من بوتن إلى أردوغان ( 2 ــ2 ) .. كيف السبيل إلى تهدئة المراجعين .. عودة الجغرافيا السياسية إلى أوروبا .. تقديم وترجمة: فادية فضة وحامد فضل الله / برلين
د. حامد فضل الله
6 February, 2023
6 February, 2023
هيرفريد مونكلر Herfried Münkler
إلى مجموعة عابدين وحامد بشري " وغياب الحكماء وغياب الحلّ في النزاع الأوكرانيّ الروسيّ، وبوتين صناعة أمريكية".
تقديم وترجمة: فادية فضة وحامد فضل الله \ برلين
استراتيجية الحلّ الثانية: التهدئة من خلال الاسترضاء
الخيار الثاني لإشراك مراجع فاعل هو الاسترضاء. عند القيام بذلك، يلتقي المرء بالمراجع ويسأله عما يريد تغييره، ويبدأ بالتنازل من أجل يفسح المجال لتحقيق تنازل المراجع أيضاً. ولكن الآن، وبسبب اتفاقية ميونيخ، لا يتمتع الاسترضاء بسمعة طيبة. ولكن حتى بعد عام 1938 لم يخرج الاسترضاء عن نطاق الاستخدام. تستند اتفاقيات كامب ديفيد، معاهدة السلام لعام 1978 بين إسرائيل ومصر، على مثل هذا الاسترضاء "نحن الإسرائيليون نعيد ، لكم سيناء وتوقعون اتفاقية السلام في المقابل". كان شعار "الأرض مقابل السلام"، الذي كان من المفترض أن يؤسس سلاماً بين إسرائيل والفلسطينيين أيضاً، والذي لم ينجح في النهاية. وتم تضمين الاسترضاء في اتفاقية مينسك أيضاً: نحن، فرنسا وألمانيا، المنخرطون في الاتحاد الأوروبي، لا نعترف بضمّ شبه جزيرة القرم بموجب القانون الدولي، لكننا لا نعالج المشكلة المتمثلة – في ضمان تهدئة روسيا للمناطق الانفصالية في دونباس، حتى تصبح منطقة صراع متجمّدة. لكن ذلك لم يكن
كافياً لبوتين. على العكس من ذلك، كما ثبت بحلول 24 فبراير 2022، فقد جعله ذلك أكثر جوعاً، بدلاً من تهدئته كما هو الحال في ميونيخ 1938.
هذا هو دائما خطر سياسة الاسترضاء. لكن يمكنك قلب الصفحة أيضاً واكتشاف ما يلي: ما فاز به تشامبرلين على هتلر في ميونيخ عام 1938، قبل كلّ شيء هو الوقت، وخلال هذه الفترة بدأ إنتاج الطائرات المقاتلة (Spitfires) في إنجلترا. من دون تلك الطائرات المقاتلة التي تمّ بناؤها منذ ذلك الحين، لم تكن للبريطانيين المقدرة للانتصار في المعركة الجوية فوق إنجلترا في عام 1940.
بطريقة ما، اشترت اتفاقية مينسك الوقت لأوكرانيا، واستخدمته أيضاً. والعمل الأكثر احترافاً للجيش الأوكراني منذ ذلك الحين، من نوع القيادة والاستخدام التكتيكي لأنظمة الأسلحة الإلكترونية إلى ردّ الفعل المرن، هو نتيجة تدريبهم من قبل شركات الأمن الأمريكية من 2014 إلى 2022. لأنّه بعد بداية الحرب، وقبل كلّ شيء، لم يكن الأمر يتعلّق بالأسلحة الثقيلة التي تم تسليمها أم لا، ولكن بمسألة استخدام المركبات التي يتم التحكم فيها إلكترونياً. على هذا الأساس - من خلال كسب الوقت نتيجة التهدئة - انتصر الأوكرانيون في معركة كييف في المرحلة الأولى من الحرب.
استراتيجية الحل الثالثة: التهدئة من خلال التخويف
الشكل الثالث للتعامل مع الفاعل المراجع هو الردع، أي التخويف من خلال بناء قدراتك العسكرية الخاصّة. حتى يتضح الأمر للمراجع: إذا حاولت تحقيق أهدافك في شكل حرب، فستخسر في أحسن الأحوال، أكثر مما يمكنك الفوز به. خلف هذا يقف المنطق: من الأفضل إبقاء يديك بعيداً، فلن يفيدك ذلك.
لكن هذا مُكلف للغاية، حتى بالنسبة لأولئك الذين ينتهجون سياسة الردع هذه. لأنه بينما يستفيدون هم أنفسهم من مبدأ نقل الثروة، على سبيل المثال من خلال التكامل الاقتصادي للدورتين الاقتصادية الروسية والأوروبية، فإن تطوير القدرات المقابلة لأغراض الردع مكلف للغاية. والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي يحصل عليه المرء بالفعل. لا يتصرّف المراجع في البداية بطريقة مراجعاً، حيث يظلّ هادئاً. كما أن إعادة التسلح، من ناحية أخرى، سوف تقضي على إمكانية استهلاك مكاسب السلام التي نشأت بهذه الطريقة. وبالتالي، لا سيما في الديمقراطيات، هناك ميلٌ ضئيلٌ للاستثمار في الردع.
يفكّر المرء فقط، في الجدل الدائر منذ سنوات حول ما إذا كان ينبغي بالفعل استثمار 2٪ من الناتج المحليّ الإجمالي في الجيش. تمثّل نسبة الاثنان في المائة قيداً كبيراً على خيارات الدولة. أو بعبارة أخرى: لقد اعتدنا منذُ فترةٍ طويلةٍ على حقيقة أنّ الميزانية الاجتماعية أعلى بكثير من الميزانية العسكرية، بينما كان العكس تماماً في أيام دراستي. ويترتب على ذلك: طالما أن المُراجِع لم يُظهر نفسه بعد على أنه مراجع حقاً ويتصرف وفقاً لذلك، فمن الصعب للغاية على الديمقراطيين الاعتماد على الردع. خطاب المستشار أولف شولتز في خطاب نقطة التحول، هو ردّ فعل لما أصبح واضحاً في 24 فبراير 2022 .
لقد فشلت محاولة إشراك بوتين في القوّة الاقتصاديّة ولم ينجح الاسترضاء. لذلك علينا التغيير الجذري وإنفاق 100 مليار وأكثر على البوندسفير (الجيش الألماني).
