من أعلام الاستقلال: عرفات محمد عبد الله .. بقلم : تاج السر عثمان
تاج السر عثمان بابو
2 January, 2023
2 January, 2023
1
بمناسبة الذكرى 67 لاستقلال السودان نتناول في هذه الدراسة سيرة المناضل عرفات محمد عبد الله ( 1898 – 1936م) الذي كان من أعلام وصناع الاستقلال ، و ساهم في ارساء دعائم النهضة الحديثة التي عبر عنها في مقالاته ودراساته التي نشرها في مجلتي "النهضة " و"الفجر" اللتين صدرتا في ثلاثنيات الفرن الماضي، فضلا عن أن عرفات كان من قيادات جمعية اللواء الأبيض البارزين ، وساهم في تفجير ثورة 1924 التى سوف نحتفل بذكراها المئوية العام القادم 2024.
بذل المرحوم د. قاسم عثمان نور جهدا كبيرا و مقدرا في جمع مقالات عرفات في كتاب بعنوان " عرفات محمد عبد الله : قل هذا سبيلي : مجموعة مقالات ، اعداد وتقديم : قاسم عثمان نور، اصدار مركز الدراسات السودانية، القاهرة 2000". فما هي أهم معالم سيرة عرفات محمد عبد الله؟
2
نعت مجلة الفجر الي الأمة السودانية عرفات في عددها الخاص رقم (2) الصادر بتاريخ : الخميس 23 يوليو 1936 بقلوب مكلومة ومحزونة، وأشارت الي أنه كان رجلا من أخلص أبناء البلاد ، وأحدبهم عليها واصدقهم حبا لها وتفانيا في خدمتها في حياتها السياسية والاجتماعية والأدبية حيث ضحى بالمال والجهد وأخيرا بالحياة ، وتبارى كتاب مجلة الفجر وغيرهم مثل : محمد أحمد المحجوب ، وأحمد يوسف هاشم . الخ، في ذكر مآثره ومحاسنه ودوره في تقدم ونهضة الوطن، ومن تلك الكتابات والاضاءات ظهرت جوانب مخفية من سيرة و تضحيات ونضال عرفات من أجل حرية واستقلال الوطن ، فهو كان فعلا لا قولا من أعلام وصناع الاستقلال و نهضة البلاد ، ومن الذين غرسوا نواة العمل الصحفي الرصين .
وُلد عرفات محمد عبد الله عام 1898 ذلك العام الذي شهد هزيمة الدولة المهدية علي اسنة رماح قوات الاحتلال الانجليزي – المصري ، ولا شك أن تلك الظروف التي وُلد فيها كان لها الأثر على عرفات الذي تميّز بحب الوطن والتضحية والجهاد من أجل تقدم وعزة السودان . الذين عاصروا عرفات منذ أن كان طالبا تحدثوا عن نبوغه وذكائه ودماثة أخلاقه ، وأنه كان يفطن لأدق المسائل ، كتب محمد أحمد المحجوب " كان يبدو ذاهلا متشاغلا عن الدرس حتى كاد بعض الناس يحسبه مهملا ، ولكن فاتهم أن العبقري لا يقوى علي سماع الحديث المكرر ، ولا يستطيع كبح نفسه عن التطلع الي العوالم التي تتراءى أمام عينيه ويحصر نفسه في دنيا الفصل ، وذلك شأن الرجل الحالم ، فقد كان عرفات يحلم بتأثيل مجد طارف ، وكان يعمل لذلك حتى موته".
انقضت أيام الدراسة وكان عرفات في الطليعة وانخرط كغيره من زملائه في سلك الوظيفة الحكومية والتحق مصلحة البريد والبرق ، وكان مثالا للموظف المجد ، ولما كان رب عائلة كبيرة وكان مرتبه لا يفي بحاجته ، كان يعمل في أوقات فراغه في البيوت التجارية ليحصل علي بعض المال ليتساعد به في حياته. من هذا المثل يتضح لنا أن عرفات لم يستسلم لوظيفة واحدة فقط ومرتبها ، بل سعى بكل جد وهمة ونشاط لسد النقص بمرتبه بالعمل الاضافي في الغرف التجارية ، لا شك أن ذلك كان له الأثر في توسيع افقه ومداركه ومعرفته بعوالم جديدة غير عالم الوظيفة ، مما اكسبه تجارب وخبرات ومعارف جديدة .
