ما يسمى بالفطرة السليمة ، ولكن ليس من وجهة نظر المادية التاريخية . فالأخيرة منهجية فلسفية ماركسية ، تساعدنا في دراسة الظواهر الاجتماعية المادية مثل المجتمع ، ودراسة الظواهر المثالية (الوعي) . وانطلاقا من هذه الدراسة يمكن تحديد التناقضات الداخلية والخارجية الخاصة بالظواهر موضوع الدراسة . يؤدى تحديد هذه التناقضات إلى فهم عملية تغيير الموضوع المحدد والعمل على إحداث ذلك التغيير في بعده الكمي(تطوره) أو بعده النوعي (بإنجاز الثورة)؛ أي أن هذه التناقضات تساعدنا في فهم قانون الحركة .
صراع ووحدة الأضداد يكشف عن الحركة التاريخية للظاهرة الاجتماعية نفسها، أي حدوثها ووجودها وعملها وموتها أي انتقالها إلى حالة أخرى؛ وهى حالة موت مشهودة ، لحظات واتجاهات تشتغل على تدمير الحالة الراهنة من الداخل وتؤدي إلى ظهور حالة جديدة ؛ وبالتالي، يمكننا تقديم تنبؤات واقعية مبنية على أسس علمية (أي لا أي من أشكال المنطق الصوري) يمكن نشرها والتعامل معها في الوقت الحالي أو المستقبل القريب . الماركسية تقوم بدراسة الظواهر الاجتماعية ليس من وجهة نظر بعض القوانين العامة في حد ذاتها، ولكن من خلال خصوصيتها التاريخية باعتبار وجودها الملموس التجريبي الماثل ( الانطلوجى) يقود إلى الفكرة النظرية، أي إلى التجريد في قانون مرتبط. أن رغبة صديق في ترك المركزية الديمقراطية واستبدالها بصيغة أخري يُفترض ألا تقوم على تصور يزكيه حسن الظن حول البنية الاجتماعية الأفضل المرغوب فيها، بل على التحليل العلمي لتلك الاتجاهات التي تتضمنها هذه البنية الاجتماعية . إن الحاضر والذي يشير إلى البدائل الممكنة لتطور المجتمع( ولا شك ارتباط الحزب وبنيته والمركزية الديمقراطية بهذا المجتمع ) – هو بالضبط الحاضر المرتبط بمشروع التغيير الاجتماعي ومشروع الثورة في بعده المحلى والعالمي . أن الإشارة إلى إنها قديمة وبلغت من العمر كذا ، لا يجدى ، فشروط الحركة والتغيير الدياليكتيكي تتجلى في صيغ افضل ( من مجرد صيغة كمية اعتباطية) ، وأرجو ألا يمتد الأمر إلى الماركسية نفسها ، فهي بالفعل اقدم من المركزية الديمقراطية .

مسألة الطاعة العمياء :
في تعريف الفرع يحدد الحزب الشيوعي (السودان) أن الفرع في المنطقة المعينة هو من يمثل الحزب في تلك المنطقة ، الفرع فقط وليس أي بنية تنظيمية أخري . بطبيعة الحال ( أو الحياة) وفى المجال الحزبي المحدد هناك كثير من قضايا الفعل ألسياسي المحلية لا تكون فيها اللجنة المركزية أو أي بنية قيادية اعلي (قيادة منطقة) معنية أبتداءً باتخاذ قرارات تحكم وتوجه عمل الفرع، فهو المسئول عن اتخاذ قراره وبناء خطة عمله في مجاله سواء كان فرع العمل أو مكان العمل ، أو حتى عضو الحزب وحده ، يتخذ قرارات تعبر عن فهمه واستيعابه للخط ألسياسي وجماع خبرته في العمل الحزبي. وينحصر دور القيادة في كل مستوى – إذا اقتضى الأمر التنسيق بين تلك القرارات والممارسة السياسية المتحققة بناءا على تقارير ترفعها الفروع ، تلخص فيها تجاربها في العمل الحزبي في منطقتها . وهو مما يساعد القيادة في أي مستوى على تطوير رؤية نظرية وسياسية شاملة تخص الخط الفكرى ألسياسي أو الخط التنظيمي ... الخ. بالطبع هناك بعض الحالات النادرة التي تتطلب تدخل القيادة الفوري والمتواقت لمعالجة أمور أنية وعاجلة و متحركة، وفرض خيارات سياسية محددة على منطقة محددة ، فرع أو مجموعة فروع محددة أو على المستوى الوطني . وهى خيارات قيادية تخضع للتقييم والمحاسبة اللاحقة للقيادة ، فتتحمل نتائج النجاح أو الإخفاق وما يترتب عليهما من محاسبة .