لكن هذا سيبقينا مشغولين لفترة طويلة، فله عواقب وخيمة على ألمانيا وأوروبا ككل: سيكونون قد تجاوزوا ذروة ازدهارهم لعقود، ليس فقط بسبب فصل الدورتين الاقتصادية الروسية والأوروبية فحسب، ولكن بسبب شرط إشراك المراجعين، بأنّ الحلين الرخيصين: التكامل الاقتصادي والاسترضاء، لم يعد قابلاً للتطبيق أيضاً، وعلينا اللجوء الى الحلول العسكرية الأكثر تكلفة - إما للردع أو حتى، لحرب ساخنة كما هو الحال في الوقت الحاضر.
تتمثل المشكلة الأكبر التي تواجه عام 2023 في كيفية جعل فاعلين أثنين يتفاوضان مع بعضهما البعض بينما يكون لكلّ منهما أهداف يسعيان لتحقيقها بالوسائل العسكرية وقد قدما بالفعل تضحيات كبيرة من أجلها. مع وجود مساحة أكبر قليلاً، يمكن مناقشة هذا باستخدام كلاسيكية كلاوزفيتز الكلاسيكية "من الحرب" (Vom Kriege) على غرار تمييزه بين الغرض من الحرب وأهداف الحرب. الهدف يعني ما نريد تحقيقه "بالحرب". والأهداف تصف ما نريد تحقيقه "في الحرب". من هذا يمكن للمرء أن يرى أن المعتدي، أي روسيا، كان لديه في البداية أهداف بعيدة المدى بينما كان يسعى لتحقيق هدف مركزي، ألا وهو القضاء على أوكرانيا كفاعل سياسي مستقل. من أجل جلب هذا المهاجم إلى طاولة المفاوضات، عليك أن تجعله يفهم أنه لا يستطيع تحقيق أهدافه، أو أن تحقيق هذه الأهداف سيكون مكلفاً للغاية وكارثياً لدرجة أنه قد ينهار كلاعب سياسي. لكن هذا يرقى إلى تعزيز قوّة أوكرانيا في البقاء، سواء كان ذلك عن طريق توريد الأسلحة أو، والأمر الذي لا يقلّ أهمية في النهاية، عن طريق ضمان القدرة المالية للدولة الأوكرانية.
كيف ينجح السلام التفاوضي ؟
عانى الجيش الروسي في غضون ذلك، من بعض الهزائم الخطيرة، لا سيما استعادة خيرسون، لذلك يمكن للمرء أن يفترض أن الروس سيكونون في الواقع مستعدين للتفاوض – مهما كان الأساس. ولكن كيف يمكن إقناع أوكرانيا بالتفاوض من جانبها، بينما تم أخذ جزء من البلاد منها، وهي في هذه الأثناء كانت تعمل بنجاح كبير وتستعيد الأرض كجزء من الهجوم المُضاد؟ لذا فإن السؤال هو: ما هي المساحة التي يجب استعادتها - من وجهة نظرنا كمراقبين لما يحدث، ولكن كداعمين لأوكرانيا أيضاً - حتى يتمكن القادة السياسيون في أوكرانيا من بدء المفاوضات؟ يبدو أن الألمان والفرنسيين يعتمدون على استعادة الوضع الراهن في 23 شباط/فبراير 2022. لذلك لا تشمل شبه جزيرة القرم أو المناطق الصغيرة من دونيتسك وليهانسك في استعادة الوضع الراهن. يختلف الموقف البريطاني قليلاً: فهو يهدف إلى إعادة أوكرانيا إلى الحدود التي نشأت فيها عام 1991. يتعلّق هذا بمذكرة بودابست لعام 1994: في هذه المذكرة، ضمنت أوكرانيا سلامة حدودها عن طريق نقل الأسلحة النووية التي تراكمت لديها إلى روسيا مع انهيار الاتحاد السوفيتي. ولقد وقع عليها الأمريكيون والبريطانيون وكذلك الروس والأوكرانيون. لكن نظراً لأن البريطانيين لم يفعلوا أيّ شيء جديّ عندما تمّ انتهاك المذكرة على نطاق واسع بضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، فإنهم على الأقل يتخذون اليوم موقفاً مختلفاً قليلاً وأكثر صرامة عن موقف الفرنسيين والألمان.
من ناحية أخرى، يبدو أنّ لدى الأمريكيين فكرة مختلفة تماماً، وهي فكرة حرب طويلة الأمد ضد ّروسيا بهدف استنزاف عمق الخدمات اللوجستية الروسية، والأهم من ذلك، لاستهلاك اتساع نطاق ضباطهم وبالتالي التأكد من أن الروس لن يكونوا قادرين على خوض حربٍ بهذا الحجم لمدة 15 إلى 20 عاماً القادمة. أدلى وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بتصريحات واضحة في هذا الاتجاه، كما أنّ بعض تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلينكين توحي بهذا التقييم.
فهل يعني ذلك أنه لن تكون هناك مفاوضات على الإطلاق في المستقبل المنظور؟ هذا لم يتقرر بعد. لكن ربما ليس الأمر بهذا السوء إذا كانت روسيا تعلم أنّ هذه هي الأهداف الأمريكية، لأن ذلك يزيد من احتمالية مواءمتها مع الأهداف الألمانية والفرنسية. لأنه إذا كان السادة في الكرملين لا يزال لديهم أي نوع من العقلانية الحسابية، فإنهم يدركون أنّ الحرب التي لا نهاية لها، ستؤدي إلى تطور سيكون كارثياً بالنسبة لهم. يجب عليهم إنهاء هذه الحرب قريباً، وإلا سيفقدون عمق لوجستياتهم وعمق قوتهم البشرية العسكرية.
لا يزال من الصعب القول كيف سينتهي الصراع في نهاية المطاف. لكن هناك أمر واحد واضح: لن تشارك كييف في مفاوضات السلام أو المفاوضات بشأن وقف إطلاق نارٍ مستقر إلاّ إذا أعطى الأوروبيون أوكرانيا ضمانات أمنية شاملة. يحتاج أصدقاء السلام الذين يطالبون بصوت عالٍ بـ "مفاوضات الآن!" إلى معرفة ذلك. إن إعطاء ضمانات أمنية يعني أنّه في المرة القادمة التي يهاجم فيها الروس- أو حتى الأوكرانيون- سيكون الأوروبيون أنفسهم طرفًا في الحرب.