3
كان عرفات قارئا نهما يقضي لياليه يقرأ ويكتب ، كما كان يعرج الي اصحابه يتجاذب معهم أطراف الحديث ، وقراءة الشعر ، وقد كانت له مساهماته المتميزة في تلك المجالس.
عرفات من المؤسسين لجمعية اللواء الأبيض ، ومن قادة ثورة 1924 ، وكان مع عبيد حاج الأمين وغيرهما بمثابة الراس المفكر واليد المحركة ، وهو الذي نشر نداء الثورة باللغة الانجليزية على صفحات التايمز ، ونشرت الأهرام ترجمته ، وذلك في وقت كان كتاب اللغة الانجليزية لا وجود لهم في السودان ، ولكن عرفات كان سباقا في كل حلبة كما ذكر محمد أحمد المحجوب.
وعندما طلبت منه قيادة اللواء الأبيض السفر الي مصر لم يتردد وضحى بعائلته ووظيفته ، فقد كانت له زوجة وطفلين ، وفي مصر كان شعلةً من النشاط، وامتزج بالأوساط المصرية، وقدموا له بعض الوظائف الا أنه رفضها وهو يقول : " ما جئت الي مصر طالب مال ولا باحثا عن عمل ، ولكن جئت أعرض مطالب شعب وأدافع عن قضية أمة".
4
بعد مقتل السير لي استاك وهزيمة ثورة 1924 اُعتقل فزج مع صحبه من السودانيين في السجن وظل سبعة أشهر ، وكان فيها مثالا للثبات والصبر والنزاهة ، الثبات أمام القضاء والصبر علي مغص السجن والنزاهة في الرد علي ما يوجه اليه من اسئلة.
بعد خروجه من السجن ضاقت به الحياة مع صحبه من السودانيين ، ونزل الي ميدان العمل الحر ، وفتح حانوتا للبقالة يرتزق منه هو وابناؤه الطلبه الذين ذهبوا الي مصر طلبا للعلم ، وبعدها نزح الي سينا واتصل بشركة التعدين الانجليزية وظل يعمل فيها زهاء العام ، انفصل بعده من الشركة حسب رغبته ، ويروى محمد أحمد المحجوب قصة طريفة حول ذلك يقول: " وهناك له قصة طريفة مع مدير الشركة من الخير أن نرويها وذلك انه قدم استقالته ، واعطى الشركة انذارشهر حسب شروط العقد الذي بينهما وظل في العمل نشطا مخلصا كما كان من قبل ، وقد داخل المدير الريب وظن أن هذه الاستقالة مناورة يطلب من ورائها المزيد فقال له ذات يوم هل أنت مجد في استقالتك يا عرفات ، فأجابه بأن نعم ، فقال له: ولكني اراك نشطا مجدا في العمل كأنك اتصلت بالشركة أمس الأول ، فقال له ولكنى أعمل بنشاط لأني اتقاضي مرتبي عن هذه المدة ، فأسف المدير ، وعلم في تلك اللحظة أنه فقد رجلا ذا شعور عظيم بالواجب".
من سينا ذهب عرفات الي جدة واتصل بشركة القناعة العربية والسيارات ، وكان في اوقات فراغه يعطي دروسا في اللغة الانجليزية والعربية لبعض الراغبين في الاستزادة من العلم ، وجمع حوله جماعة من الصحاب السودانيين والمصريين والجداوين .
5
وبعدها قرر عرفات العودة للوطن ليعمل من داخله ، لأنه من الذين يؤمنون بأن الرجل لا يستطيع خدمة بلاده وهو خارج الحدود وأن الصوت الذي يأتي من خارج الحدود يأتي خافتا ، وبعد خمسه أعوام ونيف عاد بعدها للبلاد ، وقد اكتسب تجارب عظيمة وازداد معرفة بالأيام والناس.