يقول عبد الخالق : النشاط اليومي للثوريين يجب أن يعتمد على تشجيع مبادرة الأعضاء وثقتهم بأنفسهم واعتمادهم على أنفسهم في اتخاذ القرارات، وليس على إلقاء القرارات التنفيذية من مركز الحزب إليهم.
ومسألة الثقة بالنفس : لا تحدث عملياً بشكل تلقائي. فنشاط العمال وثقتهم بأنفسهم يتطور خلال النضال ضد العدو الطبقي، وجزء هام من هذا التطور ينتج عندما يستطيع العمال أنفسهم اقتراح وسائل لتعميم نضالهم، وإبداع تكتيكات للانتصار فيه. ويستطيعون النجاح في ذلك فقط عند إفراز قيادات نضالية تسير على نفس الخط الذي يسير عليه مناضلون ثوريون في قطاعات أخرى من الطبقة العاملة ، وسائر فئات الكادحين .
*** لم تكن المركزية بالنسبة لعبد الخالق ولينين نقيضًا لانطلاق المبادرة الذاتية والاستقلالية لدى أعضاء الحزب؛ بل كانت الشرط الضروري لها. وهى تؤسس للانضباط والذي هو العملية الجدلية التي تعنى الفهم العميق و ربط الخبرة الفردية بالنظرية الثورية والممارسة القاصدة للحزب. وعلى هذا النحو -وهى في نفس الوقت- لا تتعارض مع القدرة على إجراء تقييمات مستقلة لمواقف ملموسة، بل هو شرط أساسي لها. وقد قامت تجربة الدكتور (طبيب) مصطفى السيد في جنوب السودان على انه – لوحده – ممثل الحزب في منطقة عمله. وفى الحقيقة كان دكتور مصطفى هو الحزب كاملا بلا صلة باللجنة المركزية أو أي لجنة أخري ، لظروف ذلك الوقت في الجنوب، وبنى منظمة حزبية جماهيرية كبيرة ومنتجة ومذهلة (مثلا بناء النقابات العمالية، صياغة البيانات الحزبية باللغات المحلية في الجنوب...الخ) ، يمكن الوقوف عليها في كتابه "مشاوير في دروب الحياة" ذلك الكتاب ذو المذاق الثوري الرطيب ، وتجارب أخرى سجلها بعض المتفرغين في مناطق نائية أخري في السودان الممتد. أقول ان نفس ذلك الانضباط لا يعني التعامي أو إخفاء الاختلاف داخل الحزب فهي سمة العقل المفكر و المنحاز بحب لمشروع التغيير الثوري في البلد.

يقتطف صديق من تقرير المؤتمر الرابع : “ وبينما حياة حزبنا تتأثر بالاتجاهات اليسارية، وتخلف الأداء والتنفيذ وبدائيتهما، تعقم تلك الحياة وتضعف المركزية الديمقراطية" ثم يورد في الاقتطاف النتائج السلبية لضعفها على الحزب ! ويحدد الاقتطاف أن تخلف وبدائية الأداء الحزبي أديا إلى ضعف المركزية الحزبية ! لم يقل التقرير – في جزئه المقتطف- أن المركزية الديمقراطية كانت سببا في تخلف الأداء الحزبي ، بل العكس. وقد كان التقرير محددا في تسجيل المشاكل التي أدت إلى ضعف المركزية الديمقراطية. وهذا مثال أخر – من كثر- ينقيه صديق أي يختاره بشكل عشوائي ، لا يخدم موقفه ضد المركزية الديمقراطية ، بل ليطرح نموذجا ممتازا لمقولة الاصبع الذي يحاول حجب ضوء الشمس . فهذا التقرير هو نفسه التقرير الذي انتج تلك المساهمة الضخمة لتصبح واحدا من عيون الأدب ألسياسي في السودان ، الذى سارت به الركبان باسم " الماركسية وقضايا الثورة السودانية ". وقد تبعها الكتيب الفذ "قضايا ما بعد المؤتمر" والذي صدر عن أعمال اللجنة المركزية التي انتخبها المؤتمر الرابع ، خطه الشهيد الجليل عبد الخالق محجوب ، والتي يذكر محاسنه د. عبد الله على إبراهيم حيث يكتب :” وتتجلى أهمية هذا التقرير في مسألتين. الأولى حمل البرجوازية الصغيرة في الحزب، التي أنهكتها نكسة ثورة أكتوبر 1964 وحل الحزب في 1965 دون مواصلة التفكير ماركسياً في استراتيجية التغيير الاجتماعي السياسي كما عالجها المؤتمر الرابع. وكان عبد الخالق رأى هذه الطبقة وممثليها في الحزب انصرفوا عن مثل التفكير المستميت إلى حيل التكتيك ليثأروا بالانقلاب من “الرجعيين” الذين سرقوا منهم ثورتهم وحزبهم. أما المسألة الثانية فهو دعوة لفتح أبواب النقاش على مصراعيها في استراتيجية التغيير الاجتماعي منتقلين من عموميات الماركسية إلى لبها النظري في دراسة المجتمع. ”.