العواقب على النظام العالمي
أخيراً، يجب فحص السؤال المتعلق بالنتائج العالمية التي يمكن أن تنبثق مما لوحظ بإيجاز. يُقال غالباً، إن كل هذا ما هو إلاّ مُجرد مشكلة أوروبية، وأن هناك العديد من المشكلات الأخرى في العالم، مثل تغير المناخ وانقراض الأنواع، والتي تعتبر أكثر أهمية من الناحية العالمية. لكن هنا خطأ في تقدير أبعاد الأحداث. لأنّ مفهوم خلق السلام باستخدام عدد أقل وأقل من الأسلحة، أي على أساس الترابط الاقتصادي المتبادل كأداة للتهدئة، لم يفشل فيما يتعلق بروسيا فحسب، بل في نفس الوقت انتهى الحلم بفرض نظام عالمي سلمي أوسع إلى حدّ كبير حيث يتم استبدال الحرب بمحاكم التحكيم. وهذا ينطبق على التهديد بفرض عقوبات اقتصادية أيضاً، والتي تعد بديلاً للحرب.
هذا المفهوم قد فشل على الصعيد العالمي. ربما ليس في 23 أو 24 شباط/فبراير 2022، ولكن ربما بالفعل مع الانسحاب من أفغانستان وما يرتبط به من التخلي عن مفهوم التحول الذي أصبح مكلفاً للغاية بالنسبة للغرب على المدى الطويل.
فشلت استراتيجية تهدئة التحول من خلال نقل الثروة في العالم الاِسلامي، لأن عقلية جزء كبير من السكان كانت محكومة بالدين. كان هذا ولا يزال الوظيفة السياسية للإسلام، لوضع قيم أخرى غير زيادة الرخاء. لقد أخر الدين المفهوم العالمي الشامل للغرب ليصح فعالاً. وأصبح في النهاية مكلفاً ومرهقاً للغاية؛ وكان الأوصياء، على سبيل المثال: وفوق كل شيء الولايات المتحدة غارقين. وإذا ألقينا نظرة فاحصة، فأن صيغة دونالد ترامب أمريكا أولاً، كانت بالفعل انصراف الولايات المتحدة عن دور الحارس لهذا النظام العالمي.
نظرة إلى المستقبل: خمس قوى عظمى تهيمن على العالم
لم يكن في الأصل، يُعتقد أبداً بأن الولايات المتحدة يجب أن تتولى هذا الدور، بل الأمم المتحدة. لكن الأمم المتحدة لا تتمتع بالقوة إلا بقدر استعداد دولها الأعضاء لإتاحة الفرصة لقدرات الأمين العام. وكان هذا الاستعداد منذ البداية محدوداً للغاية. ليس لدى الأمين العام للأمم المتحدة، حتى يومنا هذا، قوات احتياطية تحت تصرفه، يمكن استخدامها بشكل مستقل في حالة حدوث أزمة - كما هو منصوص عليه بالفعل في ميثاق الأمم المتحدة - ولكن يجب عليه أن يعتمد على الولايات المتحدة أو الجيوش ذات الحجم الكبير التي لا تتمتع بقوة قتالية حقيقية بتزويده بالقوات مع الخوذات مطلية باللون الأزرق، وفي قصورها تزيد من المشكلة بدلاً من حلها.
ونظراً لعدم وجود وصي على النظام العالمي اليوم، فلن يكون من الممكن فرض نظام عالمي موجه بشكل معياري أيضاً، فالنظام يعتمد على مثل هذا الوصي. البديل هو العودة إلى النماذج شبه الفيزيائية، أي التوازن وزيادة الوزن وما إلى ذلك.
لعلنا نقدم في هذه المرحلة، تنبؤ (تكهن) ختامي: من المرجح أن يتم تحديد النظام العالمي الجديد من قبل خمسة فاعلين. في تاريخ الأنظمة الدولية "خمسة" هو الرقم الذي يظهر دائماً عندما لا يتعلق الأمر بالترتيب أحادي القطب أو ثنائي القطب، وإنما الحديث حول نظام عالمي متعددة الأقطاب. مارس الإيطاليون هذا لأول مرة خلال القرن الخامس عشر في صلح لودي، وخمسة فعلوا ذلك في النظام الوستفالي بعد سلام مونستر وأوسنابروك أيضاً: الإمبراطور في فيينا وإسبانيا وفرنسا وإنجلترا، بالإضافة إلى السويد كقوى عسكرية كبرى. ولكن مع معركة بولتافا عام 1709، عندما هزم بطرس الأكبر الملك تشارلز الثاني عشر ملك السويد، والتي صعدت معها روسيا لتصبح قوة عظمى، انتهى تاريخ السويد كقوة أوروبية كبرى. حلت مكانها بروسيا، التي تم تنظيمها بطريقة مشابهة للسويد: لم تكن قوية اقتصادياً، ولكنها قوية بشكل خاص عسكرياً وكانت مشغولة بقضايا ومناطق مختلفة، خاصة في أمريكا اللاتينية، ولم تعد ترغب في لعب دور في السياسة الأوروبية. حلت محلها روسيا.
لذلك كان هناك خمسة لاعبين كبار مرة أخرى. وهكذا كان هناك دائماً خمسة أعضاء، تماماً كما هو الحال اليوم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بين الأعضاء الدائمين. وهم حريصون للغاية على عدم وجود المزيد، لأن ذلك سيضعف موقفهم من الفيتو.
من سيكون الخمسة الكبار؟
ولكن من سيكون الخمسة الكبار في النظام العالمي الجديد الناشئ؟ يكاد يكون من المؤكد أن الولايات المتحدة والصين على نفس المستوى. وهذا يعني أننا يجب أن نبتعد بسرعة عن فكرة أن العصر الأمريكي قد انتهى وأن عصر الصين قد بدأ. لن يكون هناك تسليم عصا السباق، كما حدث في الماضي من لندن إلى واشنطن أو نيويورك. ستشترك الولايات المتحدة والصين في موقع القوة الأولى. بجانبها، بصفتها شريكاً صغيراً للصينيين، من المفترض أن تكون روسيا. ليس بسبب قوتها الاقتصادية، ولكن لأن روسيا تمتلك أكثر من 50 في المائة من الأسلحة النووية في العالم. وكذلك أنظمة الناقل الضرورية. أيضا بسبب موقعها الجغرافي السياسي أيضاً، أي الجسر البري لشمال آسيا.