كتب محمد أحمد المحجوب " قليل من الناس من يعرفون كيف عاد عرفات الي الحمى الا فليسمعوا كيف عاد ، كتب عرفات من جدة الي استاذه المستر هللسون وكان آنذاك مساعدا للسكرتير الإداري في الشؤون الأهلية طالبا منه أن يسهل له سبيل العودة الي بلاده ليعمل مع العاملين علي رفعتها ، وقد مهد له استاذه سبيل العودة على أن يأخذ علي نفسه تعهدا للمحافظة على الأمن لمدة عامين ، واذا أخل بذلك دفع خمسمائة من الجنيهات ، ولعل السر الذي لا نعرفه هو الرسالة التى بعث بها للسكرتير الإداري يطلب العودة الي بلاده فما كان مستجديا ولا متملقا ، ولكنه كان صريحا حرا ، واليك ترجمة هذه الفقرة من تلك الرسالة " ليس بدعا أن يطلب الرجل العودة الى بلاده، وعلى الأخص عندما يرى أمانيه وآماله تحطمت أمامه ، لقد اشتركت ضمن فيمن اشترك في حركة سنة 1924 تدفعنى الي ذلك وطنيتي ولما أن فشلت في مهمتي اريد العودة اليوم الى بلادى ، ولا اقطع على نفسي عهدا بأنني إذا دعتنى ظروف الخدمة العامة في بلادي سأحجم عن ذلك".
هكذا عاد الى الوطن ليواصل العمل و الكفاح من الداخل وفي مجالات متعددة ومتنوعة .
6
بعد عودته للوطن وجد وظيفة غير حكومية ، وارتبط بالأعمال الخيرية والاصلاحية ، فقام مثلا باخراج وتمثيل عدة روايات لمساعدة نادى الخريجين ، كما أسهم في اقامة السوق الخيرى الأول لمساعدة ملجأ القرش ، ومثل في رواية "اوليس" لمساعدة المدرسة الأهلية والأحفاد والملجأ ، وكان هدفه هو تقديم الخدمة للوطن من خلال ذلك.
وكان في أيامه الأولى موضوعا تحت رقابة شديدة ، وكان الناس يهابونه ويتوجسون التقرب منه خوفا من الرقابة ، وكان يبتسم ابتسامته العريضة الساخرة ويقول " ياللرجال قد عمل الاضطهاد في نفوسهم ، فأصبحوا يخافون حتى من أنفسهم ، وهذا شر ما انجبته سلطات الاستعمار"
كان عرفات يؤمن بأن الصحافة أداة لخدمة الأمة من الناحيتين الثقافية والاجتماعية ، وعندما عاد الى أرض الوطن كان يحس بالنقص الفاضح في الصحافة السودانية ، ولم يتردد حينما دعاه محمد عباس ابو الريش بواسطة محمد أحمد المحجوب لاصدار مجلة "النهضة "، وكان مواظبا على العمل في خدمة الصحيفة في أقسامها المختلفة : التحرير ، الإدارة، وكان من أكثر الناس حزنا عليها يوم ماتت بموت صاحبها محمد عباس ابو الريش.
وبعدها ساهم في اصدار مجلة "الفجر"، فكان ربانها وقائدها الحكيم ، ولعت مجلة الفجر دورا كبيرا في الحياة الثقافية والاجتماعية والوطنية ، وكان عرفات لا يعبأ لتحذير الأمن العام ولا يخشى تهديده ، وكان يقابل التحذير والتهديد بصدر رحب وابتسامة صفراء ، ويمضى في عمله غير عابئ بالتحذير ولا بالتهديد ، ولسان حاله يقول " ستعودهم الحرية حتى يألفوها وسنطالبهم بالحقوق حتى يقروها وسنريهم مقدرتنا على القيام بالواجب في غير ما ضوضاء حتى يكبروننا ( المحجوب).