( انظر وثيقة قضايا ما بعد المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي (1968) ، ع.ع. إبراهيم في الراكوبة 24 يونيو، 2018)
. و صديق لا يذكر خلفيات (اقتصادية اجتماعية ، سياسية) مهمة أحاطت بالمؤتمر ومنها ثورة أكتوبر، وأدوار الحزب الشيوعي في تلك الفترة في مختلف الجوانب ومنها دخول 15 من عضويته في البرلمان. لا يذكر أي من إنجازات الحزب بالرغم من مشاكل تخلف الأداء المذكورة، من كل ذلك لم يجد صديق غير اسطر قليلة يقطفها لتسند حجته ضد المركزية الديمقراطية ، وبالرغم من اجتهاده فإن المقتطف يخفق و لا يعرض ذلك بأي وجه من الوجوه!

يطرح صديق مثالا أخرا لتسلط اللجنة المركزية في إدارة الصراع الفكري ، ويذكر تجربة " المناقشة العامة حول قضايا العصر وما انتهت اليه الا يصح وصفها بالفيل الذي تمخض فولد فأرا!”. وهذا تفسير متعسف ، تغيب فيه الحجة ( إن لم تكن الحصافة)على إطلاق مثل هذا الحكم السيئ، فلا نعرف ماهو هذا الفأر المولود ، وهل يقصد فعلا وصف المناقشة العامة بالفيل ؟ أليس ذلك حكما إيجابيا عليها ؟ فإذا كان كذلك ، كيف يمكن فهم أن اللجنة المركزية من شانها -وهى المتسلطة – أن تنتج وتدير صراعا فكريا ضخما كفيل؟ وهو في حجمه ذلك لم يكن مؤهلا إلا لانجاب فأر؟ وهناك سؤال يبدو موضوعيا – لا مفر- هل انتجت تجارب الصراع الفكري السابقة ( غالبا ما كانت هي ضخمة كذلك ، كفيل) فئرانا، وهى ألتي جرت تحت تسلط المركزية الديمقراطية؟

في الجزء الرابع من موضوعه وبعنوان ماهو البديل للمركزية الديمقراطية ، يقدم صديق عدة مقترحات ، يمكن ملاحظة قيمتها الأساسية في دفع موضوعته بالسماح بوجود التكتلات الحزبية كشكل تنظيمي وجسم حزبي يلاقى الاعتراف به داخل التنظيم الحزبي ، له الحق بالتعبير عن مواقفه المختلفة داخل وخارج الحزب .
تمخضت المسألة كلها والكتابة كلها وولدت السماح للتكتلات بالوجود داخل الحزب كجوهر هذه الكتابة. وبالرغم من توصيته بترك وهجران المركزية الديمقراطية إلا أنه يقترح في صيغته الجديدة التمسك بالمركز الواحد كقيادة للتنظيم، رأي الأغلبية هو رأي الحزب الذي سيعلن وللأقلية الحق في الاحتفاظ برأيها والتبشير به ، الرأي الرسمي للحزب حول أي قضايا عامة يعلنه المتحدث الرسمي المعلن والمعروف أو يصدر من قيادة الحزب كتابة ، تفتح مجلات الحزب الداخلية، لتفعيل الصراع الفكري وليست أداة للتعبئة ، حق سحب الثقة من القيادات . وهذه التوصيات هي مكونات رئيسية للمركزية الديمقراطية التي وصى بتركها !! ثم يقترح قضايا غير مرتبطة عضويا بالمفهوم مثل لا يسمح بان يشغل أي زميل موقع لأكثر من دورتين بما في ذلك السكرتير العام ، و تحديد سن أقصى لشاغلي المواقع الحزبية القيادية ، ثم وصايا بقراءة الديالكتيك !