يمكن أن يكون الأوروبيين جزءاً منها أيضاً، كشركاء صغار للولايات المتحدة الأمريكية، يعتمدون على المظلة النووية الأمريكية، أو حتى بشكل مستقل إذا كان لديهم المكون النووي الخاص بهم. ومع ذلك، لا يمكن التعرف على هذا في الوقت الحالي. لكنه سيكون سؤالاً مثيراً بالفعل: هل سيبني الأوروبيون مكونهم النووي بحيث لا يعودوا "خاليْ الوفاض "فارغين" عندما يقوم آخرون، مثل بوتين الآن، بإدخال هيمنة التصعيد النووي؟ أم سيتركونها؟ هذه قضية متفجرة مستمرة، لا سيما في ضوء احتمال رئاسة دونالد ترامب أو رون ديسانتيس واحتمال فصل الولايات المتحدة عن أوروبا.
وفوق كل ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان الأوروبيون سينجحون في التحول، من مجرد مدراء حكم إلى لاعب فاعل سياسياً جيوستراتيجياً؟ يمكن للمرء أن يقول إن لجنة فون دير لاين تتخذ الخطوات الأولى في هذا الاتجاه. لكن هذا صعب للغاية. وربما ستنجح على أي حال فقط، إذا كانت هناك مجموعة أخرى من الفاعلين في السياسة الخارجية داخل الاتحاد الأوروبي، وهي عبارة عن أحد الدوائر التي ما زالت ناقصة. برلين، باريس، مدريد، وارسو، وربما روما أيضاً. وعدد قليل من الآخرين. ربما سيكون بعد ذلك فاعلاً قادراً على العمل ولن يتم حظره من قبل لاعب الفيتو أو قاعدة الإجماع.
حافز الأوروبيين للانخراط هو إعادة هيكلة النظام العالمي، وبالتحديد السؤال: هل تلعب أوروبا دوراً في هذا أم لا؟ إذا لم يدير الأوروبيون هذا التحول، فإن أوروبا لا تهم، إنها مجرد كائن - وليس موضوعاً للتطور. ثم تدخل قوة أخرى بدل أوروبا في نظام الخمسة.
ستلعب الهند وهي الخامسة من الخمسة الكبار، دور "قالب للموازين" وهو ما تقوم به بالفعل. فمن ناحية، تروج نفسها باعتبارها أكبر ديمقراطية في العالم، أو على الأقل من حيث العدد. لكن من ناحية أخرى، هي خلف ذلك الوجه القبيح للقومية الهندوسية. وفي الوقت نفسه، لا تؤيد الهند العقوبات ضد بوتين، لكنها منفتحة على جميع الأطراف. يتم تنظيم هذه الدول الخمس الكبرى بدورها: من ناحية الدول الدستورية الليبرالية، أوروبا والولايات المتحدة، ومن ناحية أخرى الأنظمة الاستبدادية، السلطوية الاستبدادية في روسيا، والسلطوية التكنوقراطية في الصين. حتى في العلاقة ذات الاتجاهين، هناك أزمة عرضية، ولن تكون صداقة خالصة - لا بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ولا بين الصين وروسيا.
ضمن هذا النظام العالمي الجديد، مهام البشرية - تغير المناخ، انقراض الأنواع، الجوع في الجنوب العالمي، الهجرة – سيتم تنحيتها وتصبح ورقة المساومة لهؤلاء الخمسة. تماماً مثلما فعل الصينيون لفترة طويلة، على سبيل المثال في مؤتمر المناخ في شرم الشيخ في مصر في نوفمبر 2022: نعم، نحن نزيد من استعدادنا لمواكبة قضايا سياسة المناخ، ولكن فقط بشرط أن ترفع العقوبات عنا وتستمرون في تصنيفنا كدولة نامية. إذا كان الأمر مهما بالنسبة لكم، فعليكم أن تقدموا شيئاً مقابل ذلك، وهذا ما تبدو عليه ألعاب التفاوض. لذلك هذا لا يعني بالضرورة أن حماية البيئة أو تغير المناخ ستكون أسوأ حالاً. هذا يعني فقط أن الجهات الفاعلة تتحول والمنظمات غير الحكومية التي هيمنت حتى الآن تهبط إلى المستوى الثاني.
على الصف الثاني يتوقف الأمر
وفي كل هذا فإن "الصف الثاني" سيصبح مهمًا بشكل متزايد - وهو موضوع عمل عليه عالم السياسة الهندي الأمريكي باراغ خانا. يشمل سؤال المستوى الثاني كل أولئك الذين ليسوا في الخمسة الكبار: أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، وأجزاء من آسيا. مع من يذهب الصف الثاني؟ هذا سؤال حاسم للمستقبل. دعا المستشار أولف شولتز عمداً رؤساء دول وحكومات الهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا والأرجنتين إلى اجتماع G7 في إلماو في حزيران /يونيو 2022 ، من أجل تقريبهم من الغرب. ثم رد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف على ذلك في الأمم المتحدة في نيويورك وقال إنه من الطبيعي أن يضمن الروس الحماية لجميع الدول الممكنة. لكن في قمّة مجموعة العشرين في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، لعب موقف إندونيسيا المضيفة دوراً مهماً للغاية في إدانة روسيا في القرار النهائي. الصف الثاني، بتفضيلاته الغامضة وغير المحددة جيداً، هو العنصر المضطرب داخل هذا النظام المكون من خمسة - مع التشكيل الذي يتكون من اثنين إلى اثنين والهند تقلب الموازين. مع من تذهب البرازيل في المستقبل؟ مع من يذهب الأفارقة؟ مع من تسير جمهوريات آسيا الوسطى؟ وبالطبع ستعود مسألة مناطق النفوذ مرة أخرى. أو بعبارة أدق: لقد عادت منذ فترة طويلة، على سبيل المثال في استراتيجية طريق الحرير، التي أوجدت بها الصين مناطق نفوذ كبيرة. لا تستطيع روسيا أن تفعل ذلك لأنها لا تملك المال الكافي. عليها دائما أن تلجأ إلى الوسائل العسكرية. تعتبر حرب أوكرانيا في هذا الصدد، وسيلة لتأمين مناطق النفوذ أيضاً. وهذا شيء سيفعله الآخرون في النهاية أيضاً. كل هذا ليس ممتعاً للغاية. لكن من الضروري أن نستعد الآن لما يمكن أن نتوقعه في المستقبل. أولئك الذين لا يفعلون هذا سيصبحون بأي حال هم الخاسرون من التغييرات التي تحدث الآن.
- Herfried Münkler, von Putin bis Erdogan: Wie pazifiziert man die Revisionisten?