نواصل
alsirbabo@yahoo.co.uk
////////////////////
بمناسبة الذكرى 67 لاستقلال السودان نتناول في هذه الدراسة سيرة المناضل عرفات محمد عبد الله ( 1898 – 1936م) الذي كان من أعلام وصناع الاستقلال ، و ساهم في ارساء دعائم النهضة الحديثة التي عبر عنها في مقالاته ودراساته التي نشرها في مجلتي "النهضة " و"الفجر" اللتين صدرتا في ثلاثنيات الفرن الماضي، فضلا عن أن عرفات كان من قيادات جمعية اللواء الأبيض البارزين ، وساهم في تفجير ثورة 1924 التى سوف نحتفل بذكراها المئوية العام القادم 2024.
بذل المرحوم د. قاسم عثمان نور جهدا كبيرا و مقدرا في جمع مقالات عرفات في كتاب بعنوان " عرفات محمد عبد الله : قل هذا سبيلي : مجموعة مقالات ، اعداد وتقديم : قاسم عثمان نور، اصدار مركز الدراسات السودانية، القاهرة 2000". فما هي أهم معالم سيرة عرفات محمد عبد الله؟
2
نعت مجلة الفجر الي الأمة السودانية عرفات في عددها الخاص رقم (2) الصادر بتاريخ : الخميس 23 يوليو 1936 بقلوب مكلومة ومحزونة، وأشارت الي أنه كان رجلا من أخلص أبناء البلاد ، وأحدبهم عليها واصدقهم حبا لها وتفانيا في خدمتها في حياتها السياسية والاجتماعية والأدبية حيث ضحى بالمال والجهد وأخيرا بالحياة ، وتبارى كتاب مجلة الفجر وغيرهم مثل : محمد أحمد المحجوب ، وأحمد يوسف هاشم . الخ، في ذكر مآثره ومحاسنه ودوره في تقدم ونهضة الوطن، ومن تلك الكتابات والاضاءات ظهرت جوانب مخفية من سيرة و تضحيات ونضال عرفات من أجل حرية واستقلال الوطن ، فهو كان فعلا لا قولا من أعلام وصناع الاستقلال و نهضة البلاد ، ومن الذين غرسوا نواة العمل الصحفي الرصين .
وُلد عرفات محمد عبد الله عام 1898 ذلك العام الذي شهد هزيمة الدولة المهدية علي اسنة رماح قوات الاحتلال الانجليزي – المصري ، ولا شك أن تلك الظروف التي وُلد فيها كان لها الأثر على عرفات الذي تميّز بحب الوطن والتضحية والجهاد من أجل تقدم وعزة السودان . الذين عاصروا عرفات منذ أن كان طالبا تحدثوا عن نبوغه وذكائه ودماثة أخلاقه ، وأنه كان يفطن لأدق المسائل ، كتب محمد أحمد المحجوب " كان يبدو ذاهلا متشاغلا عن الدرس حتى كاد بعض الناس يحسبه مهملا ، ولكن فاتهم أن العبقري لا يقوى علي سماع الحديث المكرر ، ولا يستطيع كبح نفسه عن التطلع الي العوالم التي تتراءى أمام عينيه ويحصر نفسه في دنيا الفصل ، وذلك شأن الرجل الحالم ، فقد كان عرفات يحلم بتأثيل مجد طارف ، وكان يعمل لذلك حتى موته".
انقضت أيام الدراسة وكان عرفات في الطليعة وانخرط كغيره من زملائه في سلك الوظيفة الحكومية والتحق مصلحة البريد والبرق ، وكان مثالا للموظف المجد ، ولما كان رب عائلة كبيرة وكان مرتبه لا يفي بحاجته ، كان يعمل في أوقات فراغه في البيوت التجارية ليحصل علي بعض المال ليتساعد به في حياته. من هذا المثل يتضح لنا أن عرفات لم يستسلم لوظيفة واحدة فقط ومرتبها ، بل سعى بكل جد وهمة ونشاط لسد النقص بمرتبه بالعمل الاضافي في الغرف التجارية ، لا شك أن ذلك كان له الأثر في توسيع افقه ومداركه ومعرفته بعوالم جديدة غير عالم الوظيفة ، مما اكسبه تجارب وخبرات ومعارف جديدة .