قام جزء من اعتراضات صديق على تقديم اللجنة المركزية لقائمة مرشحين إلى عضوية اللجنة تفرض علي المؤتمر العام . والحقيقة التي لا يذكرها صديق أن اللجنة المركزية تقدم ترشيحات من عضويتها الحالية فقط، تضم ترشيحات تقدمها بعض جهات العمل المتخصص وأيضا من بين عضويتها فقط، كجريدة الميدان مثلا ، تقدم تلك القائمة للمؤتمرين ضمن الترشيحات الأخري تأتى من عضوية المؤتمر ، وليس هناك - مطلقا- أي صيغة أو توجيهات أو أوامر أو تقليد تفرض قبول مرشحي قائمة اللجنة المركزية . وهى قائمة صغيرة تقوم على اختيار مجموعة صغيرة من أعضاء أتوا للجنة المركزية من مؤتمر سابق ، فهي -تبدو موضوعيا- فكرة مناسبة تقترح مسالة مواصلة واستمرار التجربة ، لنعطى مثالا : ففي المؤتمر الأخير ( السادس) بلغت نسبة قائمة المرشحين المقدمة من اللجنة المركزية ال 12% من مجموع قائمة المرشحين للجنة المركزية كانوا مفتوحين للفوز أو السقوط في انتخابات سرية ، وهنا سيكون من الصعب الحكم على تلك الممارسة بانها كانت ممارسة في التسلط والغصب، إذا لم تتوفر الرغبة بوصفها بالديمقراطية.

تاريخ النقد للمركزية الديمقراطية :
إن تاريخ الحركة العمالية الثورية منذ أيام الأممية الأولى هو تاريخ لا ينقطع للجماعات والميول البرجوازية الصغيرة ، من جميع الأنواع ، تشن الهجمات الممتعضة ضد البنى والأساليب التنظيمية للشيوعيين ، يذهلهم البأس النظري والسياسي والذي شهد العالم تجلياته في تجربة نجاح ثورة أكتوبر الروسية العظيمة ، وتَغيّر العالم الذي شهد ولادة المعسكر الاشتراكي ، والقوة الجماهيرية للأحزاب الشيوعية في العديد من بقاع العالم . والهجمات الممتعضة تستهدف اكثر ما تستهدف الأساليب التنظيمية ، ، تنطلق من مفهوم مستهلك للمركزية الديمقراطية ، وتستهدف حتى المسائل الإدارية الروتينية ، يمر بينهما التناول غير المنصف أو الشريف للقادة الشيوعيين/ات ، الذين يصفونهم/هن بسالب الصفات تخلع عليهم/هن التكبر والقسوة والاستبداد و المحبون/ات للبيرقراطية وسدة الكرسي .
الخلاصة
فى تقديري جاءت ورقة صديق كمرافعة ضد المركزية الديمقراطية مختصرة لتقول في نهايتها : إذن علينا بقبول التكتلات الحزبية . وهو تقديم سلبي للتكتلات الحزبية بدلا عن التقديم الإيجابي لها ، فقد عفا نفسه من إقامة الحجة لها ، انطلاقا من تعريفها ، وتبيان ضرورتها وفوائدها في خدمة قضية الحزب وأهدافه . لا يتحدث عن وضعها التنظيمي ، هل هي قانونية ، أي لائحية ؟ ماهي الصيغة التنظيمية لها، أي كيفية وجودها داخل تنظيم الحزب ، هل لها عضوية مسجلة، هل تجتمع لوحدها ، أم تجتمع مع العضوية داخل الحزب ، هل لها اتجاه أو موقف أيديولوجي محدد ، هل تنافس على المواقع القيادية ، وفى حالة وجودها ككتلة هل لها قوة إدارية وتنظيمية خاصة بها ، هل تسمح بصراع فكرى داخلها ، وكيف تنظمه ... الخ . هل لها جوانب سلبية ، ماهو تأثيرها في وحدة الحزب التنظيمية والسياسية ، هي هل خميرة انقسامات ؟ ... الخ
ما اجده جدير بالانتباه ، هو خلو ورقة صديق من مناقشة تجربة المركزية الديمقراطية داخل الحزب الشيوعي ، المعنى بشكل أساسي ، والمدعو لتركها وقبول التكتلات الحزبية . فتفادى بشكل واضح تأكيد وقوع الحزب كضحية للعنة المركزية الديمقراطية ، كما وقعت فيها كل الأحزاب الشيوعية ، ولم يذكر سوى دفاع استأذنا وزميلنا الراحل مجيد الذكر تجانى الطيب عن المركزية الديمقراطية ، والذي أورده ناقصا دون عبارة المركزية الديمقراطية ، ثم تجربة بعض المؤتمرات التي طرحت فيها اللجنة المركزية قائمة مرشحين للجنة المركزية ، بدون ذكر أي سياقات محددة.