Die Rückkehr der Geopolitik nach Europa, Blätter für deutsche und internationale Politik1‘23
hamidfadlalla1936@gmail.com
إلى مجموعة عابدين وحامد بشري " وغياب الحكماء وغياب الحلّ في النزاع الأوكرانيّ الروسيّ، وبوتين صناعة أمريكية".
تقديم وترجمة: فادية فضة وحامد فضل الله \ برلين
استراتيجية الحلّ الثانية: التهدئة من خلال الاسترضاء
الخيار الثاني لإشراك مراجع فاعل هو الاسترضاء. عند القيام بذلك، يلتقي المرء بالمراجع ويسأله عما يريد تغييره، ويبدأ بالتنازل من أجل يفسح المجال لتحقيق تنازل المراجع أيضاً. ولكن الآن، وبسبب اتفاقية ميونيخ، لا يتمتع الاسترضاء بسمعة طيبة. ولكن حتى بعد عام 1938 لم يخرج الاسترضاء عن نطاق الاستخدام. تستند اتفاقيات كامب ديفيد، معاهدة السلام لعام 1978 بين إسرائيل ومصر، على مثل هذا الاسترضاء "نحن الإسرائيليون نعيد ، لكم سيناء وتوقعون اتفاقية السلام في المقابل". كان شعار "الأرض مقابل السلام"، الذي كان من المفترض أن يؤسس سلاماً بين إسرائيل والفلسطينيين أيضاً، والذي لم ينجح في النهاية. وتم تضمين الاسترضاء في اتفاقية مينسك أيضاً: نحن، فرنسا وألمانيا، المنخرطون في الاتحاد الأوروبي، لا نعترف بضمّ شبه جزيرة القرم بموجب القانون الدولي، لكننا لا نعالج المشكلة المتمثلة – في ضمان تهدئة روسيا للمناطق الانفصالية في دونباس، حتى تصبح منطقة صراع متجمّدة. لكن ذلك لم يكن
كافياً لبوتين. على العكس من ذلك، كما ثبت بحلول 24 فبراير 2022، فقد جعله ذلك أكثر جوعاً، بدلاً من تهدئته كما هو الحال في ميونيخ 1938.
هذا هو دائما خطر سياسة الاسترضاء. لكن يمكنك قلب الصفحة أيضاً واكتشاف ما يلي: ما فاز به تشامبرلين على هتلر في ميونيخ عام 1938، قبل كلّ شيء هو الوقت، وخلال هذه الفترة بدأ إنتاج الطائرات المقاتلة (Spitfires) في إنجلترا. من دون تلك الطائرات المقاتلة التي تمّ بناؤها منذ ذلك الحين، لم تكن للبريطانيين المقدرة للانتصار في المعركة الجوية فوق إنجلترا في عام 1940.
بطريقة ما، اشترت اتفاقية مينسك الوقت لأوكرانيا، واستخدمته أيضاً. والعمل الأكثر احترافاً للجيش الأوكراني منذ ذلك الحين، من نوع القيادة والاستخدام التكتيكي لأنظمة الأسلحة الإلكترونية إلى ردّ الفعل المرن، هو نتيجة تدريبهم من قبل شركات الأمن الأمريكية من 2014 إلى 2022. لأنّه بعد بداية الحرب، وقبل كلّ شيء، لم يكن الأمر يتعلّق بالأسلحة الثقيلة التي تم تسليمها أم لا، ولكن بمسألة استخدام المركبات التي يتم التحكم فيها إلكترونياً. على هذا الأساس - من خلال كسب الوقت نتيجة التهدئة - انتصر الأوكرانيون في معركة كييف في المرحلة الأولى من الحرب.
استراتيجية الحل الثالثة: التهدئة من خلال التخويف
الشكل الثالث للتعامل مع الفاعل المراجع هو الردع، أي التخويف من خلال بناء قدراتك العسكرية الخاصّة. حتى يتضح الأمر للمراجع: إذا حاولت تحقيق أهدافك في شكل حرب، فستخسر في أحسن الأحوال، أكثر مما يمكنك الفوز به. خلف هذا يقف المنطق: من الأفضل إبقاء يديك بعيداً، فلن يفيدك ذلك.
لكن هذا مُكلف للغاية، حتى بالنسبة لأولئك الذين ينتهجون سياسة الردع هذه. لأنه بينما يستفيدون هم أنفسهم من مبدأ نقل الثروة، على سبيل المثال من خلال التكامل الاقتصادي للدورتين الاقتصادية الروسية والأوروبية، فإن تطوير القدرات المقابلة لأغراض الردع مكلف للغاية. والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي يحصل عليه المرء بالفعل. لا يتصرّف المراجع في البداية بطريقة مراجعاً، حيث يظلّ هادئاً. كما أن إعادة التسلح، من ناحية أخرى، سوف تقضي على إمكانية استهلاك مكاسب السلام التي نشأت بهذه الطريقة. وبالتالي، لا سيما في الديمقراطيات، هناك ميلٌ ضئيلٌ للاستثمار في الردع.
يفكّر المرء فقط، في الجدل الدائر منذ سنوات حول ما إذا كان ينبغي بالفعل استثمار 2٪ من الناتج المحليّ الإجمالي في الجيش. تمثّل نسبة الاثنان في المائة قيداً كبيراً على خيارات الدولة. أو بعبارة أخرى: لقد اعتدنا منذُ فترةٍ طويلةٍ على حقيقة أنّ الميزانية الاجتماعية أعلى بكثير من الميزانية العسكرية، بينما كان العكس تماماً في أيام دراستي. ويترتب على ذلك: طالما أن المُراجِع لم يُظهر نفسه بعد على أنه مراجع حقاً ويتصرف وفقاً لذلك، فمن الصعب للغاية على الديمقراطيين الاعتماد على الردع. خطاب المستشار أولف شولتز في خطاب نقطة التحول، هو ردّ فعل لما أصبح واضحاً في 24 فبراير 2022 .
لقد فشلت محاولة إشراك بوتين في القوّة الاقتصاديّة ولم ينجح الاسترضاء. لذلك علينا التغيير الجذري وإنفاق 100 مليار وأكثر على البوندسفير (الجيش الألماني).