3
كان عرفات قارئا نهما يقضي لياليه يقرأ ويكتب ، كما كان يعرج الي اصحابه يتجاذب معهم أطراف الحديث ، وقراءة الشعر ، وقد كانت له مساهماته المتميزة في تلك المجالس.
عرفات من المؤسسين لجمعية اللواء الأبيض ، ومن قادة ثورة 1924 ، وكان مع عبيد حاج الأمين وغيرهما بمثابة الراس المفكر واليد المحركة ، وهو الذي نشر نداء الثورة باللغة الانجليزية على صفحات التايمز ، ونشرت الأهرام ترجمته ، وذلك في وقت كان كتاب اللغة الانجليزية لا وجود لهم في السودان ، ولكن عرفات كان سباقا في كل حلبة كما ذكر محمد أحمد المحجوب.
وعندما طلبت منه قيادة اللواء الأبيض السفر الي مصر لم يتردد وضحى بعائلته ووظيفته ، فقد كانت له زوجة وطفلين ، وفي مصر كان شعلةً من النشاط، وامتزج بالأوساط المصرية، وقدموا له بعض الوظائف الا أنه رفضها وهو يقول : " ما جئت الي مصر طالب مال ولا باحثا عن عمل ، ولكن جئت أعرض مطالب شعب وأدافع عن قضية أمة".
4
بعد مقتل السير لي استاك وهزيمة ثورة 1924 اُعتقل فزج مع صحبه من السودانيين في السجن وظل سبعة أشهر ، وكان فيها مثالا للثبات والصبر والنزاهة ، الثبات أمام القضاء والصبر علي مغص السجن والنزاهة في الرد علي ما يوجه اليه من اسئلة.
بعد خروجه من السجن ضاقت به الحياة مع صحبه من السودانيين ، ونزل الي ميدان العمل الحر ، وفتح حانوتا للبقالة يرتزق منه هو وابناؤه الطلبه الذين ذهبوا الي مصر طلبا للعلم ، وبعدها نزح الي سينا واتصل بشركة التعدين الانجليزية وظل يعمل فيها زهاء العام ، انفصل بعده من الشركة حسب رغبته ، ويروى محمد أحمد المحجوب قصة طريفة حول ذلك يقول: " وهناك له قصة طريفة مع مدير الشركة من الخير أن نرويها وذلك انه قدم استقالته ، واعطى الشركة انذارشهر حسب شروط العقد الذي بينهما وظل في العمل نشطا مخلصا كما كان من قبل ، وقد داخل المدير الريب وظن أن هذه الاستقالة مناورة يطلب من ورائها المزيد فقال له ذات يوم هل أنت مجد في استقالتك يا عرفات ، فأجابه بأن نعم ، فقال له: ولكني اراك نشطا مجدا في العمل كأنك اتصلت بالشركة أمس الأول ، فقال له ولكنى أعمل بنشاط لأني اتقاضي مرتبي عن هذه المدة ، فأسف المدير ، وعلم في تلك اللحظة أنه فقد رجلا ذا شعور عظيم بالواجب".
من سينا ذهب عرفات الي جدة واتصل بشركة القناعة العربية والسيارات ، وكان في اوقات فراغه يعطي دروسا في اللغة الانجليزية والعربية لبعض الراغبين في الاستزادة من العلم ، وجمع حوله جماعة من الصحاب السودانيين والمصريين والجداوين .
5
وبعدها قرر عرفات العودة للوطن ليعمل من داخله ، لأنه من الذين يؤمنون بأن الرجل لا يستطيع خدمة بلاده وهو خارج الحدود وأن الصوت الذي يأتي من خارج الحدود يأتي خافتا ، وبعد خمسه أعوام ونيف عاد بعدها للبلاد ، وقد اكتسب تجارب عظيمة وازداد معرفة بالأيام والناس.