خلاصة ... الحزب
طرحنا أن النقد الرافض للمركزية الديمقراطية بحجج متنوعة ، هي سيرة قديمة منذ ماركس وإنجلز ومنذ الأممية الأولي . و تعبر عن وجودها في تجربة كل حزب ، تأخذ نفس الاتجاهات، تكرر نفس الاتهامات، تأتى في نفس القوالب ، و لكنه نفس الصراع بين الاستقلالية والمركزية، بين المركزية والديمقراطية. في تجربة الحزب السوداني يأتى الحديث عن الانضباط ، ويوصف بالحديدي ، ولكنه ليس انضباطا يمنع الحياة ، لا يستعير من الحديد جموده ، بل صلادته ، فهو انضباط لا يمت للسلبية بصلة ، انضباط يقوم على البصيرة المفتوحة ، فمن ينتمى إليه بوعى ، اقصد بوعى- يقرر الانتماء لمسيرة تمشى في الطرق الوعرة ، كرسوا انفسهم بوعى للثورة ، انهم جمع من المفكرين والمفكرات ، جزء من وعيهم بهذا الانتماء يقوم على معرفتهم الدقيقة بالسيرة القاسية والدرب الصعيب ، سيرة القتل والاغتيال ، وسيرة السجن الطويل ، كما سيرة الفرح بالانتصارات في أكتوبر وأبريل وديسمبر . تلك القدرة على النقد والنقد الذاتي هي احدي فضائلهم/هن الأساسية للثوري/الثورية ( يمزح بعضنا بوصف بعضنا بالقطامة الشيوعية ، يشيرون لتلك الصرامة، ويعرف كثير منا : انو كبير الجمل ) .
ليس كل نقاش في الحزب هو صراع فكرى ، وغالب النقاش يتم من وجهة نظر تنطلق من المعرفة التلقائية أن في الحزب ليس ناديا للنقاش و المناظرات ينخرط في جدل لانهائي في كل اجتماع ،وفى كل الأوقات، يفوز به المتكلمون اللبقون البارزون ، ولا يصل إلى قرار أو خطة عمل ، يؤدى غيابها إلى الشلل . الحزب منظمة ثورية يخضع هيكلها التنظيمي للمطالب الإيجابية للنضال الثوري ، وليس لمطالب سلبية تعيقه وتشل حركته. الحزب ليس ساحة لتأكيد الفردانية ، بل هو أداة للثورة ، أداة للتغير الجذري .، كما يعبر تروتسكي انه من الطبيعي أن المحتوى الأساسي للحياة الحزبية لا يكمن في المناقشة، بل في النضال .
خبر الحزب الشيوعي السوداني الحياة الواقعية الفعلية في البلد منذ نشأته ، وسجل تاريخا معروفا ، أو في متنأول المعرفة ، سجل تجربة التأثير المتبادل بين ضروب الحياة الواقعية المتغيرة ، وبنية الحزب وأدائه الفكري ، الأيديولوجي والسياسي . وتنوعت سمات تجربة الحزب بين الصعود والهبوط ، بين النجاح والإخفاق ، التقدم والتراجع .. الخ، بالتنوع ، تماما كشان الحياة . وهى تجربة خاضتها العضوية وخلفت اثأرها في الأجساد والعقول والخيال المتقد، وهى تجربة ارتكزت على بنية الحزب ، تعددت مكوناتها من خصائص القادمين/ات إلى عضويته ومن سبقهم ، خصائص الطبقة العاملة وجماهير كادحي الشعب ... الخ أخر المكونات التي ذكرتها سابقا ، ومنها بالطبع المركزية الديمقراطية .
ستظل المركزية الديمقراطية، شانها شأن باقي مكونات البينة الحزبية ، منتجة لجدل مكوناتها ، تقرره الحركة النضالية المؤثرة والمتأثرة بالصراع الاجتماعي وتعبيراته السياسية يقوم على معرفة وقائع البلد وسمات حركتها في كل مجال . وسيتمر الصراع حولها – بلا شك -تكمن وراءه دوافع الانتهازية السياسية ، وميول البرجوازية الصغيرة ، والأفكار الثورية تعي جدله ، تقبل دوره الثوري في إنجاز البنية الصلدة كالحديد ، يفهمه ويمارسه الشيوعيون والديمقراطيون معهم و بالقرب منهم ، يهتفون ملء وجودهم : ماشين في السكة نمد .

isamabd.halim@gmail.com

 

آراء