لكن هذا سيبقينا مشغولين لفترة طويلة، فله عواقب وخيمة على ألمانيا وأوروبا ككل: سيكونون قد تجاوزوا ذروة ازدهارهم لعقود، ليس فقط بسبب فصل الدورتين الاقتصادية الروسية والأوروبية فحسب، ولكن بسبب شرط إشراك المراجعين، بأنّ الحلين الرخيصين: التكامل الاقتصادي والاسترضاء، لم يعد قابلاً للتطبيق أيضاً، وعلينا اللجوء الى الحلول العسكرية الأكثر تكلفة - إما للردع أو حتى، لحرب ساخنة كما هو الحال في الوقت الحاضر.
تتمثل المشكلة الأكبر التي تواجه عام 2023 في كيفية جعل فاعلين أثنين يتفاوضان مع بعضهما البعض بينما يكون لكلّ منهما أهداف يسعيان لتحقيقها بالوسائل العسكرية وقد قدما بالفعل تضحيات كبيرة من أجلها. مع وجود مساحة أكبر قليلاً، يمكن مناقشة هذا باستخدام كلاسيكية كلاوزفيتز الكلاسيكية "من الحرب" (Vom Kriege) على غرار تمييزه بين الغرض من الحرب وأهداف الحرب. الهدف يعني ما نريد تحقيقه "بالحرب". والأهداف تصف ما نريد تحقيقه "في الحرب". من هذا يمكن للمرء أن يرى أن المعتدي، أي روسيا، كان لديه في البداية أهداف بعيدة المدى بينما كان يسعى لتحقيق هدف مركزي، ألا وهو القضاء على أوكرانيا كفاعل سياسي مستقل. من أجل جلب هذا المهاجم إلى طاولة المفاوضات، عليك أن تجعله يفهم أنه لا يستطيع تحقيق أهدافه، أو أن تحقيق هذه الأهداف سيكون مكلفاً للغاية وكارثياً لدرجة أنه قد ينهار كلاعب سياسي. لكن هذا يرقى إلى تعزيز قوّة أوكرانيا في البقاء، سواء كان ذلك عن طريق توريد الأسلحة أو، والأمر الذي لا يقلّ أهمية في النهاية، عن طريق ضمان القدرة المالية للدولة الأوكرانية.
كيف ينجح السلام التفاوضي ؟
عانى الجيش الروسي في غضون ذلك، من بعض الهزائم الخطيرة، لا سيما استعادة خيرسون، لذلك يمكن للمرء أن يفترض أن الروس سيكونون في الواقع مستعدين للتفاوض – مهما كان الأساس. ولكن كيف يمكن إقناع أوكرانيا بالتفاوض من جانبها، بينما تم أخذ جزء من البلاد منها، وهي في هذه الأثناء كانت تعمل بنجاح كبير وتستعيد الأرض كجزء من الهجوم المُضاد؟ لذا فإن السؤال هو: ما هي المساحة التي يجب استعادتها - من وجهة نظرنا كمراقبين لما يحدث، ولكن كداعمين لأوكرانيا أيضاً - حتى يتمكن القادة السياسيون في أوكرانيا من بدء المفاوضات؟ يبدو أن الألمان والفرنسيين يعتمدون على استعادة الوضع الراهن في 23 شباط/فبراير 2022. لذلك لا تشمل شبه جزيرة القرم أو المناطق الصغيرة من دونيتسك وليهانسك في استعادة الوضع الراهن. يختلف الموقف البريطاني قليلاً: فهو يهدف إلى إعادة أوكرانيا إلى الحدود التي نشأت فيها عام 1991. يتعلّق هذا بمذكرة بودابست لعام 1994: في هذه المذكرة، ضمنت أوكرانيا سلامة حدودها عن طريق نقل الأسلحة النووية التي تراكمت لديها إلى روسيا مع انهيار الاتحاد السوفيتي. ولقد وقع عليها الأمريكيون والبريطانيون وكذلك الروس والأوكرانيون. لكن نظراً لأن البريطانيين لم يفعلوا أيّ شيء جديّ عندما تمّ انتهاك المذكرة على نطاق واسع بضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، فإنهم على الأقل يتخذون اليوم موقفاً مختلفاً قليلاً وأكثر صرامة عن موقف الفرنسيين والألمان.
من ناحية أخرى، يبدو أنّ لدى الأمريكيين فكرة مختلفة تماماً، وهي فكرة حرب طويلة الأمد ضد ّروسيا بهدف استنزاف عمق الخدمات اللوجستية الروسية، والأهم من ذلك، لاستهلاك اتساع نطاق ضباطهم وبالتالي التأكد من أن الروس لن يكونوا قادرين على خوض حربٍ بهذا الحجم لمدة 15 إلى 20 عاماً القادمة. أدلى وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بتصريحات واضحة في هذا الاتجاه، كما أنّ بعض تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلينكين توحي بهذا التقييم.
فهل يعني ذلك أنه لن تكون هناك مفاوضات على الإطلاق في المستقبل المنظور؟ هذا لم يتقرر بعد. لكن ربما ليس الأمر بهذا السوء إذا كانت روسيا تعلم أنّ هذه هي الأهداف الأمريكية، لأن ذلك يزيد من احتمالية مواءمتها مع الأهداف الألمانية والفرنسية. لأنه إذا كان السادة في الكرملين لا يزال لديهم أي نوع من العقلانية الحسابية، فإنهم يدركون أنّ الحرب التي لا نهاية لها، ستؤدي إلى تطور سيكون كارثياً بالنسبة لهم. يجب عليهم إنهاء هذه الحرب قريباً، وإلا سيفقدون عمق لوجستياتهم وعمق قوتهم البشرية العسكرية.
لا يزال من الصعب القول كيف سينتهي الصراع في نهاية المطاف. لكن هناك أمر واحد واضح: لن تشارك كييف في مفاوضات السلام أو المفاوضات بشأن وقف إطلاق نارٍ مستقر إلاّ إذا أعطى الأوروبيون أوكرانيا ضمانات أمنية شاملة. يحتاج أصدقاء السلام الذين يطالبون بصوت عالٍ بـ "مفاوضات الآن!" إلى معرفة ذلك. إن إعطاء ضمانات أمنية يعني أنّه في المرة القادمة التي يهاجم فيها الروس- أو حتى الأوكرانيون- سيكون الأوروبيون أنفسهم طرفًا في الحرب.