كتب محمد أحمد المحجوب " قليل من الناس من يعرفون كيف عاد عرفات الي الحمى الا فليسمعوا كيف عاد ، كتب عرفات من جدة الي استاذه المستر هللسون وكان آنذاك مساعدا للسكرتير الإداري في الشؤون الأهلية طالبا منه أن يسهل له سبيل العودة الي بلاده ليعمل مع العاملين علي رفعتها ، وقد مهد له استاذه سبيل العودة على أن يأخذ علي نفسه تعهدا للمحافظة على الأمن لمدة عامين ، واذا أخل بذلك دفع خمسمائة من الجنيهات ، ولعل السر الذي لا نعرفه هو الرسالة التى بعث بها للسكرتير الإداري يطلب العودة الي بلاده فما كان مستجديا ولا متملقا ، ولكنه كان صريحا حرا ، واليك ترجمة هذه الفقرة من تلك الرسالة " ليس بدعا أن يطلب الرجل العودة الى بلاده، وعلى الأخص عندما يرى أمانيه وآماله تحطمت أمامه ، لقد اشتركت ضمن فيمن اشترك في حركة سنة 1924 تدفعنى الي ذلك وطنيتي ولما أن فشلت في مهمتي اريد العودة اليوم الى بلادى ، ولا اقطع على نفسي عهدا بأنني إذا دعتنى ظروف الخدمة العامة في بلادي سأحجم عن ذلك".
هكذا عاد الى الوطن ليواصل العمل و الكفاح من الداخل وفي مجالات متعددة ومتنوعة .
6
بعد عودته للوطن وجد وظيفة غير حكومية ، وارتبط بالأعمال الخيرية والاصلاحية ، فقام مثلا باخراج وتمثيل عدة روايات لمساعدة نادى الخريجين ، كما أسهم في اقامة السوق الخيرى الأول لمساعدة ملجأ القرش ، ومثل في رواية "اوليس" لمساعدة المدرسة الأهلية والأحفاد والملجأ ، وكان هدفه هو تقديم الخدمة للوطن من خلال ذلك.
وكان في أيامه الأولى موضوعا تحت رقابة شديدة ، وكان الناس يهابونه ويتوجسون التقرب منه خوفا من الرقابة ، وكان يبتسم ابتسامته العريضة الساخرة ويقول " ياللرجال قد عمل الاضطهاد في نفوسهم ، فأصبحوا يخافون حتى من أنفسهم ، وهذا شر ما انجبته سلطات الاستعمار"
كان عرفات يؤمن بأن الصحافة أداة لخدمة الأمة من الناحيتين الثقافية والاجتماعية ، وعندما عاد الى أرض الوطن كان يحس بالنقص الفاضح في الصحافة السودانية ، ولم يتردد حينما دعاه محمد عباس ابو الريش بواسطة محمد أحمد المحجوب لاصدار مجلة "النهضة "، وكان مواظبا على العمل في خدمة الصحيفة في أقسامها المختلفة : التحرير ، الإدارة، وكان من أكثر الناس حزنا عليها يوم ماتت بموت صاحبها محمد عباس ابو الريش.
وبعدها ساهم في اصدار مجلة "الفجر"، فكان ربانها وقائدها الحكيم ، ولعت مجلة الفجر دورا كبيرا في الحياة الثقافية والاجتماعية والوطنية ، وكان عرفات لا يعبأ لتحذير الأمن العام ولا يخشى تهديده ، وكان يقابل التحذير والتهديد بصدر رحب وابتسامة صفراء ، ويمضى في عمله غير عابئ بالتحذير ولا بالتهديد ، ولسان حاله يقول " ستعودهم الحرية حتى يألفوها وسنطالبهم بالحقوق حتى يقروها وسنريهم مقدرتنا على القيام بالواجب في غير ما ضوضاء حتى يكبروننا ( المحجوب).
نواصل
alsirbabo@yahoo.co.uk
////////////////////