العواقب على النظام العالمي
أخيراً، يجب فحص السؤال المتعلق بالنتائج العالمية التي يمكن أن تنبثق مما لوحظ بإيجاز. يُقال غالباً، إن كل هذا ما هو إلاّ مُجرد مشكلة أوروبية، وأن هناك العديد من المشكلات الأخرى في العالم، مثل تغير المناخ وانقراض الأنواع، والتي تعتبر أكثر أهمية من الناحية العالمية. لكن هنا خطأ في تقدير أبعاد الأحداث. لأنّ مفهوم خلق السلام باستخدام عدد أقل وأقل من الأسلحة، أي على أساس الترابط الاقتصادي المتبادل كأداة للتهدئة، لم يفشل فيما يتعلق بروسيا فحسب، بل في نفس الوقت انتهى الحلم بفرض نظام عالمي سلمي أوسع إلى حدّ كبير حيث يتم استبدال الحرب بمحاكم التحكيم. وهذا ينطبق على التهديد بفرض عقوبات اقتصادية أيضاً، والتي تعد بديلاً للحرب.
هذا المفهوم قد فشل على الصعيد العالمي. ربما ليس في 23 أو 24 شباط/فبراير 2022، ولكن ربما بالفعل مع الانسحاب من أفغانستان وما يرتبط به من التخلي عن مفهوم التحول الذي أصبح مكلفاً للغاية بالنسبة للغرب على المدى الطويل.
فشلت استراتيجية تهدئة التحول من خلال نقل الثروة في العالم الاِسلامي، لأن عقلية جزء كبير من السكان كانت محكومة بالدين. كان هذا ولا يزال الوظيفة السياسية للإسلام، لوضع قيم أخرى غير زيادة الرخاء. لقد أخر الدين المفهوم العالمي الشامل للغرب ليصح فعالاً. وأصبح في النهاية مكلفاً ومرهقاً للغاية؛ وكان الأوصياء، على سبيل المثال: وفوق كل شيء الولايات المتحدة غارقين. وإذا ألقينا نظرة فاحصة، فأن صيغة دونالد ترامب أمريكا أولاً، كانت بالفعل انصراف الولايات المتحدة عن دور الحارس لهذا النظام العالمي.
نظرة إلى المستقبل: خمس قوى عظمى تهيمن على العالم
لم يكن في الأصل، يُعتقد أبداً بأن الولايات المتحدة يجب أن تتولى هذا الدور، بل الأمم المتحدة. لكن الأمم المتحدة لا تتمتع بالقوة إلا بقدر استعداد دولها الأعضاء لإتاحة الفرصة لقدرات الأمين العام. وكان هذا الاستعداد منذ البداية محدوداً للغاية. ليس لدى الأمين العام للأمم المتحدة، حتى يومنا هذا، قوات احتياطية تحت تصرفه، يمكن استخدامها بشكل مستقل في حالة حدوث أزمة - كما هو منصوص عليه بالفعل في ميثاق الأمم المتحدة - ولكن يجب عليه أن يعتمد على الولايات المتحدة أو الجيوش ذات الحجم الكبير التي لا تتمتع بقوة قتالية حقيقية بتزويده بالقوات مع الخوذات مطلية باللون الأزرق، وفي قصورها تزيد من المشكلة بدلاً من حلها.
ونظراً لعدم وجود وصي على النظام العالمي اليوم، فلن يكون من الممكن فرض نظام عالمي موجه بشكل معياري أيضاً، فالنظام يعتمد على مثل هذا الوصي. البديل هو العودة إلى النماذج شبه الفيزيائية، أي التوازن وزيادة الوزن وما إلى ذلك.
لعلنا نقدم في هذه المرحلة، تنبؤ (تكهن) ختامي: من المرجح أن يتم تحديد النظام العالمي الجديد من قبل خمسة فاعلين. في تاريخ الأنظمة الدولية "خمسة" هو الرقم الذي يظهر دائماً عندما لا يتعلق الأمر بالترتيب أحادي القطب أو ثنائي القطب، وإنما الحديث حول نظام عالمي متعددة الأقطاب. مارس الإيطاليون هذا لأول مرة خلال القرن الخامس عشر في صلح لودي، وخمسة فعلوا ذلك في النظام الوستفالي بعد سلام مونستر وأوسنابروك أيضاً: الإمبراطور في فيينا وإسبانيا وفرنسا وإنجلترا، بالإضافة إلى السويد كقوى عسكرية كبرى. ولكن مع معركة بولتافا عام 1709، عندما هزم بطرس الأكبر الملك تشارلز الثاني عشر ملك السويد، والتي صعدت معها روسيا لتصبح قوة عظمى، انتهى تاريخ السويد كقوة أوروبية كبرى. حلت مكانها بروسيا، التي تم تنظيمها بطريقة مشابهة للسويد: لم تكن قوية اقتصادياً، ولكنها قوية بشكل خاص عسكرياً وكانت مشغولة بقضايا ومناطق مختلفة، خاصة في أمريكا اللاتينية، ولم تعد ترغب في لعب دور في السياسة الأوروبية. حلت محلها روسيا.
لذلك كان هناك خمسة لاعبين كبار مرة أخرى. وهكذا كان هناك دائماً خمسة أعضاء، تماماً كما هو الحال اليوم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بين الأعضاء الدائمين. وهم حريصون للغاية على عدم وجود المزيد، لأن ذلك سيضعف موقفهم من الفيتو.
من سيكون الخمسة الكبار؟
ولكن من سيكون الخمسة الكبار في النظام العالمي الجديد الناشئ؟ يكاد يكون من المؤكد أن الولايات المتحدة والصين على نفس المستوى. وهذا يعني أننا يجب أن نبتعد بسرعة عن فكرة أن العصر الأمريكي قد انتهى وأن عصر الصين قد بدأ. لن يكون هناك تسليم عصا السباق، كما حدث في الماضي من لندن إلى واشنطن أو نيويورك. ستشترك الولايات المتحدة والصين في موقع القوة الأولى. بجانبها، بصفتها شريكاً صغيراً للصينيين، من المفترض أن تكون روسيا. ليس بسبب قوتها الاقتصادية، ولكن لأن روسيا تمتلك أكثر من 50 في المائة من الأسلحة النووية في العالم. وكذلك أنظمة الناقل الضرورية. أيضا بسبب موقعها الجغرافي السياسي أيضاً، أي الجسر البري لشمال آسيا.
يمكن أن يكون الأوروبيين جزءاً منها أيضاً، كشركاء صغار للولايات المتحدة الأمريكية، يعتمدون على المظلة النووية الأمريكية، أو حتى بشكل مستقل إذا كان لديهم المكون النووي الخاص بهم. ومع ذلك، لا يمكن التعرف على هذا في الوقت الحالي. لكنه سيكون سؤالاً مثيراً بالفعل: هل سيبني الأوروبيون مكونهم النووي بحيث لا يعودوا "خاليْ الوفاض "فارغين" عندما يقوم آخرون، مثل بوتين الآن، بإدخال هيمنة التصعيد النووي؟ أم سيتركونها؟ هذه قضية متفجرة مستمرة، لا سيما في ضوء احتمال رئاسة دونالد ترامب أو رون ديسانتيس واحتمال فصل الولايات المتحدة عن أوروبا.
وفوق كل ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان الأوروبيون سينجحون في التحول، من مجرد مدراء حكم إلى لاعب فاعل سياسياً جيوستراتيجياً؟ يمكن للمرء أن يقول إن لجنة فون دير لاين تتخذ الخطوات الأولى في هذا الاتجاه. لكن هذا صعب للغاية. وربما ستنجح على أي حال فقط، إذا كانت هناك مجموعة أخرى من الفاعلين في السياسة الخارجية داخل الاتحاد الأوروبي، وهي عبارة عن أحد الدوائر التي ما زالت ناقصة. برلين، باريس، مدريد، وارسو، وربما روما أيضاً. وعدد قليل من الآخرين. ربما سيكون بعد ذلك فاعلاً قادراً على العمل ولن يتم حظره من قبل لاعب الفيتو أو قاعدة الإجماع.
حافز الأوروبيين للانخراط هو إعادة هيكلة النظام العالمي، وبالتحديد السؤال: هل تلعب أوروبا دوراً في هذا أم لا؟ إذا لم يدير الأوروبيون هذا التحول، فإن أوروبا لا تهم، إنها مجرد كائن - وليس موضوعاً للتطور. ثم تدخل قوة أخرى بدل أوروبا في نظام الخمسة.
ستلعب الهند وهي الخامسة من الخمسة الكبار، دور "قالب للموازين" وهو ما تقوم به بالفعل. فمن ناحية، تروج نفسها باعتبارها أكبر ديمقراطية في العالم، أو على الأقل من حيث العدد. لكن من ناحية أخرى، هي خلف ذلك الوجه القبيح للقومية الهندوسية. وفي الوقت نفسه، لا تؤيد الهند العقوبات ضد بوتين، لكنها منفتحة على جميع الأطراف. يتم تنظيم هذه الدول الخمس الكبرى بدورها: من ناحية الدول الدستورية الليبرالية، أوروبا والولايات المتحدة، ومن ناحية أخرى الأنظمة الاستبدادية، السلطوية الاستبدادية في روسيا، والسلطوية التكنوقراطية في الصين. حتى في العلاقة ذات الاتجاهين، هناك أزمة عرضية، ولن تكون صداقة خالصة - لا بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ولا بين الصين وروسيا.
ضمن هذا النظام العالمي الجديد، مهام البشرية - تغير المناخ، انقراض الأنواع، الجوع في الجنوب العالمي، الهجرة – سيتم تنحيتها وتصبح ورقة المساومة لهؤلاء الخمسة. تماماً مثلما فعل الصينيون لفترة طويلة، على سبيل المثال في مؤتمر المناخ في شرم الشيخ في مصر في نوفمبر 2022: نعم، نحن نزيد من استعدادنا لمواكبة قضايا سياسة المناخ، ولكن فقط بشرط أن ترفع العقوبات عنا وتستمرون في تصنيفنا كدولة نامية. إذا كان الأمر مهما بالنسبة لكم، فعليكم أن تقدموا شيئاً مقابل ذلك، وهذا ما تبدو عليه ألعاب التفاوض. لذلك هذا لا يعني بالضرورة أن حماية البيئة أو تغير المناخ ستكون أسوأ حالاً. هذا يعني فقط أن الجهات الفاعلة تتحول والمنظمات غير الحكومية التي هيمنت حتى الآن تهبط إلى المستوى الثاني.
على الصف الثاني يتوقف الأمر
وفي كل هذا فإن "الصف الثاني" سيصبح مهمًا بشكل متزايد - وهو موضوع عمل عليه عالم السياسة الهندي الأمريكي باراغ خانا. يشمل سؤال المستوى الثاني كل أولئك الذين ليسوا في الخمسة الكبار: أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، وأجزاء من آسيا. مع من يذهب الصف الثاني؟ هذا سؤال حاسم للمستقبل. دعا المستشار أولف شولتز عمداً رؤساء دول وحكومات الهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا والأرجنتين إلى اجتماع G7 في إلماو في حزيران /يونيو 2022 ، من أجل تقريبهم من الغرب. ثم رد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف على ذلك في الأمم المتحدة في نيويورك وقال إنه من الطبيعي أن يضمن الروس الحماية لجميع الدول الممكنة. لكن في قمّة مجموعة العشرين في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، لعب موقف إندونيسيا المضيفة دوراً مهماً للغاية في إدانة روسيا في القرار النهائي. الصف الثاني، بتفضيلاته الغامضة وغير المحددة جيداً، هو العنصر المضطرب داخل هذا النظام المكون من خمسة - مع التشكيل الذي يتكون من اثنين إلى اثنين والهند تقلب الموازين. مع من تذهب البرازيل في المستقبل؟ مع من يذهب الأفارقة؟ مع من تسير جمهوريات آسيا الوسطى؟ وبالطبع ستعود مسألة مناطق النفوذ مرة أخرى. أو بعبارة أدق: لقد عادت منذ فترة طويلة، على سبيل المثال في استراتيجية طريق الحرير، التي أوجدت بها الصين مناطق نفوذ كبيرة. لا تستطيع روسيا أن تفعل ذلك لأنها لا تملك المال الكافي. عليها دائما أن تلجأ إلى الوسائل العسكرية. تعتبر حرب أوكرانيا في هذا الصدد، وسيلة لتأمين مناطق النفوذ أيضاً. وهذا شيء سيفعله الآخرون في النهاية أيضاً. كل هذا ليس ممتعاً للغاية. لكن من الضروري أن نستعد الآن لما يمكن أن نتوقعه في المستقبل. أولئك الذين لا يفعلون هذا سيصبحون بأي حال هم الخاسرون من التغييرات التي تحدث الآن.
- Herfried Münkler, von Putin bis Erdogan: Wie pazifiziert man die Revisionisten?
Die Rückkehr der Geopolitik nach Europa, Blätter für deutsche und internationale Politik1‘23
hamidfadlalla1936@gmail